وماذا عن أطفال الأنابيب؟ شفيق السيد صالح

وماذا عن أطفال الأنابيب؟

في أحيان كثيرة يؤدي عدم المعـرفة إلى تشـوش كبير في تقدير أمـور تتعلق بصحة الإنسان وآليات تواصل الحياة والأجيال. من بين هذه الأمور موضوع أطفال الأنابيب الذي يوضح ملامحه هذا المقال.

منذ خمسة عشر عاما حبس العالم أنفاسه وهو يترقب ميلاد أول طفل أنـابيب. وما أن أطلقت الطفلة "لويز براون" أول صرخـة لها في الحيـاة حتى خـرج الطبيبان الكبيران: باتريك ستبتو وروبرت إدواردز يزفان البشرى إلى كل أرجاء المعمورة.

وانهالت الأسئلة على الطبيبين: هل الطفلـة طبيعيـة؟ هل وزنها معقول؟ ألا توجد بها تشوهات خلقية؟ وكانت الإجابات كلها تفيد أن "لويز" بنت طبيعية مثل سائر بنات الدنيا.

ومنذ ذلك التاريخ، تاريخ تلك الثورة العلمية، لم تكـف المعامل وأرباب التكنولوجيا وأطباء النساء والولادة والغدد الصماء، وكل ماله علاقة من قريب أو بعيد بالعقم عن تطـويـر أدواتهم وتحسين نتائجهم ومفـاجأة العالم كل يوم بكشف جديد في هذا المضمار.

إن ميلاد "لويـز براون" أول طفل أنابيب في العالم لم يأت خبط عشواء بين عشية وضحاها بل كان ثمرة تراكم المعارف البشرية منذ قرون طويلة.

كان القدماء قبل عصر النهضة يعتقدون أن المرأة ليس لها دور إيجابي في عملية التنـاسل وإنما هي مجرد وعاء يستقبل ما يجود به الرجل من عصارة ذكرية. وكان الاعتقاد أن هذه العصارة الذكرية تحمل في ثناياها كل مقومات الإخصاب وما على المرأة إلا احتضانها داخل الرحم مدة تسعة أشهر.

وأرشيف كلية الطب بباريس مليء برسائل الدكتوراه من القرنين العـاشر والحادي عشر الميـلاديين والتي تؤكد دور الرجـل الأوحد في عملية الإنجـاب. وهناك أبحاث تعود إلى نفس التاريخ تتحدث عن كيفية إنجـاب الذكـور أو الإناث وتقول إن العصارة الذكرية إذا كانت قادمة من الخصية اليسرى فإن المولود يكـون أنثى، وإذا أتت من الخصية اليمنى يكون المولود ذكرا. أما مسألة العقم فكانت من نصيب المرأة فقط حيث كـانوا يـؤمنون بأن عـدم الإنجاب يعود أساسا إلى عيب في استقبال المرأة للعصارة الذكرية.

رد اعتبار المرأة

ظلت هذه المعتقدات سائدة حتى تم اختراع الميكـروسكوب في القـرن الخامس عشر الميـلادي. عندها انقلبت المعارف رأسا على عقب. بـدأت أولا بـاكتشـاف الحيوانات المنوية والتحقق من أن الخصيتين تفرزان نفس السائل دون تمييز بينهما. وتم اكتشاف سوائل خالية من الحيوانات المنوية، وعلم الناس أن العقم قد يصيب الرجال أيضا. كـانت تلك هي المفاجأة الأولى. أما الثانية فكـانت أشد دويا، ألا وهي اكتشاف البويضة ودورهـا الأساسي في الإخصـاب بالتسـاوي مع الحيوان المنوي. وتيقنت المرأة أن أبناءهـا هم جزء منها، يحملون صفـاتها الوراثية بالمشاركـة مع أبيهم. وأصبحت نظرية "الوعاء" أثرا بعد عين.

عصر الهرمونات

ظلت معظم مشـاكل العقم بنوعيه الذكـري والأنثوي تدور في أروقة معامل الأبحاث والتشريح دون إيجاد حلول عملية حتى العقود الأولى من القرن العشرين عندما تم اكتشاف الهرمـونات ودورهـا في عملية التبويض أو في إفـراز الحيوانات المنوية. ثم لم يلبث العلم أن قطع أشواطـا بعيدة في تحضير الهرمونات صناعيا والتي نجحت في التغلب على كثير من حالات العقم الناجمة عن ضعف التبويض.

بقيت هناك مشكلتان رئيسيتان، الأولى حالات انسداد القنوات (قناة فالوب) التي يلتقي فيها الحيوان المنوي بالبويضة داخل جسم المرأة. والثانية حـالات العقم الذكـري الناتجة عن ضعف الحيوانات المنوية الشديد أو قلة عددها.

بالنسبة للمشكلة الأولى لم تكن هنـاك وسيلة غير الجراحـة والتي تطـورت كثيرا بعـد إدخـال الميكـروسكـوب الجراحي وأشعـة الليزر ومنظار البطن، وحدثت نجاحات لا بأس بها، لكن حالات الفشل تظل هـي الأغلب والأعم خصوصا في حالات الالتهابات الشديدة والالتصاقات الكثيفة.

أما بالنسبة لحالات عقم الرجال فكان الأكثر صعـوبة وإحباطا، نظرا لأن هرمونات الرجل ليست لديها الصفة الدورية مثل المرأة ومن ثم يصعب التحكم فيها.

بداية عصر الأنابيب

كان الأطباء البيطريون من أوائل الذين تعاملوا مع الخصوبة من الناحية المعملية، وذلك بغرض تحسين السلالات والحصـول على أجناس أكثر صحة وإنتاجا.

والتقط الأطباء البشريون فكـرة التلقيح الصناعي بحقن الحيوانات المنوية داخل الرحم للتغلب على مشاكل التهابـات عنق الرحم أو عدم كفايتـه أو لإفرازه أجسـامـا مضادة تقتل الحيوانـات المنويـة أو بسبب ضعف هذه الحيوانات التي لا تستطيع قطع المشوار الطويل من المهبل إلى قناة فالوب.

إلا أن من الـواضـح أن هـذه الطريقـة لا تصلح في حالـة انسداد القنوات مما يحول دون اللقاء المرتقب بين البـويضـة والحيـوان المنوي. فنشأت فكـرة أن يتم هـذا اللقاء خارج الرحم، في المعمل، داخل أنبـوبـة (حسب الاصطـلاح الشائع) وهو ما يعـرف بين الناس بأطفـال الأنـابيب أو علميـا بالإخصـاب خارج الجسـد . I. V. F وسرعان ما أصبح الإخصاب خارج الجسد هـو الوسيلـة المثلى. لعلاج حالات أخرى كثيرة بخلاف انسـداد القنوات وإنـما تعـداهـا إلى عقم الرجـال وحـالات العقم المناعي وخلل الهرمونات الذي لم تفلح معـه الطرق التقليدية.

الطريق إلى الجنين

بعد أن يستقر الطبيب والزوجـان على العـلاج بأطفـال الأنـابيب تبـدأ المرحلـة بتعميق الثقـة والألفة بين أعضاء الفريق الثلاثـة وتفهم الزوجين الكامل لمراحـل العلاج ونتـائجـه، مع القيـام بالتحليلات الأولية اللازمة.

* المرحلـة الأولى: تهدف إلى الحصول على بويضات ناضجة من المبيض. وفيها تتناول الزوجة أنواعا معينة من الهرمونـات بغرض تنشيط المبيـض لمدة تتراوح بين 10 إلى 15 يوما تبعا لاستجابتها. وعندما يقدر الطبيب المعالج أن الوقت قد أصبح مناسبا لالتقاط البـويضات (بعـد تحليل الهرمونـات والأشعة فـوق الصوتيـة) يحدد اليـوم والسـاعة المفترضة لهذا الالتقـاط الذي يتم في سهولة ويسر بواسطة الموجات فوق الصوتيـة وتغادر الزوجة المستشفى فور انتهاء العمليـة. في هذه الأثناء يكون الزوج قد أعطى سائله المنوي للمعمل من أجل معالجتـه بمواد خـاصـة لاستخلاص الحيوانـات الأكثر قوة منه.

* المرحلة الثـانيـة: تهدف إلى تكـوين الجنين وفيهـا تـوضع البويضـات مع الحيـوانات المنـوية داخل حضـانة خـاصـة انتظـارا للتلقيح. وهذه المرحلة هي إحدى أحـرج المراحل أو الأوقـات التي يعتمد عليهـا نجاح العملية. فإذا تكون جنين سوي منتظم الانقسام فإن فرصـة الحمل تصبح كبيرة. أما في حالة عدم الإخصاب فيتعين إعادة العملية كلها من البداية.

* المرحلـة الثـالثـة: هي زرع الجنين الـذي تكـون داخـل الـرحم وهو موضـوع بسيط لا يستغرق دقائق معـدودة تغادر بعده الزوجة المستشفى وتستطيع ممارسة نشاطها العـادي دون أي مشـاكل. بعـد أسبـوعين من الـزرع يطلب من الزوجـة عمل اختبار حمل فـإذا كان إيجابيـا تجرى أشعـة تليفزيـونية لمعرفة مكـان الحمل والتأكـد من استقراره داخل الرحم. أما إذا كان سالبا وصاحبه مجيء الدورة الشهرية فلا مناص من إعادة المحاولة مـرة أخـرى في الشهـر التالي.

عوامل النجاح والفشل

دائـما ما يسأل الزوجان في الجلسة الأولى عن نسبة نجاح أطفال الأنابيب، وهو سؤال منطقي ومهم. لكن قبل الحديـث عن هـذه النسبـة أحب أن أوضح شيئـا قـد لا يعلمه الكثيرون وهـو أن نسبـة الحمل بين زوجين طبيعيين، ليس لـديهما أي مانع من مـوانع الإنجاب لا تتعدى 25 % كل شهـر، إذا علمنا هـذا أدركنا مـدى التقدم الذي أحرزه الطب عندما وصل بنسبة الحمل في أطفـال الأنابيب إلى ما بين 20 و 25%. طبعا هناك حالات تقل فيها النسبـة إلى أقل من هـذا بكثير وحالات تكـون احتمالات نجاحهـا أكبر. فعلى مـاذا تعتمـد نسبـة النجاح؟

- يعـود العامل الأول إلى السبب الذي من أجله تمت عملية أطفال الأنابيب، فإن كان السبب هو مجرد انسداد القنوات التناسلية عند المرأة تكون نسبـة الحمل كبيرة خاصـة لو نجحنا في الحصـول على بويضات ناضجـة قابلـة للتلقيح أما لو كان السبب هو ضعفا كبيرا في المبيض أو في الحيوانـات المنوية فإن احتمالات النجـاح تقل ولكنها تبقى قـائمة بنسب مختلفة تبعا للحالة.

- العامل الثاني هو سن المرأة، فكلما تقـدمت في السـن اختفى احتمال الحمل بطبيعة الحال.

- العامل الثالث هو حالة الرحم عنـد زرع الجنين وجـودة غلافـه الداخلي مع جودة نوعية الجنـين. إذ إنه في حـالات عـدم الحمل يفشل الجنين في التعلق بجدار الرحم.

ومن المعروف أيضـا أن نسبة الإجهاض في أطفال الأنابيب تفوق مثيلاتها في الحمل العادي.

- العامل الرابع هو طرق العلاج المتبعـة ومـدى كفـاءة واستعـداد المستشفى ومركز أطفـال الأنـابيب لاستقبال هذه الحالات والعناية بها.

وبعد....

فبرغم حـالات الفشل التي ذكرنـاها آنفا يبقى أطفال الأنابيب فتحـا كبيرا في الطـب الحديث، وطريقا لا غنى عنه لكثير من الحالات، ووسيلة ساعدت على رسم البسمـة على شفـاه عشرات الآلاف من أسر العالم.

 

شفيق السيد صالح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لحظة الإخصاب ويظهر ذيل الحيوان المنوي بعد اختراقه للبويضة





جنين عمره 8 أيام وقد تشبث بجدار الرحم





جنين سليم داخل الرحم عمره 6 أشهر