السلام القلق أمين هويدي

السلام القلق

ليس هناك أخطر على السلام من وجود دولة قوية جدا إلى جانب دول ضعيفة جدا. لأن بناء السلام في ظل اختلال توازن القوى الإقليمي هو بمثابة الإعداد لحرب قادمة لا يعلم إلا الله مدى ما سوف تحدثه من دمار وخراب، ولن تفلح تلك المعاهدات الرديئة في منعها.

في استفتاء أجرته جريدة " الأهرام ويكلي" التي تصدر في القاهرة باللغة الإنجليزية وفي العدد 201 بتاريخ 29/ 12/ 94 ظهر أن الحاجز النفسي بين مصر وإسرائيل مازال قائما بالرغم من مرور 15 عاما على توقيع معاهدة السلام بين البلدين فعن سؤال خاص برغبة المشتركين في الاستفتاء في شراء بضائع إسرائيلية أجاب 71% بالرفض 27% الإيجاب، وكان من لا رأي لهم 2%. وفي سؤال عن احتمال وجود مصانع إسرائيليون في مصر رفض ذلك 75% ووافق 20% وكان من لا رأي لهم 5% وعن الزيارات التي يقوم بها إسرائيليون إلى مصر استنكرها 53% ولم يعترض عليها 43% وكان من لا رأى لهم 4% وبخصوص زيارة المصريين لإسرائيل رفضها 63% ووافق عليها 36% وكان من لا رأي لهم 1% وعما إذا كان الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي حقق المطالب القومية للفلسطينيين أنكر 58% ذلك ووافق 36% على ذلك وكان من لا رأي لهم 16%!!!

والاستفتاء غني عن التعليق...!!!

والحوار الذي أجراه المشرفون على هذا الاستفتاء بغرض قياس الرأي العام ركز كما نرى على التطبيع وليس على السلام وهو يوضح بجلاء أن الرأي العام يرفض التطبيع في ظل سلام غير مقنع لأنه ما من أحد يعترض على السلام بمفهومه المتعارف عليه ولكن بناء السلام الحقيقي شيء مختلف تماما عن رفع شعاراته البعيدة كل البعد عن مضمونه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على وعي كاف للرأي العام بمختلف قطاعاته فهو يفهم تماما ما يحدث، حوله كما يدل أيضا على أنه يمكن إخفاء الحقيقة بعض الوقت، ولكن يستحيل إخفاؤها كل الوقت.!!! ولذلك فبمرور الأيام ظل الحاجز النفسي قائما كما كان.

البعض يعرف السلام بأنه فترة هدوء بين حربين والتاريخ يؤيد ذلك تماما، فالحروب النابليونية التي انتهت باتفاقية فيينا عام 1814 أعقبها فترة سلام المائة عام ثم قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 تلاها فترة سلام بلغت عشرين عاما ثم قامت الحرب العالمية الثانية عام 1939 وهكذا؟ ويمكن الرجوع إلى أمثلة كثيرة تؤيد هذا الاتجاه على المستوى الإقليمي ومن ضمنها ما حدث ويحدث في منطقة الشرق الأوسط.

ولكن ريتشارد نيكسون في كتابه "1999" يذكر أن هناك نوعين من السلام: السلام الكامل، Perfect Peace والسلام الحقيقي Real Peace والأول هو مجرد وهم لأن معناه، اختفاء التناقضات بين أفراد المجموعة الدولية وهو أمر مستحيل لأن الخلاف سمة من سمات العلاقات العالمية والإقليمية، أما الثاني أي السلام الواقعي فهو الذي سوف يعيش العالم في ظله تحت مظلة النظام العالمي الجديد وهو سلام يتعايش فيه الجميع مع تناقضاتهم ويحاولون حلها بمختلف وسائل الصراع عدا استخدام القوة. وهذا القول ربما ينطبق على الدول العظمى التي مازالت- حتى بعد انتهاء الحرب الباردة بينما- تعيش في ظل استقرار يفرضه الرعب النووي المتبادل في الترسانات النووية التي مازالت مملوءة بالرءوس النووية ووسائل إطلاقها وهي تقوم بنفس وظائفها التي كانت تقوم بها بين القوى العظمى أثناء فترة الحرب الباردة ولكن ربما بمزيد من الخطر الناجم عن احتمال انتشارها بين مزيد من القوى وهو الوضع الذي نشأ عن تحلل الاتحاد السوفييتي القديم كما يحدث الآن مع أوكرانيا.

أما شمعون بيريز فيرى في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" أن السلام لا يتحقق إلا في ظل نظام أمني إقليمي يبنى على السياسة والاقتصاد، فالتفوق الحقيقي لم يعد قائما في معسكرات الجيوش ولكنه قائم في الحرم الجامعي وفي مزيد من التعاون السياسي والاقتصادي فلا حرب بعد اليوم لأن بناء السلام بين العرب وإسرائيل سوف يقضى على مصدر مهم للتوتر ولا فائدة من سباق التسلح فبالرغم من أن إسرائيل قوية استراتيجيا وعسكريا وتستطيع مواجهة أي تحالف عربي مناوئ فإن النصر الكلي عصي على المنال ففي استطاعة الطرفين تدمير بعضهما البعض لا هزيمة بعضهما البعض لأن الموازين الدولية تمنع ذلك ولكن بالرغم من ذلك علينا أن نواصل تعلم الحرب لا تمهيد لإعلانها بل للحفاظ على السلام وصد العدوان لأن من يرغب في السلام عليه أن يستعد للحرب، ولذلك فلم يحن الوقت بعد لتقليل أسلحتنا وإعادة الجنود إلى بيوتهم ويجب أن تتجه المنطقة إلى التعاون والنمو الاقتصادي الذي يبنى على أربعه أحزمة: نزع السلاح، المياه والتكنولوجيا الحيوية والحرب ضد الصحراء، النقل والمواصلات وآخر الأحزمة هو السياحة وذلك للانتقال من استراتيجية التفوق العسكري إلى التعاون الاقتصادي ومن اقتصاد الصراع إلى اقتصاد السلام، ومن الاستثمار في الحاجات العسكرية إلى استثمار في الحاجات الإنسانية. ويختم شمعون بيريز تصوره للسلام بكلمات يفهم منها أن ما فات مات "فلا يمكن إقامة شرق أوسط جديد على أساس سياسي فقط توضع فيه علامات حدود جديدة وفصل حدود قديمة لأن أسباب النزاع أسباب اقتصادية واجتماعية أكثر منها سياسية فارغة تتجاهل جذور الكرب والعوز". من ذلك نرى أن نظريته تتلخص في أن "السلام مقابل السلام" فالسياسة والاقتصاد توأمان والسلام لن يسود في جو المجاعة والحرمان وأن زمن هدير الطائرات والمدافع ينبغي أن يحط رحاله في استراحة المحارب العرب ويظل المحارب الإسرائيلي مدججا بالأسلحة التقليدية وفوق التقليدية والنووية للمحافظة على السلام ولفتح الطريق للهيمنة الإسرائيلية عن طريق الغزو الثقافي والاقتصادي مع الاحتفاظ بالأرض في ظل ما ابتدعوه من نظرية الحدود الأمنة التي تعطى باليد اليمنى وتأخذ أكثر باليد اليسرى.

ولكن هذا التصور البراق يتجاهل الحقوق التاريخية للعرب في المنطقة تجاهلا كاملا وينطلق من الأمر الواقع الذي فرض بالقوة، كما أنه تصور يرمي إلى تحقيق الأمن المطلق لإسرائيل، والأمن المطلق لدولة ما فيه عدوان كامل على أمن الدول الأخرى لأن الاستقرار الحقيقي يبنى على الأمن المتبادل. وتدفعها هذه العقيدة إلى النظر للحدود السياسية على أنها غير مقدسة إذا تناقضت مع مفهومها الأمني ولذلك فهي تلح في فرض تغييرات في حدود الدول المجاورة لأنها تغييرات تتم في واقع غير ثابت وإذا أعيت إسرائيل الحيل لضم الأراضي التي تريدها تعمل على تأجيرها كما حدث في حدودها مع الأردن أو تلجأ إلى ما يسمى بالحدود الأمنة وهي الحدود التي تتجاوز الحدود السياسية للدول المجاورة والتي تجري فيها فرض قيود تمس السيادة، فمعاهدة السلام بن مصر وإسرائيل تحدد هذه الترتيبات ابتداء من 15 كم غرب قناة السويس حيث يمنع على مصر ممارسه حق السيادة الكاملة على أراضيها تلك بتحديد حجم ونوع الأسلحة التي لا يجوز تجاوزها شرق هذا الخط ويستمر هذا الحظر بدرجات متفاوتة كلما اتجهنا شرقا حتى نصل إلى الحدود المشتركة حيث لا يسمح إلا بوجود قوات مدنية. كما تمنع الاتفاقية مصر من استخدام مطاراتها وموانيها في سيناء إلا لأغراض مدنية هذا علاوة على تمركز محطة إنذار أمريكية في جبل الراحة وسط سيناء إضافة إلى القوات متعددة الجنسيات المنتشرة في أماكن خاصة والتي لا يجوز سحبها إلا بموافقة الطرفين وبضمان أمريكي وبذلك فإن إسرائيل إن كانت قد اعترفت بخط الحدود السياسية الدولية إلا أنها في واقع الحال تمارس سيادتها داخل حدودنا السياسية ومن المستحيل أن تقبل إسرائيل باتخاذ إجراءات مشابهة داخل حدودها.

توازن القوى الزائف

وإذا انتقلنا إلى الظاهرة الخطيرة التي تتعلق بتوازن القوى الإقليمي فإن إسرائيل تصر على أن يكون هذا التوازن في جانبها دائما مقارنة بقوى الدول الإقليمية منذ الإعلان الثلاثي عام 1950 الذي أصدرته كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والذي حتم أن يكون نقل السلاح بالاتفاق معها حتى تضمن "توازنا للقوى" يمنع من سباق تسلح مع إسرائيل لتضمن أن يكون هذا التوازن في جانبها وهي تحتفظ بالسبق في هذا المضمار حتى يومنا هذا. وعلينا أن نعلم أن توازن القوى المتعادل هو الحالة التي تصل فيها الأطراف إلى درجه يتعذر عليهم معها اللجوء إلى استخدام القوة لفض المنازعات وإذا اضطرت إلى ذلك يكون القتال في أضيق حدود، لأن هذا التعادل يفرض قيودا على الأطراف وهي تجري حساباتها فيتبين لها أن خسائرها عند استخدام القوة أكبر من مكاسبها وهنا يتحقق الاستقرار المفروض لأن الاستقرار يتحقق إذا امتلكت الأطراف القدرة على التصدي للمشروعات العدوانية للجيران أو هو امتلاك القدرة على السيطرة على تطور الأحداث عند إدارة الأزمات أي الردع. أما إذا كسب أحد الأطراف معركة توازن القوى- كإسرائيل وهي تفرض السلام في ظل هذا التفوق- فإنه يصبح حينئذ قادرا على أن يفعل ما يريد وأن يمنع الآخرين من فعل ما يريدون، أي يكون قادرا على فرض أمر واقع جديد عندما يحلو له ذلك ويخلق الشعور بغرور القوة الذي يؤدي إلى الاستمرار في العدوان لتحقيق مكاسب أكبر وبذلك يفتح الطريق إلى حروب جديدة لا يمكن تفاديها. فالاتفاقيات التي توقع حاليا تعبر عن توازن قوى الموقعين عليها ولا تعبر عن توازن مصالحهم وهناك فارق كبير بين الاتفاقيات الرديئة التي تعبر عن توازن القوى والاتفاقيات العاقلة التي تعبر عن توازن المصالح لأن الأولى تركز على "جيل التسوية" كما تعطى "الأجيال اللاحقة" شعورا بالأمن وبأن الآباء والأجداد لم يفرطوا في الخريطة التي ورثوها عن المؤسسين الأوائل وبذلك تكون الاتفاقيات الرديئة اتفاقيات مؤقتة فرضت بالقوة وهذه عامل متغير ومتحرك فهو متغير لأن الظروف تتغير فمن يمتلك التوازن اليوم قد يخسر غدا. وهو متحرك لأنه في اللحظة التي يتغير فيها التوازن لصالح المظلومين فإنه لا يوجد أي نوع من الضغوط تمنع من تحرك القوة لتصحيح الأوضاع.

ويزيد من خطورة الوضع أن هذا يتم في ضوء ظواهر ثلاث:

- الاحتكار النووي الإسرائيلي، فهي تمتلك القدرة النووية ووسائل إطلاقها وفي نفس الوقت تمنع أي دولة إقليمية أخرى من ذلك حتى تحتفظ لنفسها بالمركز السادس في النادي النووي العالمي.

- إصرارها على تخفيض أسلحة الدول المجاورة باستخدام الشرعية الدولية أو بالضغط للوصول إلى اتفاق بهذا الشأن كما يحدث في مطالبتها بتخفيض القوات السورية في النصف ونزع الأسلحة شديدة التدمير عنها مع احتفاظها في نفسه الوقت بكل أسلحتهـا التقليدية وفوق التقليدية والنووية.

- صناعات حربية متفوقة بالتعاون مع الولايات المتحدة كمصدر مستمر ينقل لها التكنولوجيا الحديثة المتطورة وكسوق تستورد منها السلاح لتعطيها قدرة على الاستمرار والمنافسة وهذا يخلق ما يسمى المجمع الصناعي الحربي" وهو بحكم مصالحه عدواني التكوين يخلق ظروف الحروب أو يعمل على قلقلة الأوضاع في المنطقة بصفة مستمرة لخلق مزيد من الطلب على السلاح.

أخطار على السلام

ليس هناك أخطر على السلام من وجود دولة قوية جدا في جانب دول ضعيفة جدا لأن الفجوة الزائدة والضعف الزائد يولدان الشعور العدواني ويحفزان على استخدام القوة كعامل وحيد لممارسة السياسة، فلقوة صفة الانتشار إذا شعرت بضعف من يواجهها وإذا انتشرت فإنها لن تتوقف إلا بفعل قوة مضادة تمنعها من الانتشار ثم تجبرها على الارتداد إلى المكان الذي انطلقت منه.

إن بناء السلام في ظل اختلال توازن القوى الإقليمي هو إعداد لحرب قادمة لا يعلم إلا الله متى تقع ولا مدى ما سوف تحدث من خراب ودمار، فالذين يقولون إن الاتفاقيات الحالية سوف تضع حدا للحروب القادمة- خاصة في ظل النظام العالمي الجديد الذي يضع قيودا ثقيلة على استخدام القوة في حل المنازعات- يمكنهم أن يعيدوا حساباتهم في ظل الآتي:

- الاحتكار النووي الإسرائيلي وتفوق إسرائيل في ميزان القوى التقليدي وفوق التقليدي.

- ما أعلنته مراكز الأبحاث العالمية عن حصاد متابعتها لأحداث عام 1994 والتي أجمعت على أن عدد الصراعات والنزاعات الإقليمية ارتفع من 62 صراعا عام 1993 في. 70 صراعا عام 1994 وأضافت هذه التقارير أنه إذا كان خطر الصراعات بين القوى العظمى قد تلاشى فإن نزاعات أخرى طالت معظم أرجاء العالم.

- عدم تراجع حجم الإنتاج الحربي في دول المنبع وفي ظل بقاء الولايات المتحدد الأمريكية على رأس قائمة الدول المصدرة للسلاح والتكنولوجيا.

- ما ورد في تقرير معهـد جافي Gaffi للدراسات الاستراتيجية بجامعة تل أبيب بعنوان "المدى الزمني المنتظر للسلام العربي الإسرائيلي" من أن أعدى أعداء إسرائيل: سوريا ومصر والعراق مرتبة حسب أسبقيتها في التقرير. وأن إسرائيل وهي تخطو نحو السلام مع العرب فإنها تخطو في نفس الوقت إلى حالة الحرب معهـم لأن أحدا لا يستطيع أن يتكهن بطبيعة المكان الذي تنبعث منه الكراهية. ومن ثم فعلى حكومة إسرائيل العمل على تجريد العرب من قدرتهم العسكرية وعدم السماح لهم ببناء جيوش حديثة أو امتلاك أسلحة متطورة وأنه حتى عند السماح بتفتيش المنشآت النووية الإسرائيلية فهذا يقتضي أولا تدمير أو تفكيك كل الصواريخ العربية وعلى ذلك- يضيف التقرير- فإن معاهدات الصلح مع العرب يجب ألا تحول دون تطوير المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والإصرار على زيادة الفجوة بين القوة العسكرية الإسرائيلية والقوة العسكرية العربية مع عدم الاعتماد على الضمانات الأمريكية التي سوف تذوب أمام مصالحها الذاتية.

شعور اللصوص

ولا بأس من أن نختم المقال بحوار جرى مع أحد الباحثين الأمريكيين في إحدى جامعات كاليفورنيا قابلته بعد زيارته لإسرائيل فذكر أن الإسرائيليين قلقون مما يحدث، فهناك شعور عام من أن العرب سوف ينقضون على إسرائيل في أول فرصة ولذلك فلإسرائيل الحق في الاحتفاظ بالاحتكار النووي والتفوق التقليدي وفوق التقليدي وحينما أجبته بأن هذا شعور طبيعي سيشعر به كل مجرم ارتكب جريمته فهو يخشى دائما من عودة الحق في أصحابه تساءل وهل هناك أمل في أن يجد هذا المجرم مكانا له في المنطقة؟ فأجبته بأن الاستقرار والجيرة لا يضمنهما الاحتكار النووي ولا التفوق التقليدي وفوق التقليدي ولكن الضمان الوحيد هو تبادل المنافع ولدينا- نحن العرب- عوامل الحياة كلها من مياه وأراض وسوق ورأس مال وقوة بشرية، وإسرائيل تفتقر إلى كل ذلك فهي تستورد مصادر الحياة كلها من الخارج حتى البشر الذين يفدون إليها عبر الحدود من الشرق ليسكنوا في مستعمرات تبنى لهم بأموال الغرب.. !!!

 

أمين هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات