جرير.. بحر النقائض الهادر (شاعر العدد)

جرير.. بحر النقائض الهادر (شاعر العدد)

«جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر»، عبارة قالها أحد النقاد العرب القدامى الذين انساقوا وراء ذلك التنافس الشعري الذي صنع أشهر اسمين شعريين في عالم النقائض الشعرية العربية، فرددها بعده كثيرون ممن استسهلوا الحكم على جرير والفرزدق بهذه العبارة البليغة، وصفاً للشاعرين بأقل الكلمات وأدلها على أسلوبيهما في كتابة القصيدة في سياق النقائض وخارج ذلك السياق أيضا.

على الرغم من أن النقائض هي العنوان الأبرز في مسيرتي هذين الشاعرين إلا أنها لم تكن كل شعرهما، ولعلها لا تصح لكي تكون موئل الحكم عليهما وتقييم ما تركاه وراءها من قصيد استحق مكانته الخالدة في ديوان الشعر العربي.

وربما لذلك لن نتحرج من الحديث عن جرير على حدة، حتى وإن كان الحديث عنه سيقودنا إلى الحديث عن الفرزدق على حدة لاحقا، لكننا نبدأ بجرير انحيازاً للبحر وانسيابيته وربما تعاطفاً إنسانياً معتاداً مع ذلك الشاعر الذي تصدى لثمانين شاعرا فبزهم من دون أن يكون له ما يسنده في تلك المعركة الناهضة على أساس الفخر العائلي والقبلي. والحكاية التي تذكر في هذا السياق يرويها ابنه بلال: «قال رجل لوالدي من أشعر الناس؟ قال جرير له: قم حتى أعرفك الجواب. فأخذه بيده، وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزا له فاعتقلها، وجعل يمص ضرعها فصاح به: ياأبت. فخرج شيخ دميم رث الهيئة وقد سال لبن العنز على لحيته فقال أبي للرجل: أترى هذا؟، قال: نعم، قال: أفتدري لم كان يشرب من ضرع العنز؟، قال: لا، قال: مخافة أن يُسمع صوت الحليب فيُطلب منه لبن. ثم قال: أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرا وقارعهم به وغلبهم جميعا.

والحكاية لا تقودنا إلى موهبة جرير العظيمة في الفخر وحسب ولكنها أيضا تقودنا إلى معرفة سر من أسرار النقائض باعتبارها لعبة شعرية لجأ إليها هؤلاء الشعراء الكبار في زمن كان مهيأ لتشجيعهم فيها وعليها. فجرير الذي كان يفاخر ويبالغ في الفخر، ويهجو ويقذع في الهجاء لم يكن ليخفي وضاعة أصله بل يعلن عنه ويجعله دليلا على شعريته وجَلَده في كتابة القصيدة ومقارعة الخصوم. وما يعضد رأينا هذا أن النقائض الشعرية التي استمرت عقودا من الزمن وشارك فيها ما يربو على الثمانين شاعرا لم تنتج عنها أية خصومة حقيقية ولم تؤد إلى أن تسيل الدماء بين الفريقين في وقت كانت تسيل فيه الدماء بين الخصوم لأبسط الأسباب وأقل الأقوال. ثم ان في رثاء جرير للفرزدق في تلك القصيدة السائلة حزنا والمتوهجة عاطفة ما يجعلنا نستبعد أي خصومة حقيقية بين الشاعرين ومن ثم الفريقين المؤيدين لكل منهما، ففي تلك الرثائية الفريدة من نوعها محا جرير كل نقيضة ألصقها بالفرزدق طوال فترة خصومتهما الشعرية. وهكذا لم يبق من تلك النقائض من الحقائق بعد ذلك الا حقيقة الفن الجميل الذي أغنى العربية بالكثير من الشعر الهادر وأمتع جماهيره بالكثير من المتع البلاغية والجماليات المتناسلة من بعضها البعض في سلسلة لم تتوقف إلا بنهاية اللعبة عندما مات الفرزدق فاضطر جرير للكشف عن السر تورية بأبيات هي من أجمل ما قيل في باب الرثاء. ولا عجب.. فجرير بقي- وفقا لكثير من النقاد العرب ومؤرخي الأدب- محتفظا لفترة طويلة بسجل حافل من الأرقام القياسية كصاحب أجمل بيت قيل في الغزل، وأجمل بيت قيل في الفخر وأجمل بيت قيل في المدح ، وأجمل بيت قيل في الهجاء وغيرها من الأبيات التي حازت قصب السبق في بقية أغراض الشعر العربي.

ولد جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي التميمي، العام 33هـ (653م) في أرض اليمامة وسط الجزيرة العربية لأسرة متواضعة الحال، ولم يكن له من المجد العائلي ما كان ليعينه في معركته الشعرية الطويلة مع الفرزدق وأعوانه الكثر من الشعراء . لكن بحر جرير كان من السعة والقوة والهدير ما جعله يقف منفردا وحتى النهاية أمام ذلك الحزب الشعري الذي كان يقوده الفرزدق بصخر قصيدته وشرف أرومته ومجده العائلي التليد.

وعلى الرغم من قسوة جرير في الهجاء والتي اضطرته إلى اللجوء لاستخدام مفردات مقذعة إلا أنه في الغزل يبدل جرير جلده الشعري أو لعله ينزع قناع القسوة فيبقى على طبيعته المفرطة العذوبة لتأتي قصيدته سلسبيلا من الصور والقوافي والمعاني الرائقة والتعبيرات القرآنية تتوافق وعفته التي شهد بها خصومه قبل المعجبين به، وفي هذا يقول خصمه الفرزدق في شهادة ملتبسة المعنى: «ما أحوج جرير مع عفته إلى صلابة شعري، وأحوجني مع فجوري إلى رقة شعره».

وعاش جرير حوالي ثمانين حولا وتوفي في مسقط رأسه اليمامة العام 144 هـ (733م) وذلك بعد وفاة صديقه اللدود، وخصمه الوفي الفرزدق بنحو أربعين يوما قضاها في كتابة قصيدته الرثائية فيه تاركا وراءه تراثا شعريا ضخما في المديح والغزل والهجاء والفخر، لكن النقائض ظلت أبرز ما يشار إليها في سيرته الشعرية والحياتية.

 

 

 

سعدية مفرح