فى البدء كان الإنسان

فى البدء كان الإنسان

تحل هذه الأيام ذكرى الشاعر المصري الراحل صلاح عبدالصبور ما يستدعي استعادة بعض أهم سمات شعر عبدالصبور وعلاقته برؤاه الإنسانية.

أتصور أن إيمان صلاح عبد الصبور بالإنسان كان دافعَه إلى تجسيد النجمين اللذين تضيء بهما حياة هذا الإنسان، حتى في لحظات عمره القصير فوق الأرض لا تحتها هذان النجمان هما الحريةُ والعدل، الحرية من حيث هي استقلال الإرادة، وحق الاختيار، وإرادة الوجود، أو حتى إرادة رفض الوجود، والتمرُّد على عبثيته والعدل من حيث هو سؤال أبدى يُطرح كل هنيهة، وحوار لا يتوقف بين الحاكم والمحكومين، والخالق والمخلوقين، والموجود وأصل الوجود.

والإيمان بالعدل هو الوجه الآخر من الإيمان بالحرية في شعر صلاح عبد الصبور، سواء في حال مساءلة الإنسان نظيره الإنسان، أو حال مساءلة الإنسان معنى الوجود، وأخيرا، مساءلة العلاقة بين المثقف والسلطان ولذلك لا تخلو تأملات الإنسان من علاقته بالطبيعة، أو من علاقاته التي تتوتر ما بين أضداد الخير والشر، الجمال والقبح، التمييز والمساواة، التسامح والتعصب، النقل والعقل، الروح والجسد.

أما الحال الثاني فهو الحال الذي صاغه التأمل في الطبيعة لا على طريقة شوقي:

تلك الطبيعة قف بنا يا ساري
حتى أريك بديع صنع الباري

وإنما على طريقة التأمل في الوجود، من حيث هو علامات ومرايا علامات تنبئ عما تنطوي عليه الطبيعة من أسرار تغوي الإنسان بالبحث عنها وفيها، ومرايا للحضور الكلي للمطلق الذي هو موجود في كل الوجود، ولذلك تبقى الطبيعة خالدة بينما يفنى الإنسان الذي سرعان ما يتحول إلى رماد، يرجع إلى مبتداه في الطبيعة التي تظل مجلي الوجود الحق أو المطلق، وذلك في كل أحوال تأمل الذات الشاعرة في توازيات أو تداخلات الوجود والعدم، حيث تتولد التأمّلات الميتافيزيقية الممسوسة بالأسئلة المحيِّرة، وذلك قبل قصائد مثل «أغنية إلى الله» وصولا إلى قصائد مثل «الموت بينهما» التي هي حوارية بين المحدود والمطلق، تتخللها آي القرآن التي هي كلمات الله، وفي مقابلها تعليقات وتساؤلات الإنسان العاجز، الحائر، الباحث عن النجاة التي تبدو سدى ما بين أسئلته التي تبدو بلا جواب.

بين المثقف والسلطة

أما الحال الأخير فهو حال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو العلاقة بين المثقف والسلطة، إذ لم تشغل هموم هذه العلاقة شاعرا مثلما شغلت صلاح عبدالصبور الذي جعلها هاجسا مُلِحّا في قصائده، منذ أن كتب «عودة ذي الوجه الكئيب» بعد أزمة مارس السياسية في مصر سنة 1954 وقد تصاعد هذا الهاجس بعد هزيمة 1967 التي أرجعها الشاعر صلاح عبدالصبور إلى غياب الديمقراطية، وغلبة الدولة التسلطية التي تحكمها نخبة عسكرية لا تؤمن بالحوار، أو حق الاختلاف، أو حرية التعبير والفكر وهو الأمر الذي اضطره إلى الاختفاء وراء الرموز والأقنعة ليوصل ما ظل يؤمن به من أن الديمقراطية هي الترجمة السياسية لاحترام وجود المواطن، الفرد، من حيث هو طاقة خلاقة، قادرة على صنع عالمها الذي يزداد ثراء بقيم الحرية والعدل والتقدم ولا فارق بين الوجه الفردي للحرية والعدل أو وجههما الجمعي، خصوصا حين تقترن الحرية والعدل بقدرة الفرد والجماعة على رؤية الأشياء في مكانها الصحيح، وإصدار الحكم المحايد عليها، فقيمتا الحرية والعدل هما وجها المواطنة التي لا يتمايز فيها حاكم عن محكوم، ولا مواطن على غيره وكلتاهما تعني حق الاختلاف وقبول التعددية والتنوع بوصفهما الأصل الخلاّق للوجود الأكمل، وذلك بما يجعل من الديمقراطية البرلمانية أرفع صور الحكم، ويجعل من الفكر المقترن بهذه الديمقراطية تجسيدا لشعار فولتير الشهير «أنت ضدي في الرأي، ولكني أبذل حياتي في سبيل أن تعلن رأيك». ومن هذا المنظور، لم يكن الفقر هو الجوع إلى المأكل، والعري إلى الكسوة، بل الفقر هو القهر، استخدام الفقر لإذلال الروح، وقتل الحب وزرع البغضاء.

بين العلة والداء

والمسافة بين الفقر وغياب العدل، في هذا السياق، هي المسافة بين العلة والداء، فالعدل مواقف وسلوك وأفعال، وهو فوق ذلك سؤال أبدي لا يتوقف الإنسان عن طرحه في مطلق أزمانه المتغيرة التي نطلق عليها اسم التاريخ وهو حوار لا يتوقف بين السلطان والمحكومين، والوالي ورعيته، والبشر وأقرانهم البشر في كل زمان ومكان.

ويعني ذلك أن أي نظام سياسي يقوم على الحزب الواحد هو نظام استبدادي بالضرورة، إذ سرعان ما يتقلص الحزب في لجنة مركزية، وتتقلص اللجنة المركزية، بدورها، في شخص الزعيم الواحد الأحد الذي لا يقبل اختلافا أو خروجا على ما يراه، فالمواطنة الحقة هي الإجماع والتصديق والإذعان لهذا الحاكم الذي يقود أمته إلى الكارثة حتما.

وقد أنتجت هذه الرؤية قصائد ديوان «تأملات في زمن جريح» (1970) التي تبدأ قصائدها بصوت الشاعر الذي صَدَّق سادته العسكر طويلا، ولكنهم عندما وقعت الواقعة، انهزموا وتركوه طعينا، غير قادر على الغناء، حزينا الحزن الذي لا تطفئه الخمر ولا المياه، فهو حزن لا تطرده الصلاة، كأنه:

قافلة موسوقة بالموت في الغرار
والأشباح في الجرار، والندم

ويتكاثف الحزن الأسود الذي خلفته هزيمة العام السابع والستين، فتغرق تأملات الزمن الجريح في بحار من الكآبة التي تستدعي الموت الذي يفرش ظله على القصائد، ولا يكف عن غرس بذوره السوداء التي تثمر ديوان «شجر الليل» الصادر سنة 1972، حاملا المزيد من التأملات الليلية، وأصوات المدينة المتألمة الغارقة في الليل الذي يتحول إلى الرحم، القبر، الغابة، حاملا الخوف الداجي، والرعب المتمدد، والأحزان الباطنة الصخابة، ليل مطبق ممتد لا يلوح ضوء فيه، كأنه القدر، الرؤيا الهولية، وسقوط الحاضر المنكسر في المستقبل الذي لا يحمل علامة ضوء، أو بشارة نجاة، بل يكرر نفسه كالجرح اليومي الذي ينزّ دما أسود في الصبح المقبل وتبلغ أصوات الليل المقبض، المنكسر، المهزوم، ذروتها مع صوت مجموعة النساء الذي يبدو كالندب الصادر من قرارة قرار الأعماق التي تسلطت عليها أشجار الحزن التي اعتادتها، وألقت بذور الألم الموجع في أحشائها، فلا يبقى سوى السؤال السقيم:

رباه
ما سر هذه التعاسة العظيمة
ما سر هذا الفزع العظيم

وتتجاوب موجات الحزن السياسي الاجتماعي مع موجات الحزن الميتافيزيقي الذي زاده صمت الوجود عن كل سؤال، ويأس الشاعر من أي جواب فنقرأ:

أنا أستدير بوجهي إليك، فأبكي
لأن انتظاري طال، لأن انتظاري
يطول، لأنك قد لا تجيء
لأن الشواهد لم تتكشف،
لأن الليالي الحبالى يلدن ضحى، مجهضا،
ولأن الإشارات حين تجيء
تجيء إلينا إلاشارات من مرصد
للغيب، يكشف عن سرها
العلماء الثقات، تقول
انتظار عقيم
انتظار عقيم
انتظار عقيم

وقد ظل هذا الحزن علامة شعر صلاح حتى آخر دواوينه «الإبحار في الذاكرة» (الصادر سنة 1979) الذي تحذرنا قصيدته الأولى من الإبحار في الذاكرة التي لا يجد فيها الملاح سوى الفواجع والكوارث، وتمضي الحياة متكررة لا جديد فيها سوى اليأس، أو التهويمات الليلية أو التجريدات التي تؤكد أن:

سيف اللاجدوى
يهوي ما بين الرغبة والعقل
صحراء اللافعل
تتمدد ما بين الرغبة والجدوى

وتبدو الذات كأنها فأر مذعور ما بين السيف وبين الصحراء وحتى عندما تقع حرب أكتوبر 1973، ويعبر الجيش المصري سيناء، حاملا بعض الأمل، فإن هذا الأمل سرعان ما تكبله العتمة، فلا يتبقى سوى رماد الموت الذي تلقي به الحياة في الشعر الذي لا ينجي صاحبه حتى في انتسابه إلى جسده، في المدينة التي ضاعت منه رغم أنه أحبها، وأحب أن يعيش بين جلدها ولحمها، لكن سدى، فالأكاذيب لاتزال تعشش في كل مكان والشر استولى في ملكوت الله والشاعر لا يعرف كيف تغلغل في واديه الطيب، هذا القدر من السفلة والأوغاد، فلا يملك سوى الحوار مع خالقه الذي يطرده من ملكوته، كأنه الشيطان الرجيم في وطن أضاعه وأضاع يقينه، خصوصا في السبعينيات المتثاقلة التي كانت جحيم صلاح عبدالصبور لا جنته، والتي استمر يقاوم فيها كوارث الهزيمة وأظفار الناهشين، وكذب المنافقين وكان حزنه العميق المتطاول، الواصل بين دواوينه الأخيرة في صعود لافت نوعا من احتجاج المحب على المحبوب الذي خذله، والوجود الذي صمت، مغلقًا الأبواب أمام أسئلته، والدولة الاستبدادية التي تطاولت وتزينت بما لا يخفي عورتها وكانت الكلمة، دائمًا، هي سلاح الاحتجاج من شاعر لم يملك سواها، وسوى إيمانه بأن الكلمة قد تؤدي، وجوديا، إلى أن تواجه العبث بكل ما يمنح الوجود معناه بالفعل الخلاّق فيه، الفعل الذي يصبح صفة محايثة للحضور في الوجود، أقصد الحضور الإبداعي الذي يسعى، مهما كان الألم، إلى العمل على اكتمال الحياة والعودة إلى جوهرها الأنقى.

ولا غرابة والأمر كذلك أن يفتتح صلاح سلسلة مقالاته التي نشرها في مجلة «الدوحة» القطرية من إبريل إلى مايو 1980، بعنوان «على مشارف الخمسين» وهي المقالات التي يفصل بين كتابة آخرها وموته في «الخمسين» سوى عام واحد، وأقل من ثلاثة شهور، أقول لا غرابة أن يبدأ صلاح استدعاء حياته الماضية، في أولها، مقرونة بأبيات إبراهيم ناجي، صديقه القديم، التي تقول:

عشت وامتلأت حياتي لأرى
في الثرى ما كان قبلا في القمم
انهيار المثل العليا وإنــ
كار الكرامات وكفرا بالقيم
وإذا انحط زمان لم تجـد
عاليـا ذا رفعة إلا الألـم

ويعقِّب صلاح على هذه الأبيات المخيفة بقوله إنها تجسيد لما يخامر نفس كل من يهبطون إلى الجانب الآخر من التل، إذ يدركون أن الحياة قد أعطت لهم أملا واسعا وقدرة محدودة، ويضيف إلى ذلك أن الإنسان محكوم عليه بالإحباط في هذا الكون المتشابك المتناثر الشذرات، الكون الذي أصبح مقلوبا على رأسه، بعد أن استولى عليه الشر، ولم يعد فيه إلا كل ما يبعث الألم العظيم، خصوصا بعد أن انتهى الحلم، في هذا الكون، إلى كابوس لقد كان صلاح واحدا من الجيل الذي تفتّح وعيه على الحياة بعد الحرب العالمية الثانية، فظن أن الحلم بالمستقبل الذي تضيئه نجوم الحرية والعدل قريب المنال، وأن الإنسان أصبح سيد مصيره، له الملك على الأرض لا تحتها، وأنه آن الأوان ليرفع هذا الإنسان رأسه إلى السماء في أمل، ويقطف نار المعرفة والحقيقة البروميثية من فوق الأولمب، لكن سرعان ما تداعت الأحداث التي أحالت الحلم إلى كابوس، على المستويات الشخصية والاجتماعية والسياسية والوجودية، ولم يبق في قاع الذاكرة سوى الألم العظيم والحزن المقيم، كما لو كانت الطليعة التي انتمى إليها صلاح عبدالصبور قد انكسر شراعها الذي كان يدفع مركب هذه الطليعة إلى الأمام، فتخبَّطت المركب الأعاصير، ابتداء من كارثة العام السابع والستين، وقادتها إلى وجه الميدوزا المخيف، ولم يكن واحد من الركَّاب يحمل درع برسيوس، فسقطوا، فرادى، أمام وجهها القاتل الذي تسرَّبت سمومه إلى رؤيتهم للحياة التي أصبح كل ما فيها عقيما، منكسرا، مهزوما، خصوصا بعد أن توالت على الطليعة التي انتسب إليها صلاح موجات الهزائم الاجتماعية والسياسية والوجودية، وبعد أن اكتسبت هذه الهزائم بعدا ذاتيا، ظل صلاح منطويا عليه منذ البداية، مؤهّلا له بطبعه السوداوي، وشخصيته الميَّالة إلى الوحدة والتشاؤم، فكانت النتيجة هي ما يقوله المقطعان الأخيران من «رسالة إلى سيدة طيبة»:

يا سيدتي، عذرا...
فأنا أتكلم بالأمثال لأن الألفاظ العريانة
هي أقسى من أن تلقيها شفتانْ
لكن الأمثال الملتفَّة في الأسمال
كشفت جسد الواقع
وبدت كالصدق العريان
أشقى ما مر بقلبي أن الأيام الجهمة
جعلته يا سيدتي قلبا جهما
سلبته موهبة الحب
وأنا لا لا أعرف كيف أحبك
وبأضلاعي هذا القلب

ولقد تحمل قلب صلاح الكثير من خيبة الأمل، في حبه وزواجه الأول، وفي يوتوبيا الماركسية التي سرعان ما اكتشف وهمها، وفي الحائط الوجودي المسدود الذي يصدّ كل من يطرح أسئلته عن العلة والغاية، وفي السياسة التي انقلبت بحلم العدل إلى الكابوس المقيم من الدولة التسلطية، فتراكمت الهزائم الفردية والجمعية التي أضاف إلى مرارتها الاتهامات الظالمة من الرفاق القدامى، في زمان انحطَّ كل ما فيه، فلم يعد عاليا سوى الألم لا الأمل، في المدينة المعذبة التي أصبحت سجنه وصليبه.

شاعر مدينة

وقد ظل صلاح عبدالصبور، في كل أحواله ومراحله المتقلبة، «شاعر مدينة» شأنه في ذلك شأن أقرانه من شعراء الحداثة الذين ظلت «المدينة» فضاء شعرهم وأساس بنيته في الوقت نفسه، أقصد المدينة متعددة الطبقات والأجناس التي يتجاور فيها المصنع والمعبد والمسجد والسجن الذي تكتمل بحضوره ملامح مدينة العالم الثالث التي انتسب إليها صلاح عبدالصبور، وظل لقاؤه بها حجّه ومبكاه، خصوصا بعد أن أصبح مغلولا إلى الشوارع المسفلتة والميادين التي تموت في وقدتها خضرة الأيام، فيغترب من يحبها فيها، ما ظل مُنكرا في رحابها، بعد أن طار عنه طيره الأليف كالحرية، ولم يبق له سوى احتمال المزيد من عذاب المدينة التي لم تعد جنة مأمولة، بل جحيما واقعا.

وأتصور أن انطلاق شعر صلاح من وعي مديني محدث، هو الذي جعله يرى المدينة في نفسه ويرى نفسه في المدينة، وذلك منذ أن قطع هذا الوعي الحبل السرّي الذي وصله بالقرية الرحم، فاستبدل بها المدينة التي أصبحت موضوعا للتأمل، ومن ثم تمثيلا رمزيا للوجود، وليس ملاذا روحيا للفرار من وطأة مدينة بلا قلب، فكانت القرية موضوعا شعريا يُعالَج من منظور فكر مديني بعينه، فكر بدأ بالتمرد على الميتافيزيقا في «الملك لك» التي تؤكد حضور الإنسان الذي له، وحده، الملك، على الأرض، لا تحتها، نفيا للمنظور الديني للإنسان عند ت إس إليوت الذي تأثر به صلاح تأثرا بالغا، نقضا وموازاة، واستلهاما وذلك قبل أن تحل المدينة محل القرية. ومضت قصائد صلاح في تقبل المدينة بوصفها موضوعاً للتأمل أما المدينة نفسها فتقبَّلتها القصائد بوصفها فضاءها الممكن، وغوايتها الأولى، فتجسدت بها وفيها وجسّدتها في الوقت ذاته وظلت هذه القصائد منتسبة إلى المدينة في ملامحها، تحمل همومها النوعية، وتنطق المسكوت عنه في أحلامها وكوابيسها، باحثة في قيعانها عن خلاصها، غير مترددة في إدانة خيانتها، حالمة بنبىّ يحمل سيفا، متوسلة بلغة المفارقة والسخرية، والأمثولة والقناع، ولغة المجاز التي تظل غير نائية عن الحياة الفعلية في المدينة، فهي لغة تسعى إلى أن تغوص إلى قرارة الحياة المدينية، فتبدو كأنها إياها مع أنها غيرها.

ولا تنفصل هذه اللغة عن وعي تشكيلي صارم في رهافة إحساسه ببنية القصيدة واتساق تكوينها ومهما تعدَّدت أشكال البناء، وأفادت في تكوّنها من أنساق الموسيقي أو أنساق العمارة أو النحت أو أنساق اللوحة، فهي دائما أشكال بنائية تصدر عن وعي مديني محدث، وعي ظل يرى الجمال في النظام، ويسعى إلى اكتشاف النظام في الفوضى والصفة المحدثة ليست قرينة الرؤية وحدها في هذا السياق، فالرؤية لا تتجسد إلا بوسائلها التعبيرية المحايثة، ابتداء من جسارة الاستعارة الجزئية أو مراوغة الاستعارة الممتدة، مرورا بالتباس التمثيلات الرمزية أو الكنايات الكاشفة، وليس انتهاء بالتَّقَبُّضِ الإيقاعي الذي هو بعد آخر من أبعاد الموسيقى الحديثة، خصوصا في حرصها على إحباط التوقعات النغمية التقليدية لمن يتلقَّاها إن الصدمة المحسوبة أساس العلاقات اللغوية في قصائد صلاح، وهي أساس البناء في أحوال تجاوبه مع أبنية الفنون التشكيلية وصفة الإحكام البنائي التي نراها في شعره من منظور هذا التجاوب نادرة في شعر كثير من معاصريه.

وإذا كانت العقلانية هي السمة الأولى لوعيه المديني المحدث، خصوصا في إنشاء علاقاته اللغوية وتوافقات أبنيته، فإن السمة الملازمة لهذه العقلانية قرينة العلاقة بين قصائد صلاح عبدالصبور وأعمال الفن التشكيلي الذي عشقه، وسعى إلى استلهام قوانين صياغاته في بناء قصائده أقصد إلى تجليات الضربات التأثيرية للفرشاة أو الكلمة، أو تعيُّن الكنايات المثيرة للمخيلة البصرية، أو التخطيطات التجريدية للموقف أو اللوحة، وغير بعيد عن ذلك الإفادة من تقنيات الفنون في تشكيل مستويات التجاور أو التوازي أو التقابل أو التقطيع أو حتى الكولا في القصيدة.

جدوى الشعر

ويوازي ذلك كله إيمان مطلق بالشعر وجدواه في حياة الإنسان، إيمان كان قدس أقداس شاعرٍ وهب حياته للشعر، وظلَّ يكتب عن الكلمة التي يرسلها شهادة إنسان من أهل الرؤيا في زمن قاسٍ وضنين ولذلك عرف شعر صلاح القصيدة التي تتحدث عن القصيدة، كما كان الشعر الشارح ملمحا بارزا من ملامح هذا الشعر، ملمحا لا يقل أهمية في حضوره عن حضور نموذج الشاعر نفسه بطلا ترايديا على امتداد مسرح صلاح عبدالصبور، ذلك المسرح الذي هو، في بعد من أبعاده، بحث عن الخلاص بواسطة الكلمة الشاعرة، من شاعر يحاول أن يجعل من الكلمة سيفا. ولا تناقض بين هذه الفكرة وتعدد صور الشاعر في دواوين صلاح، فهو، أولا، يفتتح كلماته بما أُثر عن المسيح «الحق أقول لكم» ويبدو، ثانيا، صوفيا، يعاني بوارق الرؤيا وتجليات الشهود ويبدو ثالثا رحالة في دروب المعرفة، يلهث وراء العلوم سنين ككلب يشم روائح صيد ويبدو، رابعا، ذا بصيرة لا تكف عن رؤية الكارثة الممتدة المتصلة ويكبر، أحيانا، أو يصغر أحيانًا أخرى حتى ليصف نفسه بقوله:

أتسمع طلقا ناريا، يتماوج حولي مثل ذبابة
يهوي جسمي المجروح
ويرفرف حينا،
ثم يغوص بطيئا في جوف الكون

وهي صورة لا تختلف، جوهريا، عن الصورة الموازية التي نقرأ فيها:

أتجمع فأرا، أهوي من عليائي
إذ تنقطع حبالي الليلية
يُلقي بي في مخزن عاديات
كي أتأمل بعيون مرتبكة
من تحت الأرض أقدام المارة في الطرقات

ولكن «الشاعر» في كل تجلياته، في دواوين صلاح عبدالصبور التي تصنع وحدة قائمة على التنوع يظل حكيما محزونا لا تفارقه لوازمه الموضوعية والفنية. وأتصور، أخيرا، أن الإنسان في داخل صلاح عبدالصبور رأى أبعد من غيره، وغاص إلى قرارة القرار من ظلمة الليل، وظلَّ يرتحل كالسندباد بين دروب المدينة وأدغال وعيها، باحثا عن يقين لم يجده، وعن سلام لم يعرفه، وعن مدينة لم ينل منها سوى النكران، وعن رفاق لم يجد منهم سوى الاتهام، فعاد من ارتحاله مثقلاً بحزن بعيد الأغوار، حزن ثقيل صموت كالأفعوان بلا فحيح، حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، مهلك كأنه عذاب مصفدين في السعير، حزن كان من أسبابه العجز عن التصالح مع الوجود، أو قبول شروط الضرورة في عالم لم يعرف سواها.

 

 

 

جابر عصفور