مهنة تأليف الخطب السياسية.. ماض مشبوه ومستقبل مزدهر

مهنة تأليف الخطب السياسية.. ماض مشبوه ومستقبل مزدهر

على مدار قرون طويلة كان السياسيون يُعدُّون بأنفسهم الخطب التي يلقونها في الجماهير. وسواء اختار هؤلاء السياسيون أن يستعينوا بنص قاموا بكتابته وحفظه، أو أن يتركوا أنفسهم على سجيتها ليرتجلوا ما تفرضه اللحظة، فإنهم في كل الأحوال كانوا ينطقون ما سطرته قريحتهم ويعبرون عن بنات أفكارهم. وكان من النادر اللجوء إلى أشخاص آخرين لكي يكتبوا لهم خطبهم، أو لكي يلقنوهم ما يجب عليهم قوله، أو الطريقة التي يقولونه بها. فقد كانت مهارة الكلام متطلبًا لممارسة السياسة، وكانت الاستعانة بآخرين لمساعدة رجل السياسة على الكلام أو الخطابة تنطوي على اعتراف ضمني منه بأنه يفتقد هذه المهارة.

على الرغم من ذلك فإن مهنة تأليف الخطب السياسية من أقدم المهن في الثقافة الغربية. فقد عرفت اليونان القديمة شريحة من دارسي البلاغة الذين كانوا يكسبون عيشهم بواسطة كتابة الخطب للآخرين. وعلى الرغم من أن العديد من الشخصيات البارزة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثل الرئيس الأمريكي جورج واشنطن - قاموا بتوظيف أشخاص لكتابة خطبهم؛ فإن هذا العمل كان يتم في إطار من السرية، لأنه كان يُتوقع في هذا العصر أن يكون المرء قادرا على أن يكتب الخطب لنفسه، وإلا اتهم بأنه غير بليغ. لقد كان تكليف شخص آخر بكتابة الخطب عملا شائناً، وكان الكشف عن هذا العمل يُدرَج في إطار الفضائح.

هذه النظرة السلبية لمهنة كتابة الخطب السياسية تغيرت في القرن العشرين؛ فقد انتشرت المهنة في أرجاء المجتمع الأمريكي ثم الأوروبي. ولم تعد وصمةً في جبين من يقوم بها من السياسيين أو الكتّاب. لكن ذلك لم يحل دون وجود اتهامات لكتَّاب الخطب السياسية بافتقاد البعد الأخلاقي. وقد تصاعدت هذه الاتهامات في خمسينيات القرن العشرين استنادا إلى أن كتّاب الخطب السياسية يحققون التأثير في المستمعين بواسطة الإغماض والتضليل؛ ومن ثمَّ فإن عملهم يفتقد إلى الأخلاقية، كما أنه يشوه سمعة البلاغة. وقد دافع البعض عن مهنة كتابة الخطب السياسية استنادا إلى أن المهنة موجودة على مدار التاريخ، وأنها مهنة لا يمكن الاستغناء عنها، وليس من المفيد التقليل من قيمتها أو الادعاء بافتقادها للأخلاق. كما أن هؤلاء الكُتَّاب يبذلون جهدا في دراسة الأساليب البلاغية لرجال السياسة الذين يكتبون لهم، وفي محاولة الاقتراب بكتابتهم من أسلوبه، ويحاولون الالتزام بالتعبير عن أفكارهم بأوضح الطرق وأكثر الأساليب رقيًا.

شهد النصف الثاني من القرن العشرين تغيُّرات جذرية في ممارسات التواصل السياسي في العالم. أحد هذه التغيرات هو تزايد اعتماد السياسيين على مجموعات من المتخصصين لكتابة خطبهم السياسية، ولتدريبهم على أفضل أداء لها. فلم يعد من الشائن اللجوء لشخص أو مؤسسة لكتابة هذه الخطبة أو تلك. وقد أدى انتشار مهنة تأليف الخطب السياسية إلى إطلاق تسمية خاصة على الشخص الذي يقوم بكتابة مشروع خطبة، لكي يقوم شخص آخر بإلقائه دون إشارة إلى مؤلفه الأصلي هي الكاتب الخفي The Ghost Writer. أما عملية كتابة الخطب ذاتها فيُطلق عليها الكتـابة الخفيَّة The Ghost Writing.

مهنة واحدة وتقاليد مختلفة

يوجد اختلاف كبير في تقاليد مهنة كتابة الخطب السياسية بين المجتمعات المختلفة. ففي أمريكا على سبيل المثال- يقوم بإعداد الخطبة عدد كبير من المستشارين والخبراء متعددي الاختصاصات. فهناك البلاغيون المتخصصون في الصياغة اللغوية، وخبراء الاتصال الجماهيري المعنيون بتحليل توجهات الجماهير وسلوكياتهم، وعلماء الاجتماع والنفس المتخصصون في سوسيولوجية الجماعة وسيكولوجيتها، إضافة إلى رجال السياسة ومتخصصي العلوم السياسية. وقد أُشيع أن خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي وجهه للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة قد اشترك في كتابته فريق عمل تكوَّن من عشرات المستشارين. كذلك توجد مؤسسات متخصصة في توفير خدمة كتابة الخطب السياسية لكل من يحتاج إليها، تروج لخدماتها ومنتجاتها مثل أية مؤسسة خدمية أخرى. ولا يوجد في أوربا وأمريكا في الوقت الراهن أي حرج أو غضاضة في التصريح باسم المؤلف الحقيقي للخطبة، أو الحديث عن عملية تأليفها أو المراجعات التي خضعت لها. وفي بعض الأحيان يُدعى مؤلف الخطبة السياسية للحديث عن تجربته في كتابة الخطب السياسية.

على خلاف ذلك فإن عملية كتابة الخطب السياسية في العالم العربي عادة ما يقوم بها شخص واحد وليس فريقا من الخبراء وكتاب الخطب. هذا الشخص غالبا ما يكون من الصحفيين العاملين في مؤسسات صحفية حكومية أو ناطقة بلسان الحكومة. فلم تعرف المجتمعات العربية مهنة كاتب الخطب الذي يتخصص في هذا النوع من الكتابة، كما لا توجد مؤسسات متخصصة في توفير «خدمة كتابة الخطب السياسية»، وتوصيلها للراغبين في الحصول عليها. وأخيرا فإن كتابة خطب الحاكم في السياق السياسي العربي يُنظر إليها على أنها مهمة سرية، لا يجوز الكشف عنها أو التصريح بها، أو التطرق لأيٍّ من ملابساتها. وهو ما يفسر أن المعلومات التي تتعلق بهذا الأمر لا يتم الكشف عنها إلا بعد وفاة الحاكم نفسه؛ وهو ما يعني أنه يوجد شكل من أشكال الإلزام الصارم لكاتبي الخطب بعدم «إفشاء» هذا السر. وهو أمر يبدو مفهوما في إطار مجتمع يظن الكثير من أفراده أن الحاكم هو الذي يكتب خطبه بنفسه!

«الكاتب» و«الحاكم»: تضارب المصالح والرؤى

تبدو مسألة تأليف خطب السياسيين من الأهمية بمكان إذا نظرنا إليها من زاوية الدور الذي يقوم به مؤلفو الخطب في صياغة أيديولوجيا الحكم، وأيديولوجيا الطبقة الحاكمة. من الضروري أولا التأكيد على أن رجل السياسة يختار الكاتب الذي يشاطره اقتناعاته واختياراته ليكون معينا له في صياغة خطبه السياسية. كما أن كتاب الخطب بدورهم يحاولون أن تقترب مشاريع الخطب التي يُعدونها لرجل السياسة مما يعتقدون أنها اقتناعاته واختياراته؛ وإلا جازفوا بفقد عملهم. لكن من الصحيح أيضا -كما يرى عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيير بورديو- أن جزءا من اقتناعاتهم واختياراتهم الخاصة تتسرب إلى الخطب، بوعي أو دون وعي. تلك القناعات والاختيارات قد تتلاقى أو لا تتلاقى مع اقتناعات واختيارات السياسي الذي سيلقي الخطبة، لكنها في كل الأحوال تخدم مصالح كتّاب الخطب بقدر ما. وبحسب نص بورديو فإن الأيديولوجيات تتحدد دوما تحديدا مزدوجا، كما أنها لا تدين بأكثر خصائصها نوعية للمصالح الطبقية التي تعبر عنها فحسب، بل للمصالح الخاصة لأولئك الذين يُنتجونها، وللمنطق النوعي الذي يتحكم في مجال الإنتاج، الذي عادة ما ينقلب إلى أيديولوجيا الإبداع والمبدعين.

هذه الفجوة بين أيديولوجيا الحاكم وأيديولوجيا كاتب خطبه ليست مجرد فجوة نظرية. فهي تنعكس في شكل صراع خفي أو معلن بين رؤى ومواقف ومصالح الكاتب والحاكم. وغالبًا ما يتم حسم الصراع بينها بواسطة عدة اختيارات ممكنة. الاختيار الأول وهو الأكثر شيوعا هو أن يتخلى الكاتب عن رؤاه ومواقفه ويقوم بكتابة نص يروِّج لرؤى الحاكم ومواقفه، على الرغم من اختلافه معها. وهذا هو الاختيار الذي يتوقعه الحاكم وينتظره من الكاتب. الاختيار الثاني هو أن يرفض الكاتب التعبير عن رؤى الحاكم ومواقفه. وهو الاختيار الأصعب. ويتفرع هذا الاختيار إلى اختيارات فرعية؛ فالكاتب قد يرفض كتابة مشروع الخطبة أصلا، أو يتفاوض مع الحاكم لكي يصلا إلى صيغة توافقية، أو يحاول دس رؤاه ومواقفه الخاصة في مشروع الخطبة.

على الرغم من أن كُتَّاب الخطب قد ينجحون في بعض الأحيان في دس رؤاهم في الخطب، فإن سعي الكاتب إلى «تعليق الجرس في رقبة الحاكم» هي مهمة أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح. فالحاكم يمتلك حرية شبه مطلقة في أن يقول ما يرغب في قوله، وأن «يحذف» ما لا يرغب في قوله. ومن ثمَّ فإن مقياس نجاح كاتب الخطب من منظور الحاكم يكمن في قدرته على أن يكون لسان الحاكم وقلبه وعقله، وأن تكون غايته القصوى هي الحفاظ على مصالح الحاكم واختياراته، ووضعها فوق كل اعتبار. ومن المؤكد أن هذا المعيار للنجاح يفتح الباب أمام طرح تساؤلات حول أخلاقية مهنة تأليف الخطب السياسية التي يتزايد انتشارها وازدهارها في عالم السياسة المعاصرة.

تأليف الخطب السياسية ومعضلة الأسلوب

«الأسلوب هو الرجل»! هكذا يتعلم الطلاب في بداية دراستهم لأساليب الكلام والكتابة؛ سواء في الأدب أم الصحافة أم الحياة اليومية. فالأسلوب الذي نتكلم أو نكتب به يحمل خريطة شخصيتنا بكل ملامحها وتفاصيلها. فعلى صفحة الأسلوب تنعكس تربيتنا والبيئة التي نشأنا فيها وخبراتنا وتجاربنا وثقافتنا ومعارفنا واختياراتنا الاجتماعية والسياسية. وإذا تخيلنا الأسلوب «مرآةً»؛ فإن ما يقف أمام هذه المرآة هو شخصية الإنسان عارية من كل شيء.

إن عبارة «تكلم حتى أراك» ليست إلا تعبيرا بليغًا عن قدرة «أسلوب» المرء على صياغة شخصيته أمام الآخرين. هذه القدرة هي التي تمكننا من الإلمام بمعلومات جوهرية ومهمة عن الشخص بمجرد أن يتكلم. فما إن ينطق بضع عبارات حتى نصبح قادرين على تخمين البلد التي ينتسب إليها (بواسطة اللكنة أو اللهجة)، والعمل الذي يمارسه (بواسطة شيوع مفردات بعينها)، ومستوى ثقافته (بواسطة درجة استخدام الفصحى مقارنة بالعامية)، والأفكار التي يعتنقها (بواسطة الذخيرة الخطابية التي يتضمنها كلامه كأن يمتلئ بالمفردات الدينية أو الليبرالية..إلخ)، وطبيعة تفكيره (بواسطة أساليب الحجاج التي يوظفها في الإقناع)، والمستوى الاجتماعي الذي ينتمي إليه (بواسطة شيوع مفردات بعينها، واستخدام الأساليب المباشرة). بل يمكن من خلال اللغة كذلك التعرف على ملامح دقيقة من شخصيته مثل الوضوح أو الغموض والثقة بالنفس أو اهتزازها.. إلخ؛ من خلال استخدام أدوات التوكيد وصيغ المبالغة والمجازات والتراكيب اللغوية ..إلخ.

إن حقيقة أن «الأسلوب هو الرجل» تضعنا أمام معضلة مربكة فيما يتعلق بالخطب السياسية, فالخطبة يكتبها «رجل»، ويلقيها «رجل» آخر؛ فأي «رجل» منهما يمثله أسلوب الخطبة؟ هل الخطبة هي الرئيس أم الخطبة هي الكاتب؟ لقد ذهب بعض المغالين في رفض «مهنة كتابة الخطب السياسية» إلى أن الرئيس الذي يوكِل لغيره مهمة كتابة خطبه يغامر بالاختفاء؛ إذ لا يبقى سوى شخصية كاتبه. وأن عمل تأليف الخطب السياسية يدخل في باب التزييف، لأنه يجعل الجماهير تكوِّن صورة للرئيس مغايرة لما هو عليه بالفعل. لكن هذه المغالاة في تقدير تأثير كتاب الخطب تواجهها حقائق واضحة؛ منها أن كاتب الخطب ينتهي وجوده بالنسبة للخطبة، في اللحظة التي يقوم فيها الرئيس بإلقائها. حيث تصبح الخطبة ملكية كاملة للرئيس، ليس لكاتبها الحق في ادعاء أي شيء فيها لنفسه. وبالمثل فإن الجماهير تتعامل مع ما يقوله الحاكم على أنه «قول» الحاكم، وليس قول مستشاريه أو مساعديه. حتى في دائرة البحث الأكاديمي فإن دارسي الخطب السياسية يدرسون الخطب وفق مسلمة هي أن ما يقوله الرئيس يمثل أسلوبه وبلاغته بغض النظر عما إذا كان هو من قام بكتابته أو كتبه أشخاص آخرون. وهكذا نقرأ دراسات عن «بلاغة مارتن لوثر كينج»، و«لغة أوباما»، و«أسلوب عبدالناصر» دون أن توجد مشكلات حقيقية بسبب وجود أشخاص يكتبون لهم مشاريع خطبهم. لكن ذلك لا ينفي التوتر الدائم بين أسلوب الحاكم, كما يتجلى في خطبه المرتجلة وأسلوب كتَّاب خطبه الذي تشفُّ عنه خطبه المقروءة.

 

 

 

عماد عبداللطيف