حول مفهوم الهوية محمود أمين العالم

حول مفهوم الهوية

إن حقيقة الهوية بدلالاتها التاريخية هي أنها مشروع مفتوح دائما على المستقبل تغتني بكل ما يتجدد في الحياة من خبرات اجتماعية وثقافية وعلمية وتشارك بدورها في إغنائهـا.

في كتابه تلخيص ما بعد الطبيعة يقول فيلسوفنا الكبير ابن رشد "إن الهوية تقال بالترادف للمعنى الذي يطلق على اسم الموجود وهي مشتقة من الهو كما تشتق الإنسانية من الإنسان"، وهو بهذا يعود بنا إلى مفهوم الهوية أو الذاتية في منطق أرسطو باعتبارها تماثل الشيء مع ذاته. فألف هي ألف وليست لا ألف- ولهذا نرى في "التعريفات" للجرجاني "أن الهوية هو الأمر المتعقل من حيث امتيازه عن الأغيار" والامتياز هنا بمعنى الخصوصية والاختلاف، لا بمعنى التفاضل. ولعل ابن خلدون قد استطاع أن يبرز هذا المعنى أكثر وضوحا بقوله في المقدمة "لكل شيء طبيعة تخصه" وعلى هذا فانتفاء خصوصية الشيء هو انتفاء لوجوده ونفيه.

وابن خلدون يعمم الخصوصية الوجودية على كل شيء، جمادا كان أم نباتا أم حيوانا أم إنسانا. فللجماد طبيعته الخاصة التي تتجلى في تنويعات جمادية مختلفة لكل منها طبيعته الخاصة داخل الطبيعة الخاصة العامة للجماد. وكذلك الشأن في النباتات والحيوانات وكذلك الشأن أيضا في الإنسان. فالإنسان عامة له طبيعة تخصه إلا أنه داخل هذه الطبيعة الموجدة المشتركة، هناك التنوعات والاختلافات في اللون والعرق والمنشأ والعادات. والثقافات وأشكال العمل والحياة والممارسات والعلاقات والأبنية المجتمعية ومستويات المعيشة إلى غير ذلك. ولكن الإنسان ليس مجرد طبيعة تتحرك وتتحقق بشكل آلي أو غريزي شأن النبات والحيوان، بل هو تاريخ مضاف إلى الطبيعة. والتاريخ الإنساني ليس مجرد حركة أو نقلة في الزمان؟ بل هو سيرورة من الوعي والإرادات والمصالح والثقافات الذاتية والجماعية المتصارعة المتفاعلة المتلاحقة، مع ضرورات الطبيعة الإنسانية والطبيعة الخارجية المادية. ولهذا فإن خصوصية الإنسان الحقيقية ليست خصوصية طبيعية بقدر ما هي خصوصية تجمعية وتاريخية، استطاع ابن خلدون أن يضع يده على بعض قوانينها في عصره. على أن هذه الخصوصية التاريخية، بما هي تاريخية، تتغير وتتطور وتتجاوز ذاتها باستمرار، وتأسيسا على هذا، فان الهوية الإنسانية عامة في تحققاتها وتنوعاتها المختلفة، ليست أقنوما ثابتا نهائيا، إنما هي هوية متغيرة متطورة مجتمعيا وتاريخيا، بتغير وتطور المجتمعات والأوضاع والأحوال والخبرات، وتنامي أشكال الوعي والثقافات والمنجزات والإرادات والقدرات والمصالح المختلفة، وتجميد هذه الهوية الإنسانية في تحققاتها المختلفة في التاريخ وتحويلها إلى نسق أو أنساق ثابتة هو تهميش للهوية بل طمسها موضوعيا وإنسانيا، بل تجميد للمجتمع والتاريخ معا.

الهوية والمراحل التاريخية

لكل مرحلة مجتمعية وتاريخية هويتها المعبرة عن مكتسباتها ومنجزاتها وممارساتها وأفكارها وعقائدها وقيمها وأعرافها السائدة ولكن ليست ثمة استمرارية لهوية ثابتة جامدة محددة طوال التاريخ، فهـذه، رؤية أرسطية شكلية للهوية يغلب عليهـا الطبيعة لا التاريخ الذي هر جوهر إنسانية الإنسان. إنما لكل مرحلة جديدة هويتها التي هي تطور متجدد للهوية في المرحلة السابقة، أو انحدار وتدهور لها. إنه التماثل واللا تماثل، الاستمرار والانقطاع، الثابت والمتغير ثقافيا وموضوعيا في جدل التاريخ ولهذا فكل تثبيت إطلاقي للهوية وجعلها معيارا مرجعيا جاهزا ناجزا نهائيا طوال تاريخ مجتمع من المجتمعات هو رؤية تجميدية لا تاريخية وغير موضوعية لهذا المجتمع.

على أن للهوية بعدا آخر.. ليس أقل أهمية. لعلنا نعود به مرة أخرى إلى ابن خلدون في حديثه عن أن لكل شيء طبيعة تخصه. فالخصوصية ليست خصوصية متجددة متطور تجددا وتطورا ذاتيا فحسب، بل هي كذلك عند ابن خلدون، خصوصية منفتحة على غيرها من الخصوصيات الأخرى. بل إلى حقيقتها لا تكتمل بخصوصيتها الذاتية وحدها، وإنما بعلاقتها بهذه الخصوصيات الأخرى.

إن حقيقتها ليست في ذاتها فحسب وإنما في نسبتها وفي إضافتها وفي فاعليتها، فالعصبية مثلا عند ابن خلدون عندما نقرؤها قراءة شاملة في فصوله المختلفة نتبين أنها ليست في ذاتها، ليست في حسبها ونسبهـا فحسب، وإنما في ثمرتها، في فاعليتها أساسا.

وكمثال آخر يقول هذا المفكر العظيم في مجال الاقتصاد "إن قيمة الشيء ليست في ذاته وإنما بما فيه من عمل. وكلما زاد العمل في الشيء زادت قيمته" فقيمة القنية كما يقول إنما هو "من دخول العمل الذي حصلت به. إذ لولا العمل لم تحصل القيمة".

وإذا كان ذلك يصح في الأشياء، فما بالنا في الإنسان. إن الهوية ليست من ناحية، كما ذكرنا، أقنوما ثابتا منجزا جاهزا نهائيا بل هي مشروع متطور فاعل، مفتوح على المستقبل، وهي ليست من ناحية أخرى مغلقة على ذاتها مكتفية بها، وإنما ذات طابع علائقي متفاعل فاعل مع غيرها. أن التطور والتفاعل للهـوية، لا يلغيها بل يغنيها، ويجعلها قيمة فاعلة لا قيمة جامدة راكدة. ولهذا فهوية الإنسان هي بالضرورة في تجدده لا في جموده، وفي تفاعله وتفتحه لا في عزلته، وأكاد أقول إن هذا التطور والتفاعل والتجدد والتفتح المتصل هو جوهر الشرط الإنساني وجوهر طبيعته الإبداعية. على أنه إلى جانب هذا الطابع التاريخي المتطور للهوية، فضلا عن طابعها المتفاعل والمتشابك مع مختلف الهويات والخصوصيات الأخرى، فإن الهوية كبعد ثالث من أبعادها وكدلالة موضوعية لها ليست أحادية البنية، ولا تتشكل من مقوم واحد فحسب هو المقوم الديني وحده، أو المقوم الإثني القومي أو العرقي وحده، أو المقوم اللغوي وحده، أو مقوم الخبرة والممارسة التاريخية التراثية وحدها أو المقوم الثقافي والوجداني والإبداعي وحده، أو الخبرات المجتمعية المشتركة وحدها، أو المقوم المصلحي وحده، وهي ليست إيجابية في كل عنصر من عناصرها بل فيها من الإيجابي كما فيها من السلبيات، فيها ما يعبر عن تقدم وفيها ما يعبر عن تأخر وتخلف، وإنما الهوية هي مركب وحصيلة من اتصال وانقطاع وتداخل وتفاعل هذه العناصر جميعا، وإن برز إلى الصدارة أحد هذه المقومات على المقومات والعناصر الأخرى تعبيرا حادا عن الهوية في هذه المرحلة أو تلك من مراحل التاريخ ويحسب طبيعة الظروف الموضوعية السائدة أو الطارئة. على أن حقيقة الهوية وقوتها وفاعليتها إنما تكون في تضافر وتفاعل مختلف مقوماتها فضلا عن تجددها وتفتحها بما تقتضيه ملابسات ومستجدات الحياة،. وإذا انتقلنا من هذه التحديدات المجردة إلى واقعنا العربي اليوم، لتبين لنا أنه بعد مرور أكثر من مائة عام لا تزال الأسئلة التي فجزها مفكرو عصر النهضة منذ أواخر القرن التاسع عشر هي الأسئلة التي لا تزال مثارة بيننا حتى اليوم. فمازلنا نتساءل عن هويتنا، نبحث عنها ونحاولها، نظريا وفكريا وفي ممارستنا الأدبية والفنية والإبداعية عامة.

طبيعة التغيير

حقا، لقد تغيرت وتطورت أمور عديدة في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عامة، وتحقق تنوير وتحديث، بل تحققت منجزات مبدعة خاصة في مجال الأدب والفنون، ولكنه أزعم أن ما حدث من تغيير وتطوير وتنوير حياتي أو ثقافي، كان ولا يزال نخبويا علويا برانيا، أو كان ولا يزاد متناثرا في جزر محاصرة متفرقة، ولم يمس جذور الأبنية العميقة الأساسية لمجتمعاتنا العربية. فما زال تخلفنا الاجتماعي قائما، ولا يزال بل يتفاقم تمزقنا القومي، ولاتزال أميتنا الأبجدية شائعة بين أغلبية سكاننا فضلا عن التدني الثقافي السائد إلى جانب أن اقتصادنا لا يزال اقتصادا هـشا تابعا يغلب عليه الطابع الريعي والاستهلاكي والبذخي في محيط من الفاقة والتخلف.

لهذا كان من الطبيعي أن يظل سؤال عصر النهضة المجهضة سؤالا معلقا في أعناقنا.

ولا أتردد في أن أقول بصراحة موضوعية، إنه ما يثار سؤال الهوية في بلد من البلدان، إلا حين تكتفي الهوية في أزمة مجتمعية كاملة، فحيث لا تكون هناك أزمة لا يثار سؤال الهوية. إن سؤال الهوية يكون دائما سؤالا مشروعا وصحيا، لا عندما يكون السؤال: ماذا.. ما هي الهوية؟! بل عندما يكون: كيف تكون الهوية، وعندما لا يكون مجرد سؤال بل يكون إجابة تتحقق وتتنامى بالعمل والاجتهاد والإبداع في مختلف المجالات. على أن سؤال الهوية مع ذلك في حياتنا المعاصرة هو سؤال مشروع تماما، وبالضرورة أن يكون كذلك في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا العربية التي تكاد تخرج اليوم من التاريخ وتتفكك وحدتها القومية.

أتذكر كما نتذكر جميعا بغير شك قول شاعرنا العربي القديم:

ليس الفتى من يقول كان أبي

إن الفتى من يقول هأنذا

وما أكثر مع الأسف من يكتفون بالغناء "بكان أبي"، وما أكثر مع الأسف من يحاولون علاج جراح الحاضر بوصفات جاهزة من الماضي البعيد. وما أكثر كذلك من يقولون هأنذا استعلاء وخيلاء. إن الفتى الذي نريده حقا واعتقد أنه موجود بيننا كذلك وإن يكن محاصرا إلى حد كبير ليس الفتى الذي يقول فحسب كان أبى، أو الذي يقول هأنذا بل الذي يقول: أنا أفعل، أنا أحرر وأتحرر، أنا أضيف، أنا أجدد، أنا أتقدم، أنا أبني، أنا أبدع.

وإن الفعل الخلاق هو حقيقة هوية الإنسان فردا كان أو جماعة.

قتل التراث

لست أعني بهذا أن نتجاهل تراثنا القديم، نتجاهل هويتنا، نقتل آباءنا كما يقول فرويد. لعلي أفضل، أن نقتلهم بالفعل على حد قول شيخنا أمين الخولي نقتلهم فهما وعلما وتمثلا عقلانيا نقديا لأفضل ما قدموا وأضافوا، وأن نسعى نحن إلى مزيد من الإضافة والإبداع.

هذا هو في تقديري المعني الحقيقي لاحترامنا لتراثنا ولتحقيقنا الخلاق لهويتنا وهذا هو السبيل لإزالة هذه الثنائية المعلقة بين الأصالة والتحديث. وهذا هو المعنى الحقيقي أيضا لانفتاحنا على عصرنا، أي التمثل والاستيعاب العقلاني النقدي والإضافة الإبداعية إلى تراثنا وإلى عصرنا.

إن أخطر ما تتعرض له هويتنا هو جمودها واستغراقها في استنساخ رؤية ماضوية وفرضها على حاضرنا فرضا بليدا..

وإن أخطر ما تتعرض له هويتنا كذلك هو عزلتها وقطيعتها عن عصرها باسم الأصالة أو الأصولية، أو تقليصها في رؤية أحادية جامدة.

على أن أخطر ما تتعرض له هويتنا كذلك هو ميوعتها وفقدانها لذاتها الواعية ولقدرتها العقلانية النقدية الإبداعية وضياعها في تقليد أو خضوع أعمى بليد لخبرات سياسية واجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية لا تصلح لملابساتنا وأوضاعنا واحتياجاتنا الخاصة.

ولعل هذا، أخيرا، ما تتعرض له هويتنا هذه الأيام. إن الهواء الذي تتنفس وتنتعش وتتحقق وتتوحد به هويتنا هو في تقديري التنمية الإنتاجية العربية الشاملة وهو العقلانية واحترام الاختلاف في الرأي وروح النقد والحرية والإبداع.. ولهذا ما أجدرنا، دائما أن نحول سؤال الهوية إلى إجابة فعلية وإلى ممارسة وتحقق مبدع.

 

محمود أمين العالم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات