رمضان بعيون علم النفس الاجتماعي.. د. محمود الذوادي

رمضان بعيون علم النفس الاجتماعي.. د. محمود الذوادي

إن حلول شهر رمضان المبارك للعام الهجري 1431 مؤهل بالطبع إلى تأملات على عدة مستويات. فنظراً لتخصصي في العلوم الاجتماعية، رأيت من المناسب إلقاء الضوء على حكمة فريضة الصوم من خلال منظور علم النفس الاجتماعي. فهذا الفرع من العلوم الاجتماعية يهتم بدراسة النفسي والاجتماعي في حياة وسلوكيات الأفراد والجماعات، بحيث يعتبر الكائنات الإنسانية كائنات نفسية.

الرؤية الإسلامية للفرد والمجتمع تجعل العلاقة بينهما علاقة عضوية جدا. أي أنها علاقة ذات ترابط قوي بين الفردي والجماعي. فصلاة الفرد مع الجماعة، على سبيل المثال، تزيد عند الله في أجر المصلي. وأن المسلمين كأفراد مطالبون بالتضامن الجماعي المتين حتى يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.

إن منافع صيام شهر رمضان كفرض على المسلمين البالغين والقادرين على أداء ركن الصيام تجمع بين المنافع الفردية والجماعية كما سيتجلى ذلك في هذا المقال.

وصيام المسلمين لشهر رمضان الكريم يبرز بقوة المنافع المتوازنة التي تجنيها المجتمعات الإسلامية وأفرادها من شهر الصيام. ويكفي هنا ذكر عشرة أمثلة لبيان ذلك. فلنبدأ بالفوائد التي يكسبها الفرد المسلم من صيامه كامل أيام هذا الشهر الفضيل.

وكما هو معروف فصوم رمضان هو الإقلاع الكامل من الفجر إلى غروب الشمس عن الأكل والشرب والجنس، وهي ما يسميها علم النفس الحديث بالحاجات الأولية للسلوك Primary Drives. أي أنها حاجات قوية وموثرة جدا على توجيه سلوك الإنسان بحيث يصعب مقاومتها. وعلى الرغم من ذلك، فبالعقيدة يستطيع المسلم أن يتحدى في النهار إغراءات تلك الحاجات الرئيسية كامل شهر رمضان الذي يعتبر بحق بالنسبة للمسلمين فرصة سنوية يتعلمون فيها كيف يدربون أنفسهم على التحكم في كل تلك الحاجات الماسة لمدة أربعة أسابيع كاملة. فهذا التدرب السنوي لمدة شهر كامل يعلم نفس الفرد المسلم الصائم الصبر والتحكم والانضباط الأفضل. وهي كلها خصال حميدة تساعد على بناء إنسان قوي الشخصية والخلق.

يشير الطب الحديث بأدلة قاطعة بأن للصوم منافع صحية كثيرة على الإنسان العادي السليم. فالعديد من الأطباء يوصون البعض من مرضاهم بالصيام كوسيلة للعلاج والشفاء من بعض الأمراض. لكن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك في جعل الصيام أمرا جديا بخصوص التحسين من شأن صحة المواطنين المسلمين فيجعل منه واجبا دينيا سنويا لشهر كامل لكل المسلمين الكهول الذين لا يشكون من أمراض تعيقهم عن الصيام. والقرآن يؤكد بقوة أن الصيام يجلب الخير للصائم وأن تصوموا خير لكم ، إذ الصوم يسمح للجسم بتنقية نفسه من بقايا الأكل والشرب أثناء راحة المعدة في النهار. والأطباء هم القادرون أكثر من غيرهم على توضيح الحكمة البيولوجية الفيزيولوجية لمصلحة أجسام الناس وصحتهم من وراء دعوة الإسلام للمسلمين للصيام مدة أربعة أسابع متتالية من دون انقطاع.

أما من الناحية النفسية الاجتماعية فيمكن اعتبار صيام شهر رمضان طريقة لتغيير رتابة النمط اليومي للحياة الذي تعوّد عليه الناس لمدة أحد عشر شهرا. ومن ثم، فصوم رمضان يمثل تغييراً جذرياً في أسلوب حياة الفرد والمجتمع. فالأمسيات والليالي تصبح هي زمن التفاعل الاجتماعي المكثف والقيام بالشعائر الدينية والاحتفالات العائلية والمجتمعية بينما يميل نمط حياة الصائمين في النهار إلى الهدوء.

يعيش المسلم الصائم يوميا كامل شهر رمضان شعوراً بالفرحة والسعادة في الساعات الأخيرة والثلاثين دقيقة قبل الإفطار على الخصوص. فالملاحظة تفيد أن الصائم يزداد فرحة كلما اقترب أكثر فأكثر من لحظة الإفطار. فالصائم تغمره الفرحة بقرب غروب الشمس لأنه يستعيد بعد ذلك حريته الكاملة في تلبية حاجاته الرئيسية من أكل وشرب وغيرهما. وهو يحس بالسعادة أيضا بسبب تجربة الصيام الروحية والمتمثلة في تدربه على التحكم في ضبط النفس والاستجابة للنداء الإلهي بالقيام بصوم شهر رمضان.

لقد وصف علماء النفس والاجتماع في الغرب الأجيال الجديدة بالمجتمعات الغربية المتقدمة بأنها أجيال ذات قيم تركز على تحقيق طلباتها الذاتية الآنية The Me-now Generation. وهي بالتالي أجيال ضعيفة في قدرتها على الصبر وتأخير تلبية الطلبات. ومن ثم، فصوم شهر رمضان يمثل بحق نموذجا مثاليا سنويا يعلم يوميا ولمدة 4 أسابيع متتالية الأجيال المسلمة الشابة والمتقدمة في السن ممارسة قيمة تأخير تلبية الحاجات الضرورية لحياة وبقاء بني الإنسان. ومما لا شك فيه من وجهة نظر نفسية أن التدرب بالصيام على معالجة شهوات النفس بالتحكم فيها وتأخير الاستجابة لها مدة شهر كامل يساهم إيجابياً في تمتين قوة شخصية الفرد.

أما المنافع التي يجنيها المجتمع ومجموعاته الصغيرة والكبيرة من صيام شهر رمضان، فإننا نقتصر أيضا على ذكر خمس منها فقط:

1 - وكما وقعت الإشارة من قبل، فالصوم له منافع جمة على صحة الناس، ولكنه يخلق أيضا بين أفراد وجماعات المجتمع الصائم حالة من الوعي والتضامن خاصة مع الفقراء والمعوزين الذين يكونون ضحايا للجوع المزمن وذلك بسبب التجربة المباشرة مع الجوع والعطش التي يتعرض لها الصائمون أثناء النهار لمدة أربعة أسابيع. وهذا مثال بليغ على الدور الاجتماعي الذي يلعبه شهر رمضان في تعزيز عرى التضامن بين الناس في المجتمع المسلم.

2 - يزداد في رمضان تبادل الزيارات والدعوات للإفطار معا بين العائلات والأصدقاء. فيأكل ويشرب الضيوف ومضيفوهم الطعام والشراب نفسه، كما أنهم يقومون الصلاة في جماعة ويسهرون مع بعضهم البعض حتى وقت متأخر من الليل. وهكذا فشهر رمضان ينشط فيه التواصل الاجتماعي بين الأسر والأصدقاء على الخصوص ومن ثم يساعد على تمتين الروابط الاجتماعية بين الصائمين.

3 - وكما هو الشأن في الكثير من المجتمعات المعاصرة فإن العائلات المسلمة لا تفلح دائما في جمع شمل كل أفرادها لتناول الطعام على مائدة واحدة. وبقدوم شهر رمضان يصبح لقاء كل أعضاء الأسرة حول مائدة أكل وشراب واحدة حقيقة يومية. فهذا اللقاء العائلي الكامل المتكرر يوميا طوال شهر الصيام لابد أن يقوي وحدة الأسرة ويدعم روح التضامن والانسجام بين أفرادها.

4 - في البلدان الإسلامية يساعد شهر رمضان على تعزيز التضامن الاجتماعي بين الصائمين، إذ لشهر الصيام قيمه وأعرافه وأخلاقياته التي يغلب على الصائمين الاشتراك فيها والالتزام بها. فبحوث علم الاجتماع تؤكد أنه كلما ازداد اشتراك الناس في مجموعة من القيم والتقاليد الثقافية أصبح تضامنهم الاجتماعي أكثر قوة وصلابة.

فمشاهد القرى والمدن الصغيرة والكبيرة والعواصم في البلاد الإسلامية قبل الإفطار تجسد بوضوح أحد معالم التضامن الاجتماعي القوي في هذا الشهر. فقبل موعد الإفطار بقليل لا يكاد المرء يشاهدأي حركة للناس خارج منازلهم وخارج المطاعم والمقاهي، ومع حلول وقت الإفطار تصبح الأماكن المكتظة والقليلة السكان على حد سواء شبه خالية بالكامل من الناس، وهو مشهد توحد جماعي عارم في صلب المجتمع المسلم الصائم رغم ما يمكن أن يوجد من اختلافات بين طبقاته وفئاته الاجتماعية المتعددة.

5 - تشير الإحصاءات السكانية في العالم إلى أن عدد المسلمين اليوم يتجاوز بكثير الألف مليون وأن أغلبية من بلغ منهم سن الثامنة عشرة أو أكثر يصومون جماعيا شهر رمضان في قارات وبلدان مختلفة، فهذه الكتلة الضخمة من الشعوب المسلمة ذات اللغات والأصول العرقية والألوان المتنوعة تتوحد في شهر رمضان بالرغم من تلك الفروق وبالرغم من اختلافات الزمان والمكان وفصول السنة عبر الكرة الأرضية.

-----------------------

علامَ تلومُ عاذلةٌ جهولُ
وقدْ تلىَّ رواحلنا الرحيلُ
فإنَّ السيفَ يخلقُ محملاهُ
وَيُسْرِعُ في مَضَارِبِهِ النّحُولُ
قَطَعْنَ إلَيْكُمُ مُتَشَنَّعَاتٍ،
مَهامِهَ مَا يُعَدّ لَهُنّ مِيلُ
أتَينَ عَلى السّمَاوَةِ بَعْدَ خَبْتٍ،
قَليلٌ مَا تَأنِّينَا قَلِيلُ
وقد عزَّ الكواهلُ بعدنيٍّ
عَرَائكَها، وَقَدْ لَحِقَ الثّميلُ
عليك، وَإنْ بَلِيتِ كما بَلِينَا،
سَلامُ الله، أيّتُهَا الطّلُولُ

جرير

 

 

 

محمود الذوادي 




إفطار جماعي أمام المسجد