ثربانتس والقراءة المدجنة لرواية دون كيشوت

ثربانتس والقراءة المدجنة لرواية دون كيشوت

في ذات مرة، كتب الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارثيا ماركيز يقول «إنه علينا أن نقرأ، ونعيد يومياً قراءة دون كيشوت، وهذا يعني أن الكتاب الأشهر في الدنيا، الذي أصدره الكاتب الإسباني ميغيل دي ثربانتس في جزأين في مطلع القرن السابع عشر، والذي تُرجم إلى كل لغات العالم، لايزال بعد أربعة قرون على صدوره، حاجة فكرية وأخلاقية في يومنا هذا نظراً لمضمونه الإنساني والنبيل، الذي يتجاوز واقع العصر «الحديدي» الذي كتب فيه، والذي يصلح بامتياز نموذجاً للتعسف في رفض الآخر المختلف، للتمييز العرقي والديني، ولقمع الحريات الشخصية والجماعية، والذي أراد ثربانتس أن يعرّي قساوته الرهيبة وتناقضاته الحادة، ليذكر بالكرامة الإنسانية، بمحبة الآخر، بالحرية والعدالة.

منذ صدورها، كانت الرواية التي تقاطعت في فصولها المواقف المضحكة في الظاهر والجدية والمؤلمة في الأعماق، عرضة لتأويلات عدة،هي وليدة ثقافة حياتية معينة: بداية، وانطلاقاً مما أورده ثربانتس ذاته، اعتبرت رواية «دون كيشوت دي لامانتشا»، هجاء لكتب الفروسية التافهة والرائجة آنذاك، وكان مضمونها نقيضا لمضمون روايات الفروسية التي نالت شهرة واسعة في نهاية القرن الخامس عشر، ونشأت في أجواء «مآثر» الجنود الإسبان في أمريكا وأوربا، وكانت موضوعاتها تمجّد مثالية الحب وتعظّم روح المغامرة، وبطلها فارس جوّال، هو نموذج للبطولة والإخلاص في العشق،يجوب الآفاق سعيا وراء المغامرة، التي تظهر شجاعته وشهامته في مجابهته للظلم اللاحق بالبؤساء والضعفاء، وانتصاره في معاركه على الشخصيات الخيالية، هادفا لتحقيق التعايش الإنساني في عالم أكثر حرية وعدالة.

قراءة سطحية

في زمن ثربانتس، قرأت الرواية بسطحية، لكن القراءة اتخذت مع الرومانسيين الألمان بعداً جدياً وأكثر عمقاً، وصار ذاك البعد يوحي بالتأمل، واشتهر دون كيشوت كشخصية مثالية تصطدم بمادية مجتمعها، أو غير مفهومة في مجتمع مادي قاس، وغريب عن القيم الأخلاقية التي يدافع عنها، وبالتالي صار وجود دون كيشوت وسانتشو بانزا، الخادم الغبي والمحدود دون الطبيعة المادية (تجذبه وتؤثر فيه في النهاية مثالية سيده)، تجسيداً للوجهين النقيضين للحياة: المعنوي والمادي وعن استيعاب ثربانتس لازدواجية واقع الوجود، وانتصار بطله لمبادئ الكرامة الإنسانية، الحرية والعدالة، كما عن شخصية بطله، والمغامرات التي عاشها مع خادمه سانتشو بانزا، كتب نقّاد كثيرون وبكل لغات العالم، ولدرجة يبدو لنا معها أن كل شيء قد قيل عن الرواية، لكن دراسات جديدة غربية وإسبانية معاصرة، وخاصة منها تلك التي وقّعها بحاثة أندلسيون، مازالت تضيف جديداً مهماً إلى كل ما كتب، وذلك انطلاقاً من عنوان الرواية ومدلول اسم المكان، «لامنتشا»، مما ينقلنا إلى المسرح الحقيقي للأحداث الروائية، التي عايشها الكاتب في زمن معيّن، وكان بطله شاهداً عليها في مطلع القرن السابع عشر: كل ذلك يمنح الباحثين إمكان قراءة جديدة، من وجهة نظر مدجنة، تناقض الرؤية التقليدية الغربية لرواية «دون كيشوت»، والتي قلل من أهمية الأندلس في هذه التحفة الخالدة:

المدجّن، هو المسلم الباقي في المدن الإسلامية بعد سقوطها في حروب الاسترداد.

قراءة ثانية

يمكن أن نعتبر هذا الاتجاه الجديد، امتداداً للقراءة الثانية للعلامة أميريكو كاسترو الذي اعترف بتواضع عام 1957، أنه فسّر رواية دون كيشوت انطلاقاً من معايير مفرطة في جذرها الغربي، وأخطأ في رؤيته لشخصية حامد بينيخيلي، ولذلك أعاد القراءة من منطلق جديد، أي من فعل تشكيلها جزءاً من ثقافة مدجّنة، وقد غيّر هذا الاعتراف كليا في الرؤية النقدية الموحدة والمختزلة في إطار ضيّق لمضمون رواية دون كيشوت.

لامنتشا المكان والإنسان

ويفيدنا في مجال البحث عن بعد اسم المكان (لامنتشا) في عنوان الرواية كتابان صدرا أخيراً في إسبانيا، وقّعهما فيليثيانو كوريّا وسرخيو كريستو، ويبقى مضمون أحدهما نقيضاً للآخر، بالتوافق مع منطلق قراءة الرواية، التقليدي والمجدد.

يعتبر كوريا في «لغز لامنتشا»، أن ثربانتس أراد أن يذكر بالحرية التي افتقدها حينما كان أسيراً في الجزائر، ومنطقة لامنتشا هي المكان النموذجي لممارسة الحرية، ونقل رسالتها العالمية إلى الدنيا، لأنها سهل مستو وأرض واسعة بلا حدود، وقد اختار الكاتب مشهدها الجاف والقاحل، حتى لايشغل فكر قارئه بتفاصيل هامشية ليس لها علاقة بجوهر الرواية.

أما سرخيو كريسبو، فيوضّح في كتابه «متجاوزون دون كيشوت»، أن أندلس القرن السابع عشر، هي المسرح الحقيقي للأحداث، الذي اختاره ثربانتس مكاناً يبعث منه رسالته الإنسانية إلى الدنيا.

بعد هذا العرض السريع لرؤية الباحثين لمسرح الأحداث، الذي بعث منه ثربانتس رسالته الإنسانية إلى الدنيا، يمكننا القول إن طرح كوريا شاعري أكثرمنه واقعي وعلمي، وليس هناك ما يثبت صحته، لأن الأحداث المعيشة ذاتها تناقضه: لقد ألغى الباحث بعداً مهماً من أبعاد الواقع التاريخي للزمن الذي كتب فيه ثربانتس جزأي الرواية العظيمة، ليختزل كل الأحداث بالأسر في الجزائر، والذي يعكس صورة واحدة تتكامل مع غيرها من صور بانوراما العصر، مهمشا بذلك عناوينه الكبرى الأخرى، والتي هي البؤس الغارقة فيه إسبانيا، المندفعة بجموح لتنقية دمائها بدافع ديني، مما أدى إلى توقيع مرسوم طرد الموريسكيين من وطنهم عام 1609.

مما لا شك فيه أن ثربانتس عانى كثيراً في الأسر، وأن الدعوة إلى الحرية واحترام الكرامة الإنسانية، تبقى عنواناً بارزاً في روايته العظيمة، لكن الصحيح أيضاً أن تلك المعاناة لاتفسر نية إلى وحدها.

اختيار تلك السهول الشاسعة، المستوية، والجافة، خلفية لنقل رسالة ثربانتس العالمية، فالعصر الإسباني الذي عاش فيه الكاتب، كان يجعل من أفراد وجماعات شرائح واسعة من المجتمع القومي أسرى التهميش المُذل والطاردة المدوية، وذلك لأنها تنتمي إلى عرق آخر ودين آخر، وكما يجعل من أفراد جماعات أخرى «نقية الدم»، أسرى الجهل والفقر، الجوع والمرض، نتيجة للأزمة الاقتصادية الحادة التي كانت تعاينها إسبانيا، ونتيجة لمرض الطاعون الزاحف من قشتالة الشمالية، والجوع الذي يزداد في الأندلس.

ويبقى طرح كريسبو أكثر واقعية، علمية وموضوعية من طرح كوريا، وتؤيد صحته دراسات سابقة.

وادي ريكوتيه

لفت إلى أهمية وجود اسم ريكوتيه، أنخيل غونزاليز بالنثيا عام 1939، مشيرا إلى أن اسمه يرتبط بوادي ريكوتيه في مرسيه، حيث جمّع الموريسكيين ، الذين كانوا آخر من طرد من إسبانيا عام 1614، وقد اختبأ بعضهم، ليعود متخفيا إلى وطنه، مثل ريكوتيه الشهير في رواية «دون كيشوت».

هذه الإشارة إلى اسم ريكوتيه، وجدت لها صدى في الدراسات الحديثة الغربية والإسبانية، وأتاحت للباحثين تجاوز طرح ازدواجية الوجود وانتصار بطل ثربانتس بشكل مطلق لمبادئ الكرامة الإنسانية، للعدالة والحرية، في مجابهة غير متكافئة مع الأقوياء المتسلطين والظالمين، للالتفات إلى تحديد هوية الشخصيات التي أوحت آلامها ومآسيها لثربانتس روايته المكتوبة لكل العصور، ودفاعاً عن كل الجماعات الوحيدة والمستضعفة في كل مراحل التاريخ، والتي تبقى الجماعات الموريسكية التي انتمى إليها الكاتب (أثبتت الدراسات الجديدة والجدية أن ثربانتس يتحدّر أباً عن جد من ذرية مسلمة متنصرة)، وعايش الظلم اللامبرر الذي لحق بها، هي نموذجها الأمثل.

في هذا المجال، يرتأي تريفور دادسون أن اسم «ريكوتيه» يرتبط بالزمن الذي كتب فيه ثربانتس الجزء الثاني من الرواية، وكان خلاله فعل طرد الموريسكيين الأخيرين، من وادي «ريكوتيه»، (بتحريض من دوق ليرما وبأمر من الملك فيليبه الثالث)، حاضرا في كل الأذهان. كذلك، أشارت كارول جونسون، إلى أن اسم ريكوتيه يتحدّر من كل الموريسكيين من الوادي الذي يحمل هذا الاسم، واعتبر بحاثة آخرون، أن هذه الشخصية، تمثّل الضمير الجماعي للجماعات البائسة والمقتلعة من جذورها، والتي كان وجودها المستضعف والمرفوض، يتعرّض للمطاردة المستمرة والشرسة، العنيفة والدموية من قبل محاكم التفتيش.

وبهذا الخصوص، تبقى أهم هذه الدراسات تلك التي قام بها البروفسور فرنسيسكو ماركيز بيانويفا، الأستاذ في جامعة هارفرد والذي يعتبر مرجعاً أول في الدراسات عن الموريسكيين، كما في الأبحاث عن ثربانتس والإسلام، وقد كرّس أكثر من مائة صفحة للكتابة عن اسم «ريكوتيه»، كمكان وكشخصية، وذلك في بحثه «شخصيات ومواضيع دون كيشوت».

يعتبر بيانويفا أن شخصية «ريكوتيه» الرائعة والمؤثرة، تختصر اختصار موريسكيي «وادي ريكوتيه» وقراه: أبرّان، ريكوتيه، أوخوس، بيانويفا، أوليا وبلانكا، وأن هدف ثربانتس وبما لا يقبل الجدل، وكان التلميح إلى مصير تلك الجماعات البائسة والمضطهدة، فتحوّل اسم المكان في روايته إلى اسم خاص، والموريسكي المانتشي هو مثال للضحية البريئة، ويجسّد بنبله وخضوعه لمصيره الذكرى الأليمة لآخر فصل حزين من فصول الطرد الظالم للموريسكيين، والذي كان الناس حوله يمتدحونه.

وهنا، وقبل متابعة البحث، لا بدّ من التوضيح للقارئ العربي، أبعاد الحجة الدامغة لبيانويفا: أن التنصير الإجباري للموريسكيين، كان منذ عام 1501، يلغي تلك الجماعات، وإمعاناً في تغييب صلتها بالجذور، أسماء عائلاتها المسلمة - العربية، التي ظل موريسكيو، «وادي ريكوتيه» يتمسكون بها، حتى عام 1614، اضطروا بعده إلى تمويهها والتخفي، ليحموا ذاتهم وتاريخهم من مطاردة محاكم التفتيش آنذاك، أعطيت للموريسكيين وكلقب عائلي، أسماء الأماكن التي تنصّروا فيها، ومنها بالذات اسم البروفسور فرنسيسكو ماركيز بيانويفا، وذلك الشاعر الخالد يفديريكو غارثيا لوركا، الواضح انتماؤهما إلى جذر أندلسي مسلم، ولجهة نسب الأم: الإسباني يحمل اسم عائلتي أبيه وأمه.

تأويل لامنتشا

مثل اسم «ريكوتيه»، فإن اسم «لامنتشا» يحتمل تأويلين أيضاً، فهو لم يكن يرتبط في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بمعناه الجغرافي وحسب، وإنما كان مزدوج المدلول ويرتبط مباشرة بالتاريخ الموريسكي، سواء أكانت ميمه الأولى مكتوبة بحرف كبير La Mancha أو بحرف صغير la mancha أي اللطخة المتوارثة، التي كانت تدمغ بها صدور أو جباه الموريسكيين كعلامة لعبوديتهم ودونيتهم في وطنهم، ولتمييزهم عن سائر المواطنين «الأنقياء الدماء».

يذكر الباحث فرنسيسكو ريكو في بحثه «دون كيشوت دي لامنتشا» إلى أن موريسكيي مملكة غرناطة الذين كانوا يخضعون تدريجيا إلى ممنوعات تحدّ من نمط حياتهم التقليدية، عصوا وتمرّدوا دفاعاً عن هويتهم وأنفسهم، وأن أهم ثوراتهم التي اندفعت في جبال البشارات ما بين عامي 1568 و1570، وكانت نتيجتها أن آلافهم هُجّرت إلى «لامنتشا»، التي تحوّلت إلى مركز مهم للتجمعات الموريسكية، وذلك حتى مطلع القرن السابع عشر، الذي يحدد فيه عام 1614 تاريخاً لآخر مهلة تعطى لهم لمغادرة إسبانيا، وتحديدا في الزمن الذي كتب فيه ثربانتس الجزء الثاني من الرواية.

كذلك، يشير الباحث أغوستين ريدوندو في كتابه «منهاج آخر لقراءة دون كيشوت»، إلى أن ثربانتس استفاد بذكاء من ازدواجية معنى الاسم - المكان واللطخة، ليطلقه على عنوان روايته العالمية، وأن تعبير Los manchados أي الملطخين، والذي كان يمكن أن يُنعت به ثربانتس (لتحدّره من أجداد مسلمين)، كان تعبيراً متداولا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ويرد باستمرار في القانون الاجتماعي للأحوال الشخصية الذي يتطرق إلى «نقاء الدم» في قشتالة الجديدة.

ويضيف ريدوندو أن هذا التعبير يرد أيضا في الإنتاج الأدبي في ذينك القرنين، وقد اعتمده كاتب رواية «كوستينا المتشرّدة»، في تصويره لشخصية بطلته المتنصرة الملطخة، ويوضح إلى أن هناك قواسم مشتركة بين هذا الكتاب وبين رواية «دون كيشوت» المعاصرة له.

نستنتج مما عرض، أن ازدواجية اسم «لامنتشا»، تفسر بوضوح لم اختار ثربانتس هذا الاسم جزءا من عنوان روايته، ولم كان «دون كيشوت» لا يريد أن يذكر بداية اسم المكان الذي انطلق منه في جولة أولى، ليقوم بدور الفارس الجوّال، الذي يجعل هدف حياته الأسمى هو الدفاع عن المستضعفين في مواجهة الظالمين والطغاة، فهو كما يلاحظ البروفسور إدواردو غودوي القنطرة، يطل علينا في بداية الرواية في أجواء ضبابية غامضة، مقنعا ماضيه أو متنكراً له، في زمن كان يبالغ فيه بتقدير الأنساب، انطلاقاً من أيديولوجيا «نقاء الدم» السائدة في عصر إلغاء الهوية الموريسكية، وقمع الحريات الشخصية للموريسكيين أفرادا وجماعات.

ويمكن القول أيضا إن هذه الضبايبة، وهذا الغموض بالذات، هما اللذان يعرّفان بسريّة بالهوية الموريسكية لبطل ثربانتس، المانتشي الملطخ el hidalgo «دون كيشوت»، أو تحديداً «ابن الخير» و«النبيل المنتقص من قدره» و«ابن النعمة»، وقد ورد تفسير هذا التعبير في كتابات وأبحاث ثلاث شخصيات إسبانية، تعتبر مراجع أولية في توثيق ودراسة كلية التاريخ الأندلسي: الملك ألفونسو العاشر (1252 - 1284)، العلامتان رامون مينيديز بيدال وأميريكو كاسترو.

في كتاب «الوثائق» الذي وقّعه الملك الأديب، المتأثر بعمق بالإسلام، والذي استعرب في العديد من مظاهر حياته الملكية والعامة، نجد تعريفاً أول صحيحاً لتسمية los fijos d'algo، أي الأبناء المتحدرين من سلالة أو ذرية واحدة، والآتون من أماكن وأراضي الخير، وهم «أبناء الخير»، بمعناه المادي والروحي. والتعبير يستعمل كذلك، للدلالة على صفة أو وضع شخص. (مثلا ابن القوطية أو المعتمد بن عبّاد).

ويوضح بيدال أن التسمية تعني النبيل الذي يبقى في أدنى السلّم الاجتماعي للنبالة، وقد أعطيت للنبلاء الغرناطيين المتنصرّين، الذين عرفوا بلقب «دون».

ويظهر التفسير الأوضح في كتاب أميريكو كاسترو «الواقع التاريخي لإسبانيا»، فتعبير los fijos d'algo، يتطابق تماماً في اللغة العربية مع تعبير «أولاد نعمتي»، «الوارد في كتاب «ألف ليلة وليلة»، والذي كان شائعاً في الحياة الأدبية والاجتماعية في تلك العصور التنازعية في حياة الإسلام الأندلسي، وهو يعني الناس الأثرياء، وامتداداً المتحدّرين من عائلة كريمة. ويستطرد العلامة مضيفا أن لفظة ولد، ابن أو «بن»، لا ترد إطلاقاً في اللغات الأوربية، وكتسمية متعلقة بالأشراف والنبلاء، ولا نجدها إلا في اللغتين الإسبانية والبرتغالية، «ولو لم يكن المؤرخون واقعين تحت تأثير القمع النفسي، والخوف من أسلمة الماضي الإسباني، لاعترفوا منذ زمن طويل أن تعبير los fijos d'algo، هو انعكاس لتعبير عربي».

وتنصهر الإيضاحات الثلاثة في بوتقة واحدة، لتنسج ملامح الهوية الحقيقية والموريسكية لـ «دون كيشوت».

إن ذكر كل هذه التفاصيل ودراسة مدلولها المهم في عنوان «دون كيشوت»، يتيح لنا اعتبار أن هذا الأثر الأدبي العالمي، لا يمكن أن يقرأ إلا من وجهة نظر مدجّنة، توحدنا مع جوهر مضمونها لنتعلّم كيف نرتقي إلى مستوى المبادئ الإنسانية الكبرى، وكيف نحبّ المواطن الآخر، المختلف عنا عرقاً ولغة ودينا، فنحسّ بوجعه وآلامه، ونتخذ موقفاً أخلاقيا من الظلم اللاحق به، ونصرخ بتضامننا معه، لنساهم أفرادا وجماعات، في إعادة التوازن إلى العلاقات الإنسانية بيننا وبين البشر المختلفين عنا، والذين شاءت ظروف حياتهم القاسية أن يكونوا مستضعفين.

إن محبة الإنسان للإنسان، هي أسمى نداء تضمنته الرسالة العالمية التي تذكر أيضا بالكرامة الإنسانية، بالحرية والعدالة، والتي وجهها ثربانتس من الأندلس الجريحة إلى الدنيا، وأوكل إلى «دون كيشوت» المعذّب المتخفّي، ورمز الضمير الجماعي للموريسكيين المستضعفين والمضطهدين أن ينقلها إلينا، فظلت تؤثر في ضمير كل شعوب الدنيا بعد أربعمائة عام على صدور الرواية الخالدة، خاصة وأنها وجدت صداها الأقوى في صوت الشاعر الآخر العظيم فيديريكو غارثيا لوركا، الذي جعل من الأندلس الموريسكية، ورمزها غرناطة، مسرحاً جديداً يطلق منه رسالة سلام ومحبة جديدة إلى كل الدنيا، التي ترددت في كل أرجائها أصداء ديوانه «قصائد غجرية» كان أبطاله أخوة لـ «دون كيشوت».

 


ناديا ظافر شعبان




ثربانتس





تمثالا دون كيشوت وتابعه





الأعمال السينمائية تناولت الرواية