البعد المفقود في الدراسات الدينية وليام جراهام

البعد المفقود في الدراسات الدينية

كتاب الشهر
عرض وتحليل: الدكتور نصر حامد أبو زيد

تنبه المؤلف لأهمية البعد الذي تمثله الوظائف الشفاهية والسمعية للنصوص الدينية عندما زار مصر لأول مرة منذ عشرين عاما في شهر رمضان وشاهد الحضور المكثف لتلاوة القرآن ليلا ونهارا لا في المساجد فقط ولكن في المحلات والحافلات وسيارات الأجرة.

يعد الكتاب الذي نحن بصدد مناقشة بعض جوانبه كتابا عن درجة عالية من الأهمية بالنسبة لدارسي الأديان عموما، ولدارسي الدين الإسلامي من حيث تجلياته ومظاهره في الحياة الاجتماعية اليومية للمسلمين على وجه الخصوص. الكتاب عنوانه "ما وراء الكلمة المكتوبة: الجوانب الشفاهية للنصوص الدينية في تاريخ الأديان" لمؤلفه وليام جراهام. وهو صادر عن منشورات جامعة كامبريدج بنيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية، صدرت طبعته الأولى عام 1987 (طبعة الغلاف السميك)، ثم صدرت طبعة الغلاف العادي في شهر مارس عام 1993، وهي الطبعة التي نعتمد عليها في هذه المناقشة.

وتعود أهمية الكتاب إلى أنه يلفت أنظار الباحثين إلى أهمية البعد الشفاهي التداولي للنصوص الدينية، وهو البعد الذي يتمثل في عمليات الحفظ والترديد والإنشاد في الصلوات والشعائر الفردية والاجتماعية، كما يتمثل إلى جانب ذلك في الفنون الإيقاعية والبصرية والسمعية التي تنبثق عن التوظيفات العديدة للنصوص الدينية. لعل فن "التجويد" بالنسبة لتلاوة القرآن وترتيله مثال واضح على علاقة بعض وظائف النص الديني بفنون الإيقاع والموسيقى. والعلاقة بين النص الديني في الإسلام- القرآن الكريم- وبين فنون الرسم والتصوير تبرز واضحة من خلال تركيز الفنان العربي على الاعتناء بالخط بدءا من رسم المصحف حتى اللوحات الخطية التي تملأ بيوتنا بآيات قرآنية في أشكال وتشكيلات بصرية متنوعة. هذا بالإضافة إلى أن فنون الزخرفة والنمنمة- وهي ما يعرف باسم "الأرابيسك"- وجدت ميلادها الأصلي في زخرفة المصحف ونمنمة صفحاته.

يبدأ المؤلف كتابه بطرح السؤال: ما هو النص الديني؟! والهدف من طرح السؤال هو إعادة النظر في التعريف الشائع والمألوف والمستقر، خاصة في سياق التراث الغربي الأوربي، والذي يشير عادة إلى النصوص التي دونت أو التي أخذت شكلا طباعيا. إن كلمة scraipture (الكتاب المقدس) تشير من خلال الدلالة الاشتقاقية للمصطلح إلى ما أصبح مكتوبا مدونا مطبوعا، وهذا هو الذي يجعله مقاربا لمصطلح "المصحف" في التراث العربي الإسلامي للدلالة على النص المكتوب المدون دون الشفاهي/ السمعي المتداول. وإذا كان مصطلح "القرآن" يشير في التراث العربي الإسلامي إلى هذا البعد الشفاهي الغائب في مصطلح "الكتاب المقدس"، فإن هذا المفهـوم غائب تماما في المصطلح الغربي الأوربي.

وإذا أضيف إلى ذلك أن كل النصوص المقدسة- بما فيها التوراة والأناجيل- بدأت رحلتها بالتداول الشفاهي ثم تم تدوينهـا في مراحل متأخرة من تاريخها، وذلك باستثناء "القرآن" الذي يمثل حالة فريدة من حيث إن تدوينه تم منذ البدايات الأولى والباكرة جدا في تاريخه، فإن إعادة النظر في المفهوم- مفهوم النصوص الدينية- تصبح أكثر إلحاحا. هكذا يطرح المؤلف مفهوما لا يتجاهل طبيعة الوظائف الشفاهية / السمعية للنصوص الدينية، وهو المفهوم الذي يسميه المفهوم "العلائقي".

ويعتمد هذا المفهوم في جوهره على اعتباره "العلاقة" بين النص أو النصوص المعنية وبين الجماعة أو الجماعات التي تؤمن به وتعتقد في قداسته. إن "كتابا" ما يعد نصا مقدسا إذا اعتقد في قدسيته وآمن بمصدره المتعالي مجموعة من الأشخاص أو الجماعات، واعتبروه نصا يمتلك سلطة عليا تميزه عن أي نمط آخر من الخطاب أو الكتابة. ومعنى ذلك أن "قدسية" النصوص ليس منبعها إقرار رجال الدين ولا ممارساتهم، وليس مصدرها كذلك أي قرارات كهنوتية (كنسية) بأي معنى من المعاني، بل تستمد هذه القدسية قوتها من تفاعل الأشخاص أو الجماعات مع نص ما أو مع مجموعة من النصوص. ليس ثمة نص يملك في ذاته- أي اعتمادا على "نصيته" وحدها- حق الزعم بأنه "كتاب مقدس".

وهذا المفهوم يفضي إلى التفرقة المنهجية بين نمطين من الدراسة في مجال تحليل النصوص: النمط الأول دراسة النص بوصفه كتابا مقدسا، والنمط الثاني دراسته بوصفه "وثيقة". في النمط الأول يجب أن تركز الدراسة على المعنى العلائقي السياقي الناتج عن تفاعل الجماعة مع ذلك النص. وبعبارة أخرى يجب على الدراسة أن تركز على أسئلة مثل: ماذا يعني النص بالنسبة للجماعة التي تؤمن به؟ كيف تفسره؟ وكيف توظفه في كل جوانب حياتها؟ إن هذا النمط من الدراسة يهتم بالدور الحيوي الدائم الذي يؤديه النص في تراث جماعة بعينها: وذلك دون الاهتمام فقط بالتفسير الرسمي الذي يقدمه رجال الدين، بل بالاهتمام كذلك بعملية انتشار تأثير النص في كل جوانب الحياة الإنسانية للجماعة التي يمثل النصر بالنسبة لها نصا دينيا مقدسا. أما النمط الثاني الذي يدرس النص الديني برصفه "وثيقة" فتقتص الدراسة في هذا النمط على التركيز على الخلفيات التاريخية: أي نشأة النص وتطوره بمراحله المختلفة، ولا اهتمام لهذه الدراسة بالوظائف التي يؤديها النص أو النصوص- في حياة الجماعة من حيث تعددية سياقاتها وتعقد علاقاتها بالنص.

الشفاهية في التراث العالمي

من خلال هذا المفهوم يدرس الكتاب مفهوم النصوص المقدسة في التراث الإنساني، مركزا على التراث الغربي والهندي والإسلامي بصفة خاصة. والهدف من الدراسة هو الكشف عن تلك الأبعاد الشفاهية / السمعية التي تقوم بالوظائف الحسية التي تم تجاهلها بسبب تركيز المفهوم الغربي الأوربي على بعد "الكتابة" و "التدوين" كما سبقت الإشارة. لهذا يبدأ الكتاب في بابه الأول بمناقشة ذلك المفهوم الغربي تفصيليا، وذلك تحت عنوان "الكلمات المنطوقة والكلمات المكتوبة". وينقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول يناقش كل منها جانبا من جوانب الإشكالية. ففي الفصل الأول "الكتابة والثقافة المكتوبة" يستعرض المؤلف المفهوم الأوربي الغربي ويناقش تركيز هذا المفهوم على بعد "الكتابة" وإهدار بعد "الشفاهية". وفي الفصل الثاني "النصية الطباعية للثقافة الحديثة" يتعرض لمناقشة تأثير الطباعة على الميل الغربي الحديث تجاه الكتب والنصوص المكتوبة بصفة عامة، حتى أصبحت الحياة تعتمد عليها اعتمادا كليا، كما يتبدى ذلك في الصحافة والتقارير والمواثيق والعهود والاتفاقيات. لقد صارت النصوص "المطبوعة" هي أداة التعامل الوحيدة في الثقافة الحديثة، وهذا من شأنه أن يعلي من شأن "الكتابي" على "الشفاهي"، وكذلك من شأن "البصري" على "السمعي". وفي الفصل الثالث والأخير من الباب الأول" الكتب والقراءة والتعلم في الثقافة قبل الحديثة "يكشف المؤلف كيف كانت المجتمعات الغربية- قبل عصر الطباعة- مجتمعات شفاهية أكثر منها كتابية، حيث كان التداول الشفاهي للكتب في عمليات التعلم والتعليم هو الأساسي رغم وجود الكتب في شكلها المدون.

وينتقل المؤلف في الباب الثاني من الكتاب لإبراز هذا البعد الأخير- بعد التداول الشفاهي- في الثقافة الغربية وذلك تحت عنوان "عن النص الديني: المنطوق والمكتوب" مركزا على مراكز البعد في تداول النصوص الدينية في كل من اليهودية والمسيحية من جانب، وفي الديانات الهندية ونصوصها من جانب آخر، وذلك لإبراز أن مفهوم النصوص المكتوبة الصامتة مفهوم أحدثته التطورات الحديثة بعد عصر الطباعة، ولكنه ليس صحيحا بالنسبة للتاريخ الفعلي للنصوص الدينية. في الفصل الرابع "النص الديني من منظور يهودي مسيحي" يكشف المؤلف عن جذور وأسباب التركيز على العنصر الكتابي في المفاهيم اليهودية والمسيحية للكتاب المقدس، بينما يبرز في الفصل الخامس "الكتاب المقدس والكلمة المقدسة" أن الممارسة الفعلية في التراثين تبرز أهمية البعد الشفاهي وذلك في تعارض مع المفهوم النظري الكتابي. وهذا الجانب الخاص بأهمية البعد الشفاهي في الممارسات الدينية في الحياة الدينية ينكشف تماما من خلال تحليل المؤلف لعناصر التداول والتوظيف الشفاهي للنصوص الدينية في التراث الهندي، وذلك في الفصل السادس والأخير من هذا الباب الثاني "النص الديني بوصفه كلاما منطوقا".

.. وفي التراث الإسلامي

هذا هو موضوع الباب الثالث من الكتاب، والذي يمثل حجر الزاوية في تشكيل المفهوم العلائقي الذي يتبناه المؤلف، ويدعو كل دارسي الثقافة الدينية إلى تبنيه. هذا المفهوم مطروح بشكل واضح في التراث الديني الإسلامي من حيث تساند عناصر الكتابة والشفاهية في مفهوم النص عن ذاته أولا بوصفه "كتابا" و "مصحفا" من جهة، وبوصفه "قرآنا" من جهة أخرى، وهو مطروح في الممارسات الدينية في التعامل مع النص في الحياة الدينية الاجتماعية للمسلمين. في هذا الباب الثالث "القراءة العربية: القرآن كتاب مقروء" يتناول المؤلف ثلاث قضايا كذلك في الفصول الثلاثة التي تندرج تحت هذا الباب. تلك القضايا هي على التوالي: "الوحي ترتيل" و "النص الإسلامي كلام منطوق (قرآن)" وقراءة القرآن ومشكلة المعنى"، والخلاصة التي ينتهي إليها المؤلف من تحليل هذه القضايا أن هناك أوجه تشابه بين مفهوم التراث الإسلامي للنص الديني وبين المفاهيم الموجودة في التراثين الأوربي الغربي والهندي، ولكن هناك أيضا أوجه اختلاف. إن مفهوم التراث الإسلامي يتشابه مع المفهوم الهندي في جانب التركيز على البعد الشفاهي / السماعي، ولكن يختلف مع هذا المفهوم في عدم الفصل بين الشفاهية / السماع والتدوين / الكتابة. لقد ظل القرآن موضوعا للتركيز والاهتمام من كلا جانبيه. هذا الجانب الكتابي / البصري في النص الإسلامي هو الذي يمثل وجه الشبه بين المفهوم الإسلامي والمفهوم اليهودي والمسيحي، وإن كان يختلف معهما في جانبه الشفاهي / السمعي. هذا الجمع بين الجانبين في مفهوم التراث الإسلامي، في حين انفرد كل تراث آخر بجانب واحد فقط من جانبي المفهوم الإسلامي، هو الذي يميز التراث الإسلامي من حيث إنه التراث الذي يبرز المفهوم العلائقي الذي يطرحه المؤلف.

ورغم أن الاتصال بين التراثين الإسلامي والغربي المسيحي اليهودي هو الأقدم تاريخيا فإن المفهوم اليهودي المسيحي للنصوص الدينية لم يبدأ في التعرف على مفاهيم أخرى للنصوص المقدسة إلا من خلال الوعي المتنامي بالتراث الديني الهندي- والكلاسيكيات الصينية إلى حد ما- مع بداية القرن الثامن عشر. من المستغرب- كما يقول المؤلف- أن مفهوم النص المقدس بوصفه نوعا مستقلا، وهو المفهوم الموجود في التراث الإسلامي منذ بداياته الأولى، لم يمارس أي تأثير ملموس في المفهوم التقليدي الغربي للكتاب المقدس، أم لعل الموضوع لم يدرس دراسة دقيقة تتتبع مسارات هذا التأثير بعد. إنه من المهم جدا والمفيد- فيما يرى المؤلف- قيام دراسة تتتبع أثر الاتصال الذي وقع بين التراثين الإسلامي والغربي، والذي يعود مبكرا إلى العصور الوسطى، لاكتشاف أي مقارنات يمكن أن تكون قد انعقدت بين حقيقة، امتلاك المسلمين "كتابا" وامتلاك المسيحيين "كتابا" يتمتع كل منهما بنفس مستوى القداسة في التراثين. وهذه الدراسة يمكن أن تكشف عن عناصر التأثير المبكرة قبل تعرف التراث الغربي على التراثين الهندي والصيني، وإن كان ذلك لا يقلل من حقيقة أن التعرف على التراثين المذكورين هو الذي حدد تحول منظور التراث الغربي لمفهوم "الكتب المقدسة".

ولعل الدراسة التي يقترحها المؤلف تكشف- إلى جانب عناصر التأثير المتجاهلة- أسباب هذا القصور في تأثير المفهوم الإسلامي، وهي أسباب ربما يمكن تفسير أغلبها من خلال طبيعة العلاقة العدائية التي تعامل بها التراث المسيحي الغربي، ممثلا في كتابات كثير من رجال الدين والقساوسة ضد الإسلام وضد نبي الإسلام. وهي كتابات تعد انعكاسا لحقيقة أن اللقاء في بداياته- بدايات التعرف- كان لقاء حرب وصدام، وهي بدايات سجنت الفكر في دائرة هذا "العداء" الذي لم يتخلص منه إلا بعد ذلك بأمد طويل: على عكس ذلك كان اللقاء الأول للتراث الإسلامي بالتراث المسيحي لقاء فكريا من خلال التفاعل الاجتماعي أولا والتفاعل الفكري الشخصي بين المفكرين، ذلك التفاعل الذي يمتد عميقا ربما إلى فترة ما قبل الإسلام في اليمن ويثرب. وشخصية "ورقة بن نوفل" وما تمثله في التراث العربي الإسلامي من أهمية خير دليل على البدايات الأولى لعلاقات اللقاء والتفاعل "السلمية" مع المسيحية بصفة خاصة. وهي علاقات وجدت تعبيرا عنها في النص القرآني ذاته الذي تحدث عن المسيحيين في علاقتهم بالمسلمين على نحو إيجابي بوصفهم "أقربهم مودة" للذين آمنوا، لأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. لكن ذلك يعني التقليل من أهمية الدراسة التي يقترحها المؤلف لتتبع مسارات هذا التأثير المجهول حتى الآن.

أهمية الشفاهية

يعود المؤلف في الباب الرابع ليؤصل المفهوم العلائقي للنص الديني في التراث الغربي، وذلك بالعودة إلى مرحلتين تاريخيتين في التراث المسيحي تبدوان متعارضتين من زاوية التركيز على الشفاهية والتركيز على التدوين والكتابية. هاتان المرحلتان هما مرحلة المسيحية الصحراوية- الرهبانية- في مصر في القرنين الثالث والرابع، والمرحلة الثانية هي مرحلة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر كما تتجلى في كتابات زعيم الإصلاح "مارتن لوثر". تحت عنوان الباب: "التلفظات الحية للرب: الكتاب المقدس كلمة منطوقة" يتناول المؤلف في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب، أولا، البعد الشفاهي للنص في التراث المسيحي كله من حيث هو الوجه الأخر للبعد الكتابي التدويني في هذا التراث. وهذا موضوع الفصل العاشر "الكلمة المنطوقة في الكتابة المقدسة المسيحية". وفي الفصل الحادي عشر "كلمة الرب في الصحراء" يركز المؤلف- ثانيا- على تحليل الممارسات التعبدية والشعائرية والسلوكية في نظام الرهبنة المصري، كما تبرز في تعليمات الآباء الأول خاصة القديس باخوم (ت: 347 م) واتباعه في صعيد مصر، وكذلك في سيرة وكتابات القديس أنطونيوس (ت: 356 م). وفي الفصل الثاني عشر والأخير من الكتاب، يتناول المؤلف- ثالثا- كتابات "مارتن لوثر" بالتحليل، كاشفا عن الاهتمام الواضح بالبعد الشفاهي للكلمة الإلهية، وذلك تحت عنوان "السماع والأبصار: بلاغة مارتن لوثر".

وفي الخاتمة يطرح المؤلف مجموعة من الملاحظات والأسئلة التي تفتح آفاقا لدراسات كثيرة تنطلق من المفهوم: العلائقي للنص الديني، وهو المفهوم الذي يضم بعـدي النص الـديني الكتـابي / البصري الشفاهي/ السماعي دون أن يعطي لواحد منهما أولية أو أسبقية على الأخر. في ظل هذا المفهوم يمكن التشكيك في مدى مشروعيـة- ناهيك بمعيـارية- المفهوم الغربي الحديث المعاصر للنصوص الدينيـة، خاصـة في ضوء النظرة التاريخية الأوسع التي تناولها الكتاب.

وثمة تساؤل آخر يطرحه المفهوم العلائقي من حيث إنه يفتح السبيل لدراسة عمليات التوظيف ذات الأبعاد المتعددة للنصـوص المقـدسـة في الحياة الاجتماعيـة للمؤمنين والتسـاؤل الذي يستحق دراسات مستقلة هو ما مدى الترابط الذي يمكن الكشف عنه من خلال المنهجية المقترحـة بـين حركات الإصلاح الـديني الحديثة والمعـاصرة- إسـلامية أو مسيحيـة أو هنـديـة- وبين التـوظيف الشفاهي / السمعي المشـار إليه. إن مفهوم "العـودة إلى الأصول" مفهوم واضح في كـل الحركـات الـدينية سواء سميـت "أصوليـة" أو سميت بأسماء أخرى. وهذه الدعوة تفترض أن الحيـاة تباعدت بدرجة أو بأخرى عن "الأصـول" المقدسـة للجماعة كـما تتمثل في النصـوص الـدينية. وهذا الافتراض يعني بـدلالـة المخالفة الحاجة إلى إعادة الحياة لتلك الأصول في شرايين الحياة بكل تفاصيلها، وليس الحياة الدينية فقط. وهذه العملية لا يمكن تحقيقهـا من خلال الدراسـات النصية التفسيرية والتأويلية للنصوص الدينية بوصفها نصوصا مـدونـة فقط، بل لا تتحقق إلا بتوظيف- أو بـالأحرى إعـادة التـوظيـف- كـل عنـاصر التـداول الشفاهي/ السمعي والكتـابي/ البصري بطرق عـديـدة تستخدم كل إمكـانات التداول الإعلامي الحديثـة جدا من إذاعـة مسموعـة ومرئية وشرائط كـاسيت مسمـوعة ومرئية ولـوحـات خطية ومصنـوعـات وأزياء (دينية) وأنـاشيد وأغان (دينية) وأفـراح ومآتم (دينيـة) بحيث ينسرب البعد الـديني في كـل التفـاصيل الاجتماعيـة والفردية. ولعل هـذا التسـاؤل الأخير يحرك بواعث الباحثين للاهتمام بهذا البعد في دراساتهم، التي تركز في غالبهـا على البعد التأويلي للنصوص المكتوبة في ممـارسـات تلك الحركـات، أي أنها تركـز على الكتـابي وتهمل الشفاهي تماما.

ومعنى ذلك كله أن الكتاب يتحرك في خاتمته لطرح بعض الإشكـالات النظريـة التي يجب على البـاحثين الاهتمام بها، إذ يجب أن نتسـاءل بوصفنا دارسي أديـان عن فداحة التقصير الذي نرتكبه في حق مجال دراستنا، بل وفي حق أنفسنا كباحثين، حين نتجاهل، أو نقلل من شأن الأبعـاد الحسية للحيـاة الـدينية، تلك الأبعـاد التي تتجلى في العناصر الحسيـة المثيرة للمشاعر الـدينية والمحـركـة لها، ليس فقط في الشعـائر والعبادات والممارسـات الطقسية الاحتفـالية كالـذكر والـدعاء والابتهـال، بـل في مـا وراء ذلك من أبعـاد تتمثل في المعطيات المادية والفيزيقية ذات الدلالات الدينية. إنها كل المعطيات التي تـركها دارسو الأديـان لمؤرخي الفنون وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، ودارسي الموسيقى دون أن تكون دراساتهم مدعمة بتلـك الدراسات المشغـولة أساسـا بتأويل وتفسير الفكر والسلوك الـدينيين. وهنا نصل إلى نتيجـة تكشف عن خطـورة التقصـير الـذي وقعنا فيه نحن دارسي الأديان ومحللي الثقـافة الـدينية- وهي أننـا لم نسقط من مجال اهتمامنـا ودرسنا البعـد الشفـاهي وحـده ونحن نصـوغ مفهـوم "النصوص الدينيـة"، بل أسقطنا كـل مـا يتعلق بالحياة الدينية في تركيـزنا على النص المدون المكتوب. إنـه التقصير الذي يتحتم علينـا أن نعـالجه على الفور من خـلال المفهوم العلائقي الـذي وجد أولا- ولا يزال مـوجودا- في التراث الإسلامي، وفي الحياة الدينية الإسلامية.

 

وليام جراهام

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات