بين الدين والعلم.. التكامل بدل التقابل

بين الدين والعلم.. التكامل بدل التقابل

قد يبعث على اليأس أو الإحباط، وقد يحرض على النقد المنهجي تأسيساً للرجاء واحتمالات النهوض العربي والإسلامي، أن تقرأ بشكل شبه يومي عن إنجازات نوعية في المجال العلمي، في الغرب، تنطوي على مقدمات وإنجازات متوالية تراكمت وكأنها سر، إلى أن تبلورت بصورة تقترب من الإعجاز، وتصفعك على وجهك وعينيك ولسانك، الذي يشتغل في كل شيء ولا ينجز شيئاً، بل يلهي أو يمنع أو يخيف من يهتمون ويشتغلون من أجل الإنجاز، ليوسع في المجال، مجال الفراغ، للبطالين الذين يبددون الوقت في غير المجدي أو في الضار، ويسقطون كسلهم وجهلهم وتجهيلهم على الإسلام، الذي لا يريدونه أكثر من قارب مطاطي، ليتسع لهم ولأسرتهم الضيقة، على طريق الخلاص!

يستبد بك الإحباط والغضب أكثر عندما تقرأ يوميا كذلك، وعلى العمود الثاني من الصحيفة اليومية، أخباراً تجاوزت الطموح العلمي، إلى معاداة الحياة وقتلها، من الصومال إلى السودان والعراق إلى أفغانستان وباكستان إلى كل البلاد الموعودة بالفتن والعفن والإرهاب المجاني، وبين هذا وذاك يقحم الأجل خالق الكون ومدبره، الذي كلفنا ومكننا من المعرفة فكابرنا وحنثنا بوعد رسولنا الأكرم في طلب العلم المدني البحتي أو الطبيعي أو الدقيق والإنساني.. إلخ، موازياً متمماً ومكتملاً بالعلم الديني الذي أوقفناه حيث توقفنا، يُقحم الله وندفعه على الحال التي تصورناه فيها مفارقة لحقيقته الأسمى، إلى منطقة الخوف، نخاف على الله من الإنجاز العلمي فنتوقف عنه وندعو إلى التوقف ونكفر من يبدع أو نشكك في نواياه ومآلات إبداعه، والأولى أن نخاف على ذواتنا وأحفادنا. ومن جهة أخرى نكفر هذا وذاك، نؤبلس ونقدس، ونقتل من عباد الله، من الأقربين والأبعدين، من داخل الإسلام ومن داخل المذهب أو الفرقة الدينية، وكأنهم مصادر خطر على الإله وكأننا حماة الألوهة والوحدانية والوحي والكتاب والسنة، الحصريون! علماً بأنه كان ومازال وسيبقى للبيت رب يحميه، وعلماً بأننا إنتاج الإسلام أكثر مما هو الإسلام إنتاجنا.

ومن خارطة الجينات، إلى الشغل على الخلايا الجذعية، إلى الاستنساخ.. إلخ، إلى الاقتراب من المنطقة الصعبة أخيراً منطقة التحدي، منطقة السرطان، مروراً من بوابة المعلوماتية الواسعة إلى (النانو تكنولوجي)، نعود إلى طرح السؤال الذي انشغلنا في الجواب عليه، سؤال العلم، طوال القرون الأربعة الأولى من عمر الإسلام، ثم توقفنا إلا في حدود الحد الأدنى من الضرورات أو الأوليات والعبادات لا الأولويات بالمعنى الحضاري الروحي معاً، نعود إلى السؤال ملزمين بأن نسأل ونُسأل حتى لا يموت السؤال فيموت العلم في ديارنا، ويصبح من كان منا مصراً على تحقيق ذاته في المعرفة أن يغادرنا إلى أصقاع أخرى معنية بتوليد السؤال من السؤال ليبقى العلم في حالة إنجاز، في إنجاز دائم ومتجدد، وكلما تجدد أو أنجز قربنا أكثر من الله تعالى الذي لا نقترب إليه إلا بالكدح إليه، إلا عندما نعلمه، ونجدد علمنا به لنحمي إيماننا بالخشية التي تزداد بازدياد المعرفة وتزداد معها التقوى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} إني أعود هنا إلى مفتاح علمي عظيم، في مفصل بداية القرن والذي فاجأنا وأذهلنا، لأننا كنا ذاهلين عما سبقه وانتهى إليه من خطوات واكتشافات علمية كثيرة وكبيرة، أعني اكتشاف خارطة أو خريطة الجينوم بدل ما كنا نحن أو بعضنا أو كثيرون منا منشغلين به طلبا للجنة في البحث عن الجينات.

بصرف النظر عن أي تعقيد محتمل، إذ لكل مفصل علمي تعقيداته، وبصرف النظر عن مدى ما يمكن أن يتحقق من فوائد إنسانية خالصة، أو إشكالية بسبب التقدم النوعي في مسيرة العلم، فقد عدل مفصل الجينوم من مستوى الخيبة التي كنا نستشعرها في نهاية القرن المنصرم وبداية القرن الجديد، إذ حقق العلم خلال القرن المنصرم، وفي عقده الأخير خصوصاً، تطورات عظمى كما ونوعا، وقف على باب السرطان بفضل اكتشاف خارطة الجينوم البشري، وقد يصبح السرطان وغيره من الأمراض الخطرة تحت السيطرة. ولعله كذلك الآن، كنا نتوقع للفلسفة أن تصاب بانسدادات، بعد أن سبقها العلم إلى مساحات واسعة من الحقول المعرفية التي ترتادها وتكاد تختص بها. هذه الميادين المعرفية تتصل اتصالاً وثيقاً بأصل الوجود ومتفرعاته كما تطرح الأسئلة حوله لكي تتوصل إلى المآلات النهائية للكون والكائنات. وقد سبق العلم إلى هذه النواحي وأقفل عليها بإخلائها تقريباً من السؤال الفلسفي، وبما تكفل من إجابات تخطت الإشكاليات الفلسفية في كثير من الأحيان. ولكن الاكتشاف الجديد، أي رسم خريطة الحياة، ببلوغه إحدى النهايات القصوى من مقاصده، كان بمنزلة إعلان جديد أو كشف جديد للمساحة المشتركة بين حقول معرفة تطبيقية وأخرى نظرية تقع الفلسفة في موقع الصدارة منها. والأسئلة التي يطرحها هذا الإنجاز من شأنها أن تحث الفكر الفلسفي على إيجاد الإجابات عنها، والعودة إلى حالة من الحراك الفلسفي وإثراء الفلسفة ثانية بالاختلاف والحوار والسجال وتوليد السؤال من السؤال للوصول إلى أصقاع مجهولة وملتبسة.

مخيلة جديدة

وإذ نكاد نشهد بدايات تراجع الشعر على مقتضى الإيقاع السريع والمتواتر للاكتشافات العلمية، فإن هذا الإنجاز العلمي الذي اقترب من الأصول التكوينية ومن مشهد الحياة وسرها، يفتح المخيلة على احتمالات شعرية تؤكد من جديد معرفية الفن واستباقاته المتسائلة والدهشة التي يقتضيها حتى يكون فناً، كما يؤكد وحدة حقول المعرفة منشأ ومآلا، وإن اختلفت محدداتها أو آلياتها، ومنابع حساسياتها. فآخر العلم إذن، هو أول الشعر أي أول الخيال والحلم والحدس الضروري للإبداع، هنا بالذات يصبح السيل المعرفي آتيا من حقيقة واحدة متشكلاً في أنهار مترادفة ومترافدة.

في هذه المعطيات أجد شخصياً ومن المفترض أن أكون نوعياً في ما أجد، أجد ما يطمئنني إلى سلامة اختياري التوحيدي، كطريق للسلامة الداخلية وضمان للسلامة في الآخرة، وأستوي واثقاً على جسري من توحيد الله إلى رؤية معادلة التوحيد في الكون والإنسان والعلم والتاريخ، ولا أرى أن الإيمان الفطري أو البالغ في العلم حدّ الحصانة، هو من الركاكة بحيث يصوّح أمام الاهتزازات التي يحدثها عمل العقل والتجربة في عمارة السواكن في أثناء مراكمة المعارف وتجديدها والتجدد بها. فهناك سر يقاربه العلم ويشبعه معرفة ويتشبع بمعرفته من دون أن يهتكه، ويكشف مستويات منه، كل المستويات إن أمكن، وهو ممكن، ولكن يبقى المستوى الأخير سريا، أي تبقى في السر ثمالة كاحتياط ذهبي للسؤال الذي إذا انتهى انتهى العلم، لأن ما يضمن تواصل العلم وارتياد المجاهل لاستكشافها، هو الحائز الاحتمالي للعلم، إذن فوراء كل مرسى إقلاع ووراء كل محطة استئناف للسفر، وإذا ما راود العلم أو العالم خاطر يهتك الأسرار فإنه مهتوك لا محالة. أي أن العلم حين يبلغ نهايته، ينتهي، إذا لم يبق هناك، وراء الجدار الحقيقي أو الوهمي أو القزحي (من قوس قزح) سر، أو طيف من سر يراود العلم ويساوره ويعله، فإن العلم يبطل ذاته. السر.. سر الأسرار هذا، الممنوع أو المحجوب أو الممتنع أو المحتجب أو الممانع، هو الروح أو روح من الروح المحاطة بأسيجة من الأسرار يفضي كل مستوى في نظامها الواحد إلى الآخر والسر إلى السر والكشف إلى الكشف حتى يتحد العارف بالمعروف، أي ينهض الذاتي في العلم في موازاة الموضوعي، ضماناً لاتساق ذات العارف وحيويتها.

حقلان معرفيان

ويهدئ من روعي قناعتي بأن العلم والإيمان أو العلم والدين هما حقلان معرفيان، لا تناقض بينهما ولا تطابق، فلا داعٍ للتعب بالفصل والوصل، وإنما هو اختلاف محكوم بالنزوع إلىالتكامل الوظيفي، وهنا يمكن أن نجد منهمكاً لأخلاقنا البشرية نتأهل فيه ومن خلاله إلى تهيئة الأسباب اللازمة لتقييد القوة المتأتية من المعرفة بالعدل الذي هو الانسجام والتوازن، غير أن هذا الإنجاز العظيم والغامض، وكل اكتشاف للغوامض هو مظنة غموض، وإلا لما احتاج الإبداع إلا إلى فطرة تضارع السذاجة، في حين أن الإبداع فن وعلم وعناء شديد وإن كان لذيذاً.

هذا الإنجاز العظيم (أي فك رموز الأطلس البشري) يحثنا أو يحذرنا إن لم نسرع الخطا إلى التحقيق والتحقق من هذه الأفكار والمتكآت، التي تشكل شرطاً لحفظ مستوى من المعيارية في نظام قيمنا لتكون رائدنا في التعاطي مع ثمرات عقلنا الكوني واحتمالات استخدامها واستثمارها المقترن إما بالمباهج وإمّا بالمآسي. وهنا يعيدنا التقدم العلمي، بما هو تحد نوعي هذه المرة، إلى ضرورة إلغائية كناظم لمعارفنا وحراكنا في مختلف الشئون، على شرط الحرية المتحقق والذي لابد من إعادة تحقيقه باستمرار، كما يتحدّانا أن نبحث أو ننجز نظرياً وعملياً النصاب الجامع بين الحرية والضرورة، بين الحرية والغاية، بين الغيب والشهود، بين الله والإنسان، حل بحسب مرتبته، إذ لا بد من التراتب، واقعاً وكوناً، حتى لا نقع في فاوستية جديدة، تؤلّه الإنسان، هذا الجميل، وهي تدعي إلحاداً مراوغاً، تلتمس له في العلم سنداً، وتنتهي إلى إدخال الحضارة المتحققة فعلا في سياق من الغصص والمنغصات في مجتمعات المنشأ، في الغرب أو في الشمال، وفي الشرق أو الجنوب الذي يصل إليه العلم الفالت من المعيارية موتاً وتجهيلاً ومصادرة.. إلخ.

إذن، فأنا على قلق من مواكبة العلم بالجهل أو الركون إلى الجهل في معالجة نهايات العلم التي لا تنتهي، مادام أن فوق كل ذي علم عليم، ويتفاقم هذا القلق عندما أنظر في حالنا العربية والإسلامية عموماً، فأرى أن أنظمتنا المعرفية، أو أنظمتنا الاجتماعية والسياسية، تعتصم بالجهالة وتعمم الجهل وتمنع العلم أو تحاصره باللاجدوى فيهرب إلى أقوام آخرين رفعوا العلم إلى مصافه فارتفعوا إلى مصافه، بينما استقلنا وشرعنا نقيل من يتصدى أو يسأل ويبحث عن جواب.

يبقى أنني لست من أهل الاختصاص، ولذلك، فإن العلم في نصابه النظري، يلتبس في وعيي بالفن، وفي المجال العملي أنا من هذا العالم، مستفيد ومتضرر، أو مستفيد يحتمل الضرر وأريد عقلاً كونياً عاقلاً يقلل من احتمالات الضرر، وقد مللت من أهل الحق الذين يتذرعون بالحق إلى الباطل، والعلم حق كما أن الموت حق والجنة حق، ولكن الحساب حق أيضا، والعلم جد وجاد، فحذار من العبث بالجد!

إبطالُ العلم بالعلم

هذا سلوك مرذول يبطل العلم بالعلم.. وهو مسلوك كما يعرف الجميع، منذ السحرة والسحر إلى ألفريد نوبل والجائزة أو التكفير عن الذنب، أو عن سلوك حول المعرفة إلى ارتكابات شائنة، إلى نقيضها، فهل هذا منطق؟ هذا من دون أن أنكر علىالعلم ارتقاءه وعلى العالم علمه، وتقديري أن المعرفة الحرة والمتحررة هي التي تحرر العالم والعلم والمستعلم من الأعطال والأعطاب المحتملة دائما في رحلة التثمير للمكتشف العلمي.

إلى ذلك، فإذا كان هناك من مخاطر محتملة، وعظمى، فإن ذلك من شأنه أن يبعث فينا شعوراً بضرورة أنسنة توجهاتنا على المستوى الكوني أو السكوني، أي أن تنعطف الأمم والجماعات على بعضها بعضاً، لتعود إلى سياق الشراكة الحضارية والثقافية، وهي الضمانة الوحيدة للوجود، للاستمرار في الوجود، فضلا عن كمالات هذا الجود. أي أن العولمة التي أتت من تحولات علمية، يمكن أن يتوافر لها من الاكتشاف الجديد منبه إلى صيانة مادتها البشرية بالحفاظ على نمط من العلاقة بين الإنسان والطبيعة يكف فيه عن الهجس بقهرها، لأنه يقهرها ثم ينقهر، ولأنه يلعب بالنظام فيلعب بروحه وجسده، متناسياً أنه لم تكن حدة الوجود مسلمة فوحدة الموجود ماثلة، والعلم إن لم يجمع صار سحراً لأن السحر يفرق، أي هو اللاعلم.

ختامي أن مخاوفي تتركز في فارق الأهلية بين الأمم والشعوب والأقطار، هذا الفارق الذي يتيح لي أن أستبشر أو أغتم، ونحن العرب، مدعوون إلى مضاعفة نشاطنا العقلي، حتى يحق لنا أن نستبشر ونشارك. إذن فسؤال المستقبل مطروح علينا بحدة وإلحاح، والإنشاء والخطاب التعبوي لا يجدي.

والمستقبل صعب يحتاج إلى عقل ودأب، وبقدر ما نكون مستقبليين نكون أشد احتياطا لموقعنا وموقفنا من جميع الاكتشافات بما فيها الجينوم البشري. عندما تصبح لدينا مراكز علمية تشكل حيزاً حراً للمراكمة لا للتبديد والمصادرة والتفريغ والتبسيط والتعبئة والتحريض، عندما تلحظ مجتمعاتنا الأهلية والمدنية الموغلة في إلقاء التبعة على الدولة الصعبة والإشكالية، والمستقيلة من المقدار الأعظم من مهماتها النهضوية، فضلا عن حكوماتنا، عندما تلحظ وتضع ميزانية وافية ومجزية بمتطلبات البحث العلمي، وتكف عن وضع اليد على العلماء، من دون مانع من أن يكون الناتج العلمي ملك يمينها إن لم تكن مشلولة أو مدمنة على السرقة، عندئذ نكون قد سمعنا ورأينا، وطرقنا باب الغد على مخاوف أقل، أو على مخاوف من دون هلع كما نرى، وإلا سوف يبقى أقل الاكتشافات العلمية وأهونها شأنا مثار خوفنا ورعبنا من غدنا، لأن الإنسان عدو ما جهل. وكلما ازداد أعداؤنا عدداً وعداوة، أليس مذهلا ومحبطا أن أدبياتنا وخطابنا اليومي خاليان من تعبير الصداقة؟!

وفي خلاصة، قد يكون اكتشاف الجينوم - أو هو فعلا نظراً إلى ما توالى بعده من كشوفات علمية نوعية - كشفاً جديداً أو تحريراً جديداً للمساحة المشتركة بين حقول معرفية تطبيقية، وأخرى نظرية تحتل الفلسفة موقع الصدارة منها، لأن الأسئلة التي يطرحها هذا الإنجاز تعيد إلى جو أو حال من النشاط الفلسفي، كما تثيرنا من ناحية ثانية لتعيدنا إلى طريق الحوار والسجال واستثمار الاختلاف التعدد في النظر العلمي.

ويعيد هذا الإنجاز إلى العلم أو يعيد تأكيد أهلية العلم لمراودة الأسرار، إلى ضرورة الالتفات إلى أن هناك أسراراً قد لا تكون في متناول المعرفة العلمية المباشرة، ما يضعها في مجال معرفة من نوع آخر (كشفية أو ذوقية مثلا) - صوفية - من دون أن تكون مخرجاتها بالضرورة ضد العلم، بل هي علم بتعريف آخر ويتم الوصول إليه بآليات أخرى، مسلكية معرفية أي معرفة أولية تبعث على السلوك وسلوك يبعث على المعرفة.

قلق الرّوح

أما الغيب، أي ما وراء الجدار الطبيعي الذي يمكن أن يكون شفافاً بمقدار ما يكون الناظر من خلاله شفافاً، فإنه ضروري، لأن هذا المشهد أو المشهود الغني جداً لا يكفي، أو قد لا يكفي، وعليه فيصبح الغيب منتهى اطمئنان وتخفيف من القلق، قلق الروح، الذي يخف ريثما يحتدم ليستمرالكدح إلى الله عبر الذات، من بوابتها إلى الفضاء الإنساني أو الغيري (أقربهم إلى الله أنفعهم لعياله)، إذن فلا ضرورة لكشف الغيب، بمعنى هتكه، إلى ذلك فإن هذا الغيب عصي على الهتك، وقد يتهتك من يصر على هتكه.

والخلاصة أن العلم إذا ما حاول إضافة الغيب إلى الشهود عن طريق الإدراك الموضوعي له، وألح على ذلك فإنه واصل إلى نهايته - نهاية العلم - حيث ينطفئ السر الذي يشتعل بالإقبال عليه وطلبه فيضيء مخيلات العلماء والشعراء والفلاسفة وتزدهر النبوة. ومن كان مثلي متنزهاً في حقول المعرفة وفي مختلف الفصول، فإن العلم في وعيه وتكوينه يلتبس بالفن، أي بالحساسية التي تحرك فيه النزوع إلى البحث عن المعنى فإذا ما تخيل أنه قد أدركه شرع في البحث عن معناه، عن معنى المعنى، عن الحب الذي هو مثل السفر أو الشعر الذي هو مثل الحب، والذي هو ميلاد بلا حسبان، أو ما باحت به الشفتان بغير أوان، كما يقول صلاح عبدالصبور، ولا أوافق على اعتبار هذا الالتباس أو الملابسة بين الفن والعلم عيباً في الفن أوالعلم،بل إن ذلك هو الأقرب إلى ضرورة التركيب أو التعدد في التكوين والذي هو مصدر حيوية وإبداع. على أن آخر العلم هو أول الشعر والخيال والحلم والحدس وكل العناصر الضرورية للإبداع. والتي يسهم العلم، وأحياناً وحده مع مستوى من الاستعداد الذاتي لدى العارف أو الفنان، في إعدادها وتأهيلها للتسييل شعراً وتشكيلاً وتعبيراً.. إلخ. بين العلم والفن يتجلى الإيمان متكئا على شرطيه الموضوعي «العلم والعقل والذاتي (الذوق) أو القلب». ويستقر العلم والدين كحقلين معرفيين لا تناقض بينهما ولا تطابق، لأن كلا من التناقض والتطابق يعني تبادل الإلغاء والنفي بينهما، في حين أنهما غير متلاعبين، وإذا كان العلم واجباً على الإنسان بما هو حق كذلك فإن الإيمان تكليف أيضا وحق للإنسان وعليه، والحساب حق، فلا بد من حساب المؤمن إذا ما انتهى إيمانه إلى العجب والغرور، لأنه يلغي ذاته بذاته ويلغي الآخرين، ولابد من حساب العلم، على قانون الحرية، إذا ما أدت ثمراته إلى تمكين العابثين بالإنسان روحاً وجسداً، لأن ذلك احتمال لإساءات أو رذالات ذمة العلم بريئة منها، إلى ذلك فإن هذا المسلك يقوض أسس العلم الذي يشترط التقوى على ذاته وذات حامله، ولعل السبيل الأمثل إلى التحرر من الأخطاء الفادحة، كالاندفاع المحتمل من دون ضوابط في استخدام خارطة الجينات في خلخلة أنظمة حياتية بدل استخدامها في معالجة الخلل الطبيعي في الخلق والتكوين، العلاج الأمثل هو المعرفة الحرة، أو المتحررة أو المحررة، التي تستبعد من مقاصدها تحدي القوانين الطبيعية و كسرها، وهو غير تطويرها الذي يتضمن الحفاظ على المستوى الجمالي والإنساني فيها. إذن، لماذا الإلحاح على قهر الطبيعة مثلا؟ ألم يؤد ذلك، أو أنه سوف يؤدي إلى قهر الذات العالمة وغيرها؟ ومن يسع إلى الإخلال بالنظام الكوني قد لا يحقق سوى الإخلال بنظام روحه وعقله وجسده واجتماعه. ولكي يتحرر العرب، بعضهم أو الكثير منهم من القلق الذي يبعثه في نفوسهم الإنجاز العلمي النوعي المفاجئ لهم، أو لأكثرهم، ربما كان عليهم استفنار جميع طاقاتهم والكف عن تعطيل بعضها والتبذير في بعضها الآخر، ومضاعفة جهودهم العقلية والبحثية ومراكمتها بأسلوب هادف ومخطط. والتأسي بالإيجابي جداً أو المفيد جداً من سلوك الغربيين، الذين بنو حضارتهم على أكتاف العلم، وإن كان هناك كثير من المظالم التي ارتكبت فإن العلم لم يكن هو الباعث عليها أو المسوّغ لها، وإن كان فاعلوها قد استخدموا ثمرات العلم فيها، كما أن المراكز العلمية المستقلة عن المصالح السياسية الضيقة، والمتمتعة بميزانيات محمية من الهدر والمحاباة والمحكومة بهاجس إعادة تجديد الحركة التبادلية بين المعرفة والثروة، حفظاً لكل منهما بالآخر، هي مطلب محق لأنها تشكل المكان الأنسب والألزم للشراكة في إنتاج المعرفة وتشغيلها. من هنا لعل بإمكاننا أن نؤمن كل الاحتياطات من أن تتحول الاكتشافات العلمية - التي لا يدركنا منها سوى نتائجها الغامضة غالبا - إلى أسباب لتوسيع وترسيخ الطمأنينة الوجودية وتنشيط القلق المعرفي، بدل أن تبث الهلع في نفوس العرب والمسلمين وتغريهم بالاستعصام بالجهل أو الذهاب إلى الخرافة حماية لذاتهم من رياح العلم التي إن لم تكن لواقح أصبحت صواعق.

بالعلم المنظم على حريات منظومة وحوافز إبداع جادة نواجه أو نلاقي المستقبل بالشجاعة الناجعة، أما المخاطر المحتملة دائماً والتي يزيدها كسلنا خطراً، والتي قد تنجم عن هذا الاكتشاف العلمي أو ذاك. والتي يتخوف منها الآخرون ومنتجوها أيضاً، فلا يجوز أن تكون ذريعة لثني الباحث عن البحث، بل يحسن بها أن تجعل توجهات الباحثين أكثر إنسانية، وعاملا في تسييد اللحمة بين الأمم والجماعات على القطيعة وتبادل الخوف، وتحقق بذلك الشراكة الثقافية والحضارية الضامنة للجميع.

----------------------------

حيوا أمامةَ واذكروا عهداً مضى
قَبْلَ التّصَدّعِ مِنْ شَماليلِ النّوَى
قالتْ بليتَ فما نراك كعهدنا
ليت العهود تجددتْ بعد البلى
أأُمَامُ! غَيّرَني، وأنتِ غَريرَةٌ،
حاجات ذي أربٍ وهمٌّ كالجوى
قالَتْ أُمامَةُ: ما لجَهْلِكَ ما لَهُ،
كيف الصبابةُ بعد ما ذهب الصبا
ورأت أمامة في العظام تحنياً
بعدَ استقامته وقصراً في الخطا
ورأتْ بلحيته خضاباً راعها
وَالوَيْلُ للفَتَياتِ مِنْ خَضْبِ اللّحَى
وتقولُ أني قدْ لقيتُ بليةً
من مسح عينك ما يزالُ بها قذى
لَولا ابنُ عائِشَةَ المُبارَكُ سَيْبُهُ،
أبكَى بَنىّ وَأُمَّهُمْ طُولُ الطَّوَى
إن الرصافةَ منزلٌ لخليفةٍ
جَمَعَ المَكارِمَ والعَزائِمَ والتُّقَى

جرير

 

 

 

هاني فحص