هو . . . . هي

لا تنازل

لا تعرف زوجتي الكلل أو الملل.

تتصور أنها ستستمر هكذا طوال حياتها، تتصور أنها ستستمر تتحرك كالنحلة في البيت، ترعى هذا وتطعم ذاك، لا تتصور أن الحياة تحتاج إلى وقفة ثم إلى وقفات، يهدأ فيها الإنسان ويستكين لذاته ولنفسه، يرعى شئونه دون شئون الآخرين، خاصة إذا كان قد أدى واجبه على أكمل وجه.

كانت زوجتي باستمرار ربة بيت نشطة، أتذكرها في شبابنا عندما كان الأبناء والبنات في سنوات عمرهم الأولى، لم تكن تهدأ طوال النهار وجانبا من الليل، كنت أعطف عليها وأطلب منها السكون والهدوء والراحة، لكنها استمرت دائما كتلة نشاط.

لكنها كبرت الآن، بدأت ألاحظ أنها لم تعد أبدا كما كانت سابقا.

أضبطها أحيانا وهي راقدة في سريرها تئن من عظامها، من ركبتيها، من قدميها من ذراعيها، أطلب منها أن تستكين وتستريح بعض الوقت وأن تترك ما تبقى من شئون البيت أو المطبخ لبناتنا. فقد كبرن ويستطعن إكمال الواجبات المنزلية التي لم تنته بعد، لكنها تقفز فجأة لتؤكد أنه لا يوجد إنسان في هذا البيت يستطيع الاحتفاظ به نظيفا منظما إلا هي.

هكذا عاشت طوال حياتنا لا تطمئن إلى أحد، ولا تعتمد على أي إنسان في إدارة شئون المنزل، لدرجة إني أتعجب، كيف ستتمكن البنات من إدارة شئون بيوتهن بعد الزواج وبعد أن تعودن الاعتماد على والدتهن إلى هذه الدرجة؟.

المهم، أنها بدأت "تزن" في أذني: "ما رأيك لو اشترينا قطعة أرض وبنينا عليها بيتا كبيرا، يضمنا ويضم كل أبنائنا وبناتنا، أليس ذلك أفضل من أن يعيش كل منا في جهة مما سيضطرنا إلى الانتقال هنا وهناك لزيارتهم في بيوتهم؟".

قلت لها: ابعدي هذه الفكرة من ذهنك، أنا لا أريد العيش مع أحد. أضفت: الأفضل أن يستقل كل واحد من أبنائنا وبناتنا بحياته الزوجية، أسرعت وسألتني: هل تصرفت في المدخرات التي نملكها، قلت لها: إن المدخرات موجودة، ولم أتصرف فيها، وإنها ملك لأولادنا سواء أرادوها في حياتنا أو انتظروا إلى ما بعد وفاتنا. أعرف زوجتي جيدا، فهي إن لم تتحرك كالنحلة فإنها "تزن" مثلها،

بدأت تلف وتدور منتهزة كل فرصة لتطرح الفكرة ثم تكررها وتؤكد عليها، ثم تنقل لي أخبار هذه الأسرة أو تلك، والتي اشترت كل منها أرضا لبناء بيت كبير عليها، وأنا لا أزال متمسكا برأيي.

الحقيقة أني لن أستسلم لإرادتها خوفا عليها ورحمة بها، أنا أعرفها جيدا، إذا استجبت لطلبها هذا فسوف تستمر تقدم خدماتها هذه المرة ليس لأبنائها بل لزوجات الأبناء وأزواج البنات ولأبنائهم كذلك، ستستمر تخدم قبيلة بأكملها.

أعتقد أنه قد آن الآوان لأن تستريح وتهدأ، بعد كل ذلك الجهد الذي بذلته في تربية الأبناء، ألم يحن الوقت الذي تلقي فيه بجسدها على مقعد مريح لتتابع التليفزيون أو لتستمع إلى المذياع، ألم يحن الوقت لكي تتوقف النحلة عن الحركة، وكذلك عن الزن؟!!

هو..

لا استسلام!

أنا في حيرة من أمر زوجي، لا أدري ما حدث له، لماذا تغير؟.

لم يكن يوما بخيلا، أو جحودا، كان دائما مثالا لرب الأسرة القادر على تلبية كل احتياجاتها، لم تلجأ أسرتي إليه طالبة أي شيء إلا واستجاب بشكل فوري وسريع، لم يكن يوفر احتياجاتنا بشكل ميكانيكي أو تلقائي أو لمجرد تلبية الحاجة أو أداء الواجب، على العكس، كان يشعرنا دائما أنه يلبي رغباتنا واحتياجاتنا بحب وعطف.

لكنه تغير. يبدو أن تقدمه في السن أثر على وجدانه ومشاعره، هل بات بخيلا تجاهنا؟ هل بدأ يضن علينا بالمال والعاطفة؟

استمرت حياتنا تضم الفرح والحزن، الوفاق والخلاف، كنا ككل أسر هذا الزمان، وكل زمان، لكننا استطعنا - بالرغم من توجيه أكبر كم من إنفاقنا إلى تربية أولادنا وتعليمهم - أن ندخر بعض الأموال، قلنا إننا نحتفظ بالمدخرات للزمان، من يدري مفاجآته المؤلمة أو السعيدة، ربما احتجنا إليها في أي لحظة، ما دامت موجودة، امتلكنا الاطمئنان على حياتنا اليومية.

كبر الأبناء والبنات وأنهوا تعليمهم، وباتوا على وشك الزواج وتكوين الأسر، بدأت من جانبي أفكر في هذه المدخرات، ألم يجيء الزمان الذي نحتاج فيه إلى تلك المدخرات؟!

فكرت - بل قررت - أن نستخدم هذه المدخرات في شراء أرض، ثم بناء بيت كبير من عدة طوابق أو وحدات سكنية، نسكن إحداها ونحتفظ لكل ابن وابنة بوحدة يتزوج أو تتزوج فيها، وبذلك نقدم لأبنائنا مساكن مجانية ملائمة، كذلك نستمر في تقديم المساعدة لهم دون أن نشعر ودون أن تأخذ شكلها المادي المنظور والمعروف.

ثم، أليس من الأفضل أن نعيش جميعا مع بعضنا البعض، نعيش مع أبنائنا وبناتنا وأزواجهم وأولادهم، أريدهم جميعا حولي وتحت رعايتي وفي دائرة حياتي اليومية، نملك دخلا معقولا، لماذا لا نستظل به جميعا بدلا من أن ننفرد به، زوجي وأنا؟.

ثم، لماذا نحتفظ بهذه المدخرات ونستمر في زيادتها، أليس من الأفضل أن ينعم الأبناء والبنات بها، وفي حياتنا، لذلك عرضت الفكرة على زوجي.

رفض زوجي الفكرة من أساسها، قال بكل صراحة: في سني هذه، وبعد كل الجهد الذي بذلته في حياتي العملية أريد أن أعيش حياة هادئة، لا أريد الحياة مع أحد.

حاولت إغراءه بشتى الطرق، بحثت عن مساحة أرض ملائمة وطلبت منه مصاحبتي لرؤيتها، استشرت مهندسا معماريا من أقاربي، اشتريت بعض المجلات المتخصصة في الديكور، تعمدت فتح الموضوع ومناقشته أمام أبنائي وبناتي، نقلت إليه أخبار كل معارفي الذين سبقونا إلى هذا العمل، أو هؤلاء الذين يفكرون فيه، بالرغم من كل إغراءاتي هذه، يصر زوجي على الرفض.

لا أدري، هل فقد زوجي عواطفه وعاداته القديمة مع تقدمه في السن؟

سوف أستمر ألح!!

..هي