«أهل مكة أدرى بشعابها»، والدكتور عبدالله الغذامي، بلا شك، أدرى بشعاب ومنعطفات وسمات مجتمعه، حين تصدى لتأليف كتابه عن حكاية الحداثة والتحديث في السعودية. وقد جاء هذا المؤلَّف استكمالاً لحيثيات مشروعه النقدي حول (الأنساق الثقافية)، وهو المشروع الذي قدّم له بكتابه الأشهر في النظرية النقدية، وهو (الخطيئة والتكفير).

تبدو السمة الأكثر جذباً في هذا الكتاب، متمثلة في نَفَسه الأقرب إلى السيرة الحياتية، أي سيرة حياة مجتمع مندغمة بسيرة حياة فرد في هذا المجتمع، هو عبدالله الغذامي نفسه، حين رصد صراعه الفكري ومعاركه الثقافية بمستوياتها المختلفة، مع مجتمع (محافظ) و(تقليدي)، بل مفرط في حفاظه على (سكونيته)، ودفاعه عن (أنساقه الثقافية) بضراوة، كما عبّر الكاتب.

إن مسألة الحداثة، كما يطرحها مقترحوها، وكما تطرحها آلية الزمن المطردة أيضاً، لابد أن تخلق هذه الجدلية الصراعية بين السكون والحركة، وبين الطمأنينة إلى القيم القارّة في أصول المجتمع، والمستجدات الوافدة، فكرية كانت أو مادية. وما هذه الحكاية عن الحداثة في المملكة العربية السعودية إلا محاولة لرصد مشهد من مشاهد هذا المخاض الاجتماعي العسير، وتلمّس شئونه وشجونه، والتعرف على أبطاله وصانعيه.

وحين اقترح د.عبدالله الغذامي تعبير (حكاية) عنواناً لكتابه، فإنه بلا شك، كان مدركاً بأن أفضل منهج لمقاربة هذا اللون من البحث الاجتماعي/ الثقافي/النفسي، هو باعتماد هذا الأسلوب الحكائي، الأقرب إلى واقع الحياة وإيقاعها وشخوصها وحبكتها. فضلا عن حاجته الماسة، في سياق القص، إلى ذكر الشواهد والأسماء والمواقف، مدعومة ببؤر الصراع في تأزمها وانفراجها، وعلاقاتها بأزمنة وأمكنة الحدث. وفوق ذلك، هناك حضور طاغٍ لبطل الحكاية، وهو الغذامي نفسه، وتحريكه للحدث أو القضية الأساسية، وهي الحداثة.

ولكي يأخذنا الغذامي إلى آفاق حكايته على هدى وبصيرة، فإنه يبدأ بتعريف الحداثة من وجهة نظره، فيرى بأنها (التجديد الواعي،... الذي لا يكون إلا بفتح أفق الوعي الحداثي على آفاق الاجتهادات التجديدية كلها، سواء جاءت على يد سياسي أو مصلح اجتماعي أو مبدع أو مفكر قديم أو حديث، مع استبعاد الحصر في الأدب دون سواه واستبعاد العنصر الزمني، وستتساوى في ذلك ابتكارات أبي تمام مع السياب، لأن الاثنين معاً كانا يتصرفان بوعي وإرادة مسبقة).

مشروع بناء الدولة.. والخطوة الأولى

ولإيمان المؤلف بأن الفعل الحداثي، هو فعل ثقافي عام، كما قال في تعريفه، وليس مقتصراً على الأدب فقط، فقد أحسن صنعاً، حين وسع من رؤيته في رصد مظاهر التحديث في المجتمع السعودي، وجعلها أكثر شمولاً. فقد بدأ من مشروع بناء الدولة الحديثة الموحدة في المملكة، ورآه مشروعاً يكمن وراءه وعي بشروط التغيير ومتطلباته. إذ إن انتقال المجتمع من القبيلة والريف والتجزئة، إلى مجتمع سياسي وإداري موحد تحت بناء (الدولة)، يتطلب وعياً بمفهوم الدولة وشروط بنائها. ثم توالت الأمثلة على إدراك الدولة الفتية، التي تأسست مطالع القرن العشرين، لدورها في التأسيس للتحديث، من هذه الأمثلة توطين البدو في مستوطنات مدنية مستقرة وهي (الهجر)، وتحويلهم إلى مواطنين مدنيين، ليندمجوا في النظام الجديد، ولئلا يكونوا خطراً على المشروع. ومن الأمثلة تأسيس الإدارة، وإدخال نظام العمل الوظيفي. وهو نظام تتحول فيه التصورات من العمل للقبيلة إلى العمل للدولة. ثم يأتي في السياق ذاته، إنشاء العلاقات مع الدول الأخرى، لتأسيس مفهوم جديد للعلاقات مع الآخر، تحقيقاً للاستقرار والمصالح المتبادلة. وقد اعتبر المؤلف أن مشروع بناء الدولة هو أولى علامات الحداثة في السعودية، وإن لم يُستخدَم مصطلح (الحداثة)، لأن المصطلح لم يكن قد ظهر أو تم تداوله حينذاك. ولكنه ولا شك علامة تحول جذري، ليس فقط كشرط لقيام دولة حديثة، ولكنه أيضاً علامة على نقلة واعية من نسق ذهني إلى نسق ذهني آخر، يصفها الغذامي بـ (الحداثة). ولكن هذا الحراك الأولي نحو متغيرات العصر والتحديث، لم يُقيّض له أن يمر سلساً سهلاً، وإنما كان لا بد منذ البدء أن يتصادم النسقان الذهنيان، وأن تكشف المحافظة عن أسلحتها الدفاعية. فظهرت المعارضة ضد التعليم الحديث، وخاصة تعليم الإنجليزية (لغة الكفار)، والجغرافيا التي تقول بكروية الأرض، ووقف المعارضون ضد الأدوات والآلات الحديثة كالراديو واللاسلكي والطابعة، وأزياء لابسي البناطيل من الكفار... إلخ.

وقد كان من الملائم في هذا السياق من العرض التاريخي للمراحل الفكرية للمجتمع السعودي، لو بحث الغذامي في الجذور التاريخية، لسمة التحرز والانغلاق المسرف لدى المؤسسين الأوائل، وأثرها في إبطاء وتأخير آلية التطور الطبيعي في المجتمع السعودي، مقارنة بمحيطه الجغرافي. وهي سمة تكاد تكون أصيلة في صحراء مغلقة على نفسها، لم تستطع أن تتهادن مع الآخر المختلف، بغير الإخضاع والغزو حيناً، وتصدير المحافظة والغلو حيناً آخر. يصدق ذلك على غزوات الوهابيين المتتالية للكويت على سبيل المثال، وكان آخرها وأشهرها معركة الجهراء عام 1920م. وما كان هذا الصراع في حقيقته، سوى صراع فكري بين الانفتاح والانغلاق، أو بين التحديث والمحافظة، أكثر منه صراعاً حربياً أو توسعياً. وقد جاء المؤرخ الكويتي عبدالعزيز الرشيد على ذكر جملة من الحوادث الدالة على فكر (الإخوان)، ونهجهم الرافض للتحديث، وعدم الترحيب بأصحاب الفكر الإصلاحي وزياراتهم للمنطقة، مثل العلامة الكبير الأستاذ رشيد رضا، وعدم التورع عن وصمه بالكفر والإلحاد واستحلال دمه. أما وفود الشيخ عبدالعزيز العلجي من الأحساء إلى الكويت، وجهوده الحثيثة في محاربة التيارات الإصلاحية والتعليمية والانفتاحية آنذاك، (مطلع القرن العشرين)، فمعروفة. ومشهورة أيضاً، حادثة إفتاء الشيخ العلجي باستحلال دماء ثلاثة من رجال العلم والإصلاح والتنوير الكويتيين، وهم: الشيخ عبدالعزيز الرشيد، والشيخ يوسف بن عيسى القناعي، والشاعر صقر الشبيب. وقد أفاض الدكتور خليفة الوقيان، في كتابه (الثقافة في الكويت / بواكير واتجاهات)، بإيراد جملة من المعارضات الشعرية بالفصحى والعامية، تمثل نماذج من المعارك الكلامية حامية الوطيس، بين فريق يكفر وينفر باسم الدين والمحافظة، وفريق يجاهد مستميتاً في الدفاع عن مكتسباته الثقافية، وحرياته المشروعة.

جهود ثقافية متقشفة

بالعودة إلى سياق حكاية الحداثة في السعودية، التي يرويها الغذامي، فإن محاولات تأسيس الدولة الحديثة صاحبتها بعض مظاهر ثقافية ظهرت على استحياء إبان عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وهي عبارة عن أصوات اهتمت بالأدب وأسئلته الثقافية، أو ساهمت في إصدار مطبوعات وكتب. منهم على سبيل التمثيل محمد حسن عواد، وحمزة شحاتة. ولكن هذه المبادرات سرعان ما تعرضت للمطاردة والمصادرة، والتنادي بالويل والثبور لمعاقبة العواد، وذلك بقتله أو سجنه أو نفيه خارج البلاد. أما شحاتة فقد قتله الإهمال والاستخفاف، فقرر الهجرة إلى مصر وهجر الشعر والأدب إلى غير رجعة! وهكذا مرت الموجة الثقافية الأولى، دون أن تستطيع زحزحة الواقع المحافظ، أو إلقاء حجر في مياهه الراكدة. تزامن ذلك مع سيادة الأمية، وندرة المدارس، وصعوبة التواصل المعرفي مع الكتاب والصحافة العربية، واحتكام الجيل إلى ثقافة تقليدية انعزالية.

هذا الواقع الثقافي الراكد والمحافظ امتدّ، حسب رأي الغذامي، إلى عقد السبعينيات من القرن العشرين، ولم يحرك من ركوده ومواته، إلا ظهور جيل جديد من الشعراء الشباب، مثلوا الحداثة الشعرية، من خلال تبنيهم لقصيدة التفعيلة. وقد خلق ظهورهم شبه الجماعي وباطراد، جواً حركياً، وكأنهم ضمن حركة مدروسة ومنظمة. الأمر الذي لفت أنظار المحافظين، الذين فوجئوا بالتغيرات الجذرية في بنية النص الشعري ونسقه، فضلا عن غموضه ورمزيته، وما يوحيه للمحافظين وحراس النسق التقليدي، من أجواء شبهات وشكوك. وقد رأى المؤلف أن أهمية هذا الحراك الشعري التصادمي، تكمن في كونه ذا أبعاد اجتماعية وثقافية، وليس مقتصراً على أبعاده الفنية المحضة. أما شعراء هذه الحركة فأشهرهم سعد الحميدين، وأحمد الصالح، ومحمد العلي، و الدميني، وغازي القصيبي. وقد تسلح هذا الجيل الطالع بمواكبته للأطروحات الحداثية في الشعر وفي النظرية النقدية، واشتغل في الصحافة والنشر، وأتقن فنون الحوار والنقاش في الندوات، ورسخ لنفسه وجوداً لافتاً في الدراسات الأكاديمية والبحثية.

هذه الحركة النافرة خارج سياقات التقليدية المحافظة، كانت خروجاً فيه تحدٍ معلن للنسق، الأمر الذي سوف يحفز حراسه، الذين لم يتوانوا في خوض معاركهم ضد أصوات الحداثة ومعتنقيها. ولم يتوانوا أيضاً في وصفهم بالمروق، والعجز، وإفساد الذوق الشعري، والمؤامرة على التراث والأصالة، إلى آخر مترادفات المعجم الإقصائي المعروف. ورغم امتداد هذه الموجة زمناً ومساحة بظهور قصيدة النثر والقصة القصيرة، إلا أن هذين الجنسين الأدبيين الأخيرين لم يتعرضا لما تعرض له الشعر التفعيلي من تصد وهجوم، ربما بسبب صلتهما المقطوعة بالتراث والأصالة التراثية، وبعدهما تبعاً لذلك عن سهام حراس ذلك التراث وتلك الأصالة.

(الطفرة) أو الحداثة المشوّهة

وحتى يستكمل الغذامي مشهد أو مأزق الحداثة في المجتمع السعودي، فقد وسع بؤرة الرصد نحو مظهر من مظاهر الحداثة الاجتماعية، وهو التغير المادي المفاجئ الذي هبط على المجتمع، نتيجة ارتفاع أسعار النفط، وسيولة المال بوفرة مفاجئة، إبان السبعينيات من القرن العشرين. وقد سُمي هذا التغير بمسمى (الطفرة)، وهي تسمية سلبية، توحي بحركة سريعة وطائشة، ولكنها غير مُطمْئنة. لذلك فقد أطلق عليها المؤلف (الحداثة المشوهة). وقد كان لهذه الطفرة جملة من النتائج والمتغيرات الاجتماعية الملموسة. فالكسب السريع والكسب الضخم أصبح ميسوراً دون الحاجة إلى مؤهلات، والفرص السهلة تتدفق عارضة نفسها، وسوق المال والعقار أصبح مسرحاً للمغامرين. ونتيجة للثراء السريع والثراء السهل، فقد ظهر الفرد الجديد، وهو من صنع الطفرة، وهو فرد ذاتي ومادي وانتهازي بجدارة، يتقن الكذب والتلاعب. وضحاياه عادة من الأبرياء الذين ما زالوا يستخدمون اللغة الاجتماعية الفطرية، لا لغة السوق الملتوية الخادعة. فضلا عن أن قيم الطفرة الجديدة المتمثلة بالكسب السريع، مع عدم اشتراط التأهيل، وعدم اشتراط الكدح، أفضى إلى نشوء نموذج بشري لم يعد يرى قيم العمل، ولا يتمثل هذه القيم، ما دامت اللغة المجازية للسوق، وخطاب السوق يحقق له مكسباً ضخماً في ساعات.

ويستطرد المؤلف في تفنيد المزيد من نتائج الطفرة المادية على السلوكيات الاستهلاكية والمظهرية، وعلى قيم العائلة .. إلخ. والأهم من ذلك أثرها في (خلق فرد حداثي مشوّه، وهو فرد نصفه حديث ونصفه تقليدي، ويختلط النصفان حتى ليتمازجا في خليط مزيف، له مظهر يتناقض مع المضمر، وكل مظهر حداثي ينطوي على باطن رجعي). ويرى الغذامي أن (الطفرة) هي الوجه الآخر لعملة (التنمية)، والتنمية قد أفاءت على المجتمع السعودي بالخير والفائدة بلا شك. أما ما وقع من أخطاء فهو من صنع البشر أنفسهم وسوء تدبيرهم. ثم يطلق هذا السؤال المحير: هل تحديث الوسائل يكفي لتحديث الذهنيات؟! منطلقاً من هذا التساؤل الاستنكاري، نحو رصد أهم معوقات الحداثة التنموية، ناعتاً إياها (بالغلطة القاتلة). وهذه (الغلطة) تتمثل في قوله: «إننا استعنا بغيرنا لإنجاز مهمة تطويرنا». ثم يستطرد: «نحن أمام مجتمع قادر بغيره، وما كان لدينا من قيم عمل تقليدية توارثية تراجعت ليحل محلها اتكالية وسيادية تعطل كل رغبة نفسية أو اجتماعية في العمل، وصارت المهنة رديفاً دلالياً للعمالة، وصارت العمالة ذات مدلول سلبي تتعالى عليه الذات الاجتماعية، وتبع ذلك انفصام تام بين عمارة المكان وعمارة الإنسان، حيث صارت التنمية مكانية أكثر منها بشرية، وانتزع البعد الإنساني فيها، حتى إنك لتشعر بلاإنسانية المكان.... قادرون بغيرنا وعاجزون عن تمثل شرطنا الإنساني، حتى صار المكان عندنا أرقى من الإنسان، وصار المكان هو الحداثي لإنسان لما يزل خارج اللعبة».

حكاية الغذامي مع الحداثة

ما سبق كان مدخلاً ضرورياً للحديث عن الخلفية التاريخية والثقافية للمجتمع السعودي، وكان بمنزلة التمهيد للمشهد الذي سيلحق هذا التقديم. وسنرى أن الفصول التالية من الكتاب سوف تكون مكرسة لحكاية الغذامي نفسه، حين يتطوع بتقديم الحداثة وتسويقها فكرياً، في مجتمع لا تزال الأنساق الثقافية التقليدية متجذرة في تربته وكياناته. يقول: «سأروي حكايتي من الآن فصاعداً....، وسأروي ما جرى لي وما جرى حولي. ولتكن سيرة ذاتية، وإن كنتُ أراها سيرة أفكار وليست سيرة شخص، ولكن هل هناك من فرق؟!».

يعتبر الغذامي أن ظهور كتابه (الخطيئة والتكفير) عام 1985م، يعدّ بمنزلة (العلامة) في سياق التأريخ للحداثة في السعودية. إذ تحول مسار الحركة الأدبية والفكرية من الشعر والقصيدة بصيغتها الحداثية الحرة، إلى النقد والنظرية النقدية، التي أصبح لها كيانها المؤثر والمستقل، ولم تعد خادمة للنصوص أو متماهية معها. وبذلك حوّلتْ النظرية النقدية السؤال من سؤال في الإبداع، إلى سؤال في الفكر، وإلى سؤال في المقولات الاجتماعية والثقافية وأنساقها الموروثة، حين أصبح النقد تفكيكاً وتشريحاً، وليس تفسيراً وتأويلاً. إنه فكر نظري يقلب كل المعادلات، إذ لم تعد المسألة مجرد تذوق وأحكام ذوقية، وإنما جاءت النظرية النقدية لتقلب العرف والفهم وتعيد أسئلة اللغة والعقل. إنها مشروع في إعادة النظر وتفكيك الخطاب، وتشريح الثقافة كلها.

ومن هنا بدأت المعركة، وبدأ التحفز لصدّ هذا المشروع الفكري الذي ينذر بالخطر، والذي يتماسّ مع ما قرّ في الفكر النسقي من قيم ومقولات. وبدأت الأصوات ترتفع والجهود تُبذل لدق نواقيس التحذير من النظريات الحديثة، التي تزعزع المقدسات، وتتآمر على الثوابت! ثم يمضي الغذامي بسرد سلسلة من الأحداث والوقائع، مدعمة بالأسماء والشواهد، تحكي جميعها الظروف الصعبة، والمراحل النفسية العسيرة التي مرّ بها، وهو يتلقى ردود الأفعال الغاضبة والاستعداءات السافرة. وقد كانت هذه الحروب تتكالب عليه من شتى مؤسسات المجتمع، سواء في محيط النادي الأدبي في جدة، أو في جامعة الملك عبدالعزيز التي يعمل بها، أو في الوسط الصحافي، أو خلال الندوات وحلقات النقاش. ثم امتد الأذى، من التشهير من قبل الخطباء في المساجد، إلى إطلاق أشرطة الكاسيت الناعقة بالويل والثبور، وانتهاءً إلى الابتزاز النفسي والتهديد الشخصي بوسائل شتى. أما التهم، فهي تهم تتنوع بين وصمه بالمروق والكفر، والتشكيك بأمانته العلمية، إلى الطعن في وطنيته، وأخيراً وليس آخراً نعته بـ (المخرّب) و (المغترب) و(العلماني)، مشيعاً بباقي قائمة الشرور من ماسونية وماركسية وإلحادية!

وفي معرض تفنيده لماهية المعارضة للفكر الحداثي، وأسباب تصديها للطارئ من الطروحات الفكرية، يرى الغذامي أن الخصوم لم يكونوا محسوبين على فئة واحدة من المحافظين:

«فهناك فئة المعارضين لأسباب شخصية بحتة، وهناك معارضون لأسباب ثقافية، وهناك معارضون لأسباب أيديولوجية. وهم من مشارب مختلفة، بعضهم زملاء المهنة في الجامعة، ومنهم حداثيون، ومنهم محافظون، ومنهم الفزعة، الذين يهبون لكل صافرة، والغائب دائماً هو العلم الخالص! وإن جاءت كتابات علمية لا شك في علميتها، إلا أن الصوت الأعلى هو لنواقيس الإثارة والمعارضة والتهييج، حتى لقد دخلت في الأمر دسائس ومؤامرات وحبكات توريط، مثلما هي حملات التشكيك والتشهير».

ثم يفسر هذا التسابق والتكالب بالنعيق على الحداثة، بأنه مؤشر نسقي على استجابات الثقافة المحافظة، وموقفها مما يهز قيم هذه المحافظة ويهدد بتغيير أنساقها. وهذا يتراءى حتى في موقف المنفتحين والليبراليين، حين يرون أن النظرية النقدية في كتاب (الخطيئة والتكفير)، أخطر من مجرد تغيير ذوقي بلاغي، لأنها تغيّر في النسق الذهني والعقلي، وتشرّح كل ما هو رمزي في ثقافتنا. ولهذا قابلوها بالهجوم، بوصفهم صوت النسق وضميره المضمر.

حسابات الأرباح والخسائر

امتدت معركة الفرقاء مع الحداثة، على مدى عقد الثمانينيات من القرن العشرين، متمخضة عن مشهد من مشاهد الحراك الثقافي الساخن، الذي كانت له أرباحه وخسائره. ولعل أهون هذه الخسائر خروج الدكتور عبدالله الغذامي من جامعة الملك عبدالعزيز في جدة - حيث اشتدّت المعاناة مع زملاء المهنة وتأزمت إلى فضاء آخر وجامعة أخرى، هي جامعة الملك سعود في الرياض. أما الثمار فقد تمثلت في سلسلة من المؤلفات، أفصحت عن إيمان الغذامي بتوجهه الحداثي، وإخلاصه لفكره ومشروعه النقدي، لعل أشهرها: (النقد الثقافي/قراءة في الأنساق العربية)، و(المرأة واللغة)، و(ثقافة الوهم / مقاربات عن المرأة واللغة والجسد)، و(تأنيث القصيدة)، و(ثقافة الأسئلة).. إلخ.

أما تأثيرات النظرية النقدية على نطاق المشهد الثقافي عامةً، فتتمثل في قدرتها لاحقاً على فرض الخطاب الثقافي الجديد ليس في مجال النصوص الأدبية فقط، وإنما تجاوز ذلك إلى الأنساق الثقافية الأخرى من سياسية واجتماعية وحضارية. تلا ذلك تواصل مسيرة التأسيس للنظرية، من خلال وفود المبتعثين والدارسين الجدد من خريجي الجامعات الغربية، الذين أثروا المشهد بالمزيد من طروحات ما بعد الحداثة. تزامن ذلك مع فتوحات ثقافية، ذات دلالات توحي بالتحفز، والقدرة على استشعار مفترق الطرق والتحولات الاجتماعية، مثل ظهور (الرواية) التي تكشف وتعري، معبرة عن تحول نسقي ذي دلالة واضحة على التحول. مع الاشتغال في الوقت نفسه على قصيدة النثر بأصوات نسائية خاصة، ورفدها بروح نضالية من الجرأة والتجريب. وأخيراً وليس آخراً، يأتي التدوين عبر الإنترنت، ليشكل خطاباً موازياً لما سبق، وإن جاء بلغة جديدة مفصحة، لا يحدها رقيب اجتماعي أو لغوي، متحدية بذلك الأنساق جميعها!

ووسط هذه الفسيفساء من الإحداثيات الاجتماعية والثقافية، يبدو المجتمع السعودي الآن، وكأنه على وشك الدخول إلى مرحلة جديدة، لعلها تسمح بالمزيد من الحوار الوطني، وربما المزيد من قبول التنوع والتعدد، والمزيد من التسامح.

 

 

السوق التقليدية، هل تطمرها آليات السوق الجديدة

التعامل مع التقنية، من صور الحداثة في المجتمع السعودي المعاصر

حراك اجتماعي يوازيه حراك ثقافي

عمارة تغزو الصحراء وإعمار يستهدف الإنسان