قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص الخمس؟
-------------------------------------------

  • يوم تكلم الظل: لـ«د. علاء عبدالمنعم»:

الثيمة الرئيسية في هذا النص هي أنسنة الظل واستخدامه كسارد رئيسي للأحداث. أجاد الكاتب تفعيل العديد من الحواس الإنسانية (الغيرة, العتب, التحدي, الإبصار....). هذا التفعيل الذي أدى بالنهاية إلى تجسيد الظل ككائن حيوي مستقل بإمكانه أن يكون نداً لصاحبه. واستطاعت هذه المفارقة بامتياز أن تبلور الظل داخل حالة إنسانية نجحت في استدرار عاطفة المتلقي.

  • حكاية قصتي مع النعناع: لـ«عبدالجليل عبدالقادر»:

من خلال زاوية مبتكرة والتنقل بين عدة مشاهد منفصلة, أجاد الكاتب تسليط الضوء على واقع النشر في الصحف العربية والتي عادة لا تجد لها منفذاً نحو المتلقي الواعي.

الفكرة مبتكرة من خلال استخدام النص القصصي المنشور كراوٍ للأحداث يحكي معاناته بين عدة نماذج من القراء العرب على اختلاف مشاربهم ومستوياتهم الاجتماعية. الصدمة هي أن يجد هذا النص نفسه في صحيفة مرتجعة ليعانق النعناع وكأن هذا النعناع وصاحبه المتطفل كان أجمل القراء وأكثرهم وعياً.

  • لحمة، وردة أو كتاب: لـ «سمية عزام»:

رغم عدم تقليدية العنوان, فإن النص تميز بجانب إنساني شفاف وتسلسل زماني ومكاني سلس للغاية. الأنالوج الذي تشبع به النص أضفى ثيمة واقعية وتطرق لواقع البطلة من عدة زوايا كحالة نموذجية معيشة في الواقع العربي. برعت كاتبة القصة في تنويع الحبكة والتنقل بين الهموم المعيشية للشخصية البيروتية البسيطة انتقالا من الحالة الاجتماعية مرورا بالقصور المادي المزمن والذي يقف عائقاً أمام تحقيق رغباتها العاطفية سواء تجاه زوجها أو أبنائها.

  • الأسد: لـ «يوسف الشمري»:

اشتغلت هذه القصة على الرمزية بامتياز, ربما تحدثت عن أحداث كبيرة وربما هي من نسج الخيال, لم يتعمد الكاتب إيضاح شخوص قصته باستثناء رعاة البقر الأمريكيين حيث كان مباشراً في الإشارة إليهم, أجاد الكاتب تمويه شخوص القصة وإضفاء الرمزية على أحداث ربما عاصرناها، وربما أيضاً كان لها أثرها الكبير في الفرد العربي.

  • حفنة تراب: لـ«وجيهة عبدالرحمن سعيد»:

نص سينمائي حركي مفعم بالمشاهد الريفية والجبلية, وتتماهى فيه عناصر الطبيعة للحياة الفطرية، والتي من ضمنها نموذج الإنسان القروي بغريزته البسيطة وبتلقائيته المجردة. برع الكاتب في رصد ردود الفعل العفوية من جميع شخوص النص من خلال سردها بحيادية الراوي المشاهد والمتفاعل مع تصاعد الحبكة السردية.

----------------------------
يَوم تكلّمَ الظّلُّ
د. علاء عبدالمنعم (مصر)

كنتَ تظنني مثل عشيقاتك الفائتات، سأقبلُ بانمحاق كبريائي بين رحى غرورك، لا لشيء سوى توهمك عجزي عن الانفصال عنك، فأنا تابعُكَ الذي تستحضره بومضة ضوء وتمزّقه أشلاء بضغطة زرّ.

أعلمُ جيدًا بغضك لي، أتلمسُ لك في بعض الأحيان سيلاً من الأعذار، فظهوري على نحو مفاجئ أفسد عليكَ العديد من نزواتك المحمومة، أضاع منك أحاسيس النصر الملحاحة، وأحالها أشباحًا من القهر والإحباط المقذع؛ أستعيدُ من خدر الذاكرة ملامحكَ الساخطة حين حرمتُكَ لذّةَ المُلامسة المألوفة، كنتَ قد تهيأتَ تمامًا، اخترتَها بدقة من بين كل المُنتظِرين في صالة الاستقبال الواسعة أشهدُ لك بحسن اختيارك، لم تستعجلْ الوقت كعادتك، رأيتَها تهمُّ بمغادرة المكان، حان الوقت إذن، ستبدأ الركض كالمعتاد عندما تشاهدها وهي تمر من بين أضلاع جهاز الكشف عن المعادن، ستقتنص اللحظة بمهارة، ستندفع خلفها مارقًا من بين الأضلاع اللامعة، تزج بنفسك في الفراغ الضيق بينها وجدران الجهاز، وعندما تجلدُكَ بنظراتها المُستغربة ستبادرها بمطولات الاعتذار، تتعلل بالظرف الطارئ الذي استوجب سرعة تحركك فحدث ما حدث دون عَمْد منك، تنطفئ جذوة غضبها وتَعْلكُ باستمتاع كلامَكَ الممزوج بلعاب المكر، بل ربما تكون هذه الفعلة بداية علاقة جديدة.

أعددتُ كل شيء بإتقان ولكنّكَ كالعادة تناسيتني، أخرجتني من حساباتكَ مثل كلّ مرة، ولكنني ما عدّتُ قادرًا على تحمل تجاهلك لي، سأجبرُكَ على احترامي، لابد أن أنتقم لي منك. ترسَّخ التصميمُ بداخلي حين أحسستُ بالمصابيح المُعلَّقة على جدران الصالة الملساء وهي تستصرخني لكي أتحرك، تُعاهدني على المساعدة، أخترتُ الوقت بدقة مثلكَ، لابد أن أبزغ عندما تظن أنَّكَ اقتربتَ من تحقيق هدفك فيكون إحساسكَ بالانكسار أشرس، الآن، تمدّدتُ بشكل مُستنفر، انعكستُ في اتجاهات المكان الأربع، كسيتُ أرض الصالة، واحتضنتُ حيطانها بشبق مسعور، جعلتُ كل من في المكان يتحجر دهشةً، كان لابد أن تراني هي، تنبهتْ لي فأدركتْكَ، أزاحتْ بنفسها بعيدًا عن الفراغ المستطيل وجعلتْكَ تمرُّ وحدَكَ، لم أغضب من سبِّكَ لي طوال الليل كلما تذكّرْتَ شعرَها الفاحم وعنقَها المرمر ويديها الثلجيتين.

أعلمُ أن ذكرياتي معك منذ طفولتك كانتْ مؤلمة، ولكنّه لم يكن خطأي، بل خطأ صديقك البدين الذي فتح فجأة نافذة فصل ثانية رابع الابتدائي، فاندفعتْ أسرابُ الشعاع الأصفر المُتقِد على ذراعك الذي كنتَ قد مددتَه داخل حقيبة مُدرسَتِكَ لكي تقترض منه ساندوتش الجبنة الرومي القديمة التي كنتَ تدمنها، لم يكن اختياري أن أتمدد على سطح السبورة، فأنت تعلم مدى كرهي لرائحة طباشيركم الرديء، ولكنها قوانين الطبيعة اللعينة هي التي أجبرتني على الانبساط على صفحة وجهها البغيض، لم تدركَ هذا لأنكَ أبله، وبدلاً من أن تنتبه كما انتبه كلُّ من في فصلك تماديتَ في فعلتك، وعندما ابتسمتَ من أسفل منضدتك ظانًا أنك نجحتَ في الفوز بالغنيمة وبدأتَ تقضم رأس الساندوتش هوتْ على أصابعك النحيلة المطرقةُ الثقيلة، يومها عدتَ باكيًا إلى البيت، حزنتُ بشدة من أجلك وبللتني دموعك المُتساقطة، وأسرعت إلى أبيك تطلب منه الذهاب إلى مدرسة أخرى، فلا يمكنكَ الاستمرار في المكان الذي قصّوا في طابور صباحه حكايتكَ وما نالكَ من عقاب لكي يرهبوا بك أمثالَك من طويلي الأيدي.

أعرف كمَّ المشكلات التي سببتُها لك ولكني لم أتعمدها كلها، أما أنت فتسعى إلى إذلالي بشكل دائم، تتصيد أخطائي البريئة لتحمّلني خطايا كونِك كلِّها، تبتكر طرقًا جديدة لتجرح مشاعري أمام الجميع، فأنت تسير على الرصيف تحت ظلال الأشجار السامقة ولا تعبأ بتمرغي في أتربة الشارع وقاذوراته المنتنة ونعال المارة الحارقة تدهسني بلا رحمة، تُمسكَ بيد المرأة العجوز لتساعدها على عبور الشارع فيظن المغفلون من الناس أنكَ رقيق القلب، فلو كنتَ كذلك لما تركتني ملقى على الأرض دون أن تخشى علي من أن تصدمني السيارات الفارهة والحقيرة، تتهلل أساريرك إذا ما ألقى علي أحدُهم بقايا الأيس كريم أو المناديل الممخوطة أو الكافولة الثقيلة، وعندما لا تجد من يفعل هذا تبصق علي بنفسك صارخاً برغبتك في الخلاص مني إلى الأبد. اليوم أنا من سيتخذ القرار، سأتخلى عنكَ بإرادتي بلا أسف عليك، فأنت أضعف من أن تقوى على التخلص مني، سأبدأ من اليوم في البحث عن جسد آخر أكثر إنسانية، جسد يَقْبلُني ويحترمني ويعرف المعنى الحقيقي لقدر المشاركة.

----------------------------
حكاية قصتي مع النعناع
عبدالجليل عبدالقادر

حكت لي قصتي الصغيرة التي نشرتها بإحدى الجرائد، قالت: حين أرسلتني يا صاحبتي بالبريد العادي،إلى إحدى الجرائد الحداثية رماني رئيس التحرير في سلة المهملات بعد أن كمشني فعملهم لم يعد يعتمد على المراسلات المخطوطة و المرقونة بل على المراسلات الرقمية عبر الأنترنيت وهكذا ظللت تنتظرين يا عزيزتي الكاتبة ! وبعد أن طال إنتظارك قمت بهجوم:إرسال عدة نسخ مخطوطة إلى عدة جرائد...فأصبت الهدف..كانت ضمن تلك الجرائد واحدة ما زالت تعترف بالطرق التقليدية للنشر.. فنشرتني... ! !

ها أنا الأن منشورة في صفحة اسمها ابداعات الشباب
- القارئ الأول يحملني داخل الجريدة التي دفع ثمنها لصاحب الكشك ، يعصرني داخل يده اليمنى،وهو يلوي أوراق الجريدة،كأنه ينتقم منها بسبب ضياع الدرهمين و النصف..أو كأنه خائف عليها من الهروب..حركة يده عصبية أحسها وأنا أختنق..ثم أسمع اصطداما عنيفا..وأحس ان الاختناق يخف..وأسمع أصواتا كثيرة (الله...الله...مات...مات...مسكين...جابها في راسو...كان مغيب...كان مرفوع..) وأحس بقدم تدوسني مع أوراق الجريدة ضاع قارئ محتمل !

- القارئ الثاني يلتقط الجريدة،ويضعها في جيب معطفه الكبير الحمد لله،أنا في مأمن من الاختناق...يمشي مترنحا..روائح الخمرة تفوح منه وكذا دخان سجائر يزعجني..يترنح وينعطف نحو حانة منزوية في ركن شارع مكتض بالمارة ...الجو خانق ...ضوضاء..موسيقى شرقية ، دخان كثيف..يخترق الرجل الفضاء المختنق ويلج مرحاضا كتب عيه" خاص بالنساء "مغمغما:"المساواة حتى في البول و... ! "يترنح فتسقط الجريدة في بركة الماء الآسن، روائح بول كريه..هو يلعن " أتفو" خمسين ضاعت.." ويرفس الجريدة ويتبول عليها، يتسرب السائل الكريه ويمحو أسطري..ضاع قارئ محتمل.. !

- القارئ الثالث: شاب في مقتبل العمر.."مكرفط" يحمل حقيبة جلدية، يشتري الجريدة ويضعها في الحقيبة.."الله على راحة" هذا أمر مريح! يتوجه إلى المقهى..

يجلس، يخرج الجريدة..يفتحها..الصفحة الرياضية...يقرأ بنهم..يحضر له النادل قهوة.أكيد أنه معروف هنا..يحتسيها ببطء بعد أن وضع قطع السكر حركها، يتصفح الجريدة بعد إنهاء صفحة الرياضة..يتوقف عند الأخبار السياسية ويغمغم: "هذه الأحزاب لاتتوقف عن الكذب!" ينتقل إلى الاقتصاد...وهاهو يتوقف عند صفحة "إبداعات الشباب" ويعلق بتهكم: "الشباب؟!" ثم يقفز إلى الكلمات المتقاطعة متحمسا:

هاهو قارئ آخر يضيع!!

- القارئة الرابعة: هذه امرأة في الثلاثين من العمر، لعلها ستتعاطف مع مبدعة شابة وستقرأ قصتها..أي ستقرؤني! تحمل الجريدة وتضعها في حقيبتها بهدوء..

وتتحرك، تدخل عمارة، ثم مكتبا لمحامي، إنها سكرتيرة..تفتح الجريدة بعد أن تحيي العساس، وتتصفحها لتقف عند صفحة "جمالك" ثم تغلقها بسرعة وهي تسمع:

الأستاذ جاي...جاي... !

لقد ضاعت قارئة........... !

- قارئ خامس: شاب يبدو أنه تلميذ في إحدى الثانويات يشتري الجريدة، ويفتحها بسرعة وهو واقف أمام الكشك، يبحث عن أمر ما، يتوقف عند صفحة "إبداعات الشباب" يتفحص الأسماء، ثم يتوقف عند إحداها: "رائع..لقد نشروا لي قصيدتي"
وهرول، في البيت أخبر أسرته والجيران، وفي المدرسة أخبر التلاميذ والأساتذة، ولا أحد توقف عندي..بل انه نسخ قصيدته وشرع في توزيعها................

وهكذا صاع قارئ آخر....*!

القارئ الآخير: جمعت الجريدة و أصبحت في عداد المرجوعات، وهكذا بيعت بالكيلو..فوجدت نفسي في أحصان بائع نعناع....ها هو يلف النعناع على صدري ..

وروائح المواد الكيماوية ...و النعناع المبلل...النعناع يعانقني و كأنه يقرأني....

- درهم نعناع..جوج دراهم..
- ربطة النعناع.. جوج رباطي
- وفي البيوت يتطفل البعص على قراءة ما تبقى من سطوري...ها أنا وصلت إلى بعص القراء....

- إنتهى./.
--------------------
- هامش:
- النعناع: نبتة بطعم لطيف تستعمل في اعداد الشاي بالمغرب.

----------------------------
لحمة، وردة أو كتاب
سمية عزام

تركت مبنى الأريسكو حيث مكاتب مجلّة العربي ، بعد أن قدّمت مساهمةً ، وعبرت الشارع باتجاه جريدة السفير الواقع مبناها في نزلة السارولاّ...

لا أعرف أسماء الشوارع في الحمراء ولا متى ينتهي شارع ليبدأ آخر . خبرتي في بيروت وشوارعها قليلة ، كل ما أعلمه هو أنّ تلك الشوارع تسحرني ، وتترك في وجداني انطباعات الدهشة الأولى في كلّ مرّة تطأ قدمايَ أرصفتها .
إلتفتُّ نحو مبنى كلّيّة الحقوق آنذاك قبل أن تُنقل إلى مُجمّع الحدث ، إذ تابعتُ لسنةٍ يتيمة العلوم السياسيّة والإداريّة فيها ، وتوقّفت عن دراستي لأنّي في ذلك الوقت كنت ُ في حالة غَرام .
أتذكّر أنّي أجيب كلّ مَن يسألني عن سبب توقّفي بأنّي" انتزعت"...أ ُتابع سيري راسمةً ابتسامةَ تطفو فوق أسفٍ لا أخفيه عن أحدٍ ولا حتّى عن زوجي.

بمحاذاة مصرف لبنان ، ألّذي كان لي شرف ولوج بابه لمرّة واحدة كي لا يبقى سرّاً أو لغزاً عندي . صعدت إلى أحد طوابقه العليا مع زميلة كانت تدرس معي السياسة. دخلت إلى مكتبها وأخبارها وأحلامها ،لا شيء غير عادي .. إنّه وهم الإكتشاف . إسمها غادة ، مُرتّبها لا بأس به ، ذكرت الرقم أمامي وتحدّثت عن شقّة اشترتها بواسطة قرض من المصرف ، ولا ينقصها إلاّ العريس ، وقليل من الجمال والنباهة! ...لماذا لا يأتي ، ألا يكفيه ما لديها؟ لا أعرف ما آلت إليه أيّامها!

اقتربت من مكتب جريدة النهار - قديماً- قرب المصرف وأيضاً كان لي حظ دخوله ، عندما كنت طالبة، مع مَي مخرجة " نهار الشباب " صديقتي في الكلّية وتعرّفت بأساتذة وكتّاب في الجريدة .. أتذكّر ويعود الفرح ليغمرني من جديد ، وقتها كتبت كثيرا ً في السياسة والحب .. من وحي حالي وواقعي .
عبرت الطريق إلى الرصيف المقابل لأصبح ملاصقة لواجهات القاعة الزجاجيّة فأتأمّل المعروضات ، نصيبي اليوم من الرؤية كان رسوماً ولوحات لا كتباً أو أشغال حرفيّة ..

لماذا هذه التفاصيل؟! كلّ تفصيل له حكاية ، وكل مشهد له ذكرى . أوّل مَحبس اشتريته كان من معرض مُقام في هذه القاعة ، لونه أزرق لا زلت أحتفظ به، وعندما عُدت إلى بيتي في الجبل ، كانت مفاجأتي السعيدة بوجود حبيبي يزورنا لأوّل مرّة بعد انقطاع وبرود في علاقتنا...

تجاوزت تقاطع" الإتوال"- كما أظنّ إسمه لا أدري إن كان همّي حقيقة ً زيارة مبنى السفير أم شيء آخر يشدّني لأتابع سيري لا يُمنة ً ولا يُسرة ً. وبعد أن كنت كالأطفال، ألهو بنظراتي وبالكاد تلامس أصابع قدميّ الأرض ،أصبحت أمشي بخطى ً أسمع إيقاعها ، مع نظرةٍ تصوّب نحو هدف .. بعيد في آخر الممرّ حيث أسير . شيء ما نقل نظري إلى جيب سترتي لأتفقّد نقودي .. آه! لا أملك الكثير عدا أجرة طريق عودتي إلى البيت ، بقي معي خمسة آلاف ليرة ، هي ثمن اللّحم لطعام الغداء "الشاورما" ما وعدت بها ولديّ لهذا اليوم.

تباّ ً لهذا النهار ! 14شباط ، ذكّرني به اللّون الأحمر في واجهات المحالّ التجاريّة . ورود حمراء ،أكياس ،شرائط وقلوب ... كيف سأهدي زوجي في هذه المناسبة ولا أملك ثمن وردة ؟! لكنّه كرّر لي أكثر من مرّة أنّه لا يحب الهدايا ولا تهمّه هذه المناسبة ، فهي وهم وسخافة ... حسنا ً سأصدّق ذلك القول ، اليوم على الأقل.

اقتربت من كوخ لبيع الكتب والمجلاّت القديمة ، الكائن على زاوية في طرف الشارع ، لن أتعب نفسي وأضيّع وقتي بالتفصّح بعناوينها . فأنا أريد تلك الحجرة الزجاجيّة الصغيرة الّتي تتدلّى منها الكتب والمجلاّت حتّى تصل إلى الأرض ، وتلفّها من جوانبها الثلاث كأنّها مسرح الحكواتي.

تسمّرتُ أمامها داسّة ً يدي في جيبي أتحسّس نقودي لئلا ّ وقعت مني وضاعت ، فيضيع أملي بشراء كتاب .. بل ثلاثة من سلسلة إبداعات عالميّة ، الّتي أنتظرها بعشق ، كما ينتظر ولدايَ الشاورما أكلتهما المفضّلة . تجول عيناي بين العناوين ولا أجرؤ على التمعّن فيها أكثر ... ثمّة من يراقبني ، نبّهتني رائحة دخان سيجارته ، ونظرته الوقحة ، تململت في وقفتي وأحلت نظري قليلا ً ، انحنيت صوب بضعة كتب مرميّة أرضا ً وتناولت أعدادا ً ثلاثة . أحرجني وجود صاحب الكتب أمامي لم أكن أتوقّع وجوده.. كنت بحاجة للوقت كي أختار ،و ربّما أنقذني من حيرتي.

الكتب في يدي اليُسرى ، واليُمنى خرجت من مخبئها مع الكنز!...

لا بأس اليوم بطبخة" بُرغل"، ومع لوحين من الشوكولا لتطييب الخواطر .. أمّا عيد العشّاق، فلا تعذّبني مصادفته اليوم ، قبلة وزهرة من شتولي ،أعلم أنّها أكثر من كافية لتجديد أيّامي وتأكيد وفائي لمن أحبّ .

لا أدري إن فرحت بكتبي الّتي أتأبّطها مع حرقتي ..
لكن لماذا تأنيب الضمير ؟ البُرغل نافع وصحّي، لا يشكو من شيء !.

----------------------------
الأسد
يوسف الشمري

عينان مضيئتان . عفرة شعثاء . قوائم مشدودة تنتهي بمخالب كالأنصال . زئيره يلقي الجزع في القلوب . يطأ الثرى مختالا بجبروته . وكأنه مليك يخطر بين رعيته. ثمة شاب أنيق يقف غير بعيد عنه . حليق الشارب واللحية . سرح شعره على طريقة الخنافس . تبدت عليه كل أناقة عقد السبعينيات من القرن المنصرم.

قميص ضيق طوى أكمامه فوق المرفق ، وقد بان شعر صدره عبر الفتحة الكبيرة للأزرار المفتوحة . بنطال ( تشارلز ) أخضر اللون ، ضيق عند الكمر ثم ينحدر باتساع حتى أسفل الكعب.

اقترب منه الأسد . بربر دونه . وبلحظة خاطفة بعد أن استجمع زوره ، انقض عليه . طرحه أرضا . وقف على صدره بقدم واحدة. طفق يشخطه بمخلبه الحاد.

أمعن في تعذيبه . تخضب الشاب بدمه . أخذ يصرخ . يستنجد . يستجير . . الكل ينظر . ولا مجيب . كف عن النداء ، واكتفى بأنين خافت حزين . . طلقة تدوي في أعنان السماء . فيلوح في الأفق رجل تبدو عليه سيماء رعاة البقر الأمريكيين . يسدد بندقيته نحو الأسد ، فيتخلى عن فريسته ويتراجع إلى الخلف. لسبب غريب لم يقتله الرجل . أولاه ظهره ومضى . . يتقدم من الأسد ثلة من الرجال . يحملون بأيديهم أوراقا بيضاء . يتحلقون حوله . أضخمهم رجل بحلة عسكرية . يلقي بسلاحه جانبا . ثم يرشق الأسد بالورقة البيضاء التي بيده . يجفل منها . فيرتد خطوتين للخلف . يقابله الآخر . شاب قصير القامة . معقوف الأنف. ذو لحية مسترسلة. تزين جسمه الدقيق بدلة أنيقة.

تعتليه طاقية صغيرة . يتأبط كتابا ضخما . لعله من أسفار العهد القديم . يضع الكتاب على الأرض بكل احترام . يرميه بالورقة البيضاء ، فيتراجع قليلا . .

رجل كهل . ببنطال وقميص متواضعين . يعتلي رأسه شماغ أزرق . يقذفه بورقة بيضاء مشابهة . أخذ يزمجر. ثم زأر بحرقة . كشر عن أنيابه . بلا فائدة.

اقتربوا منه أكثر . لاح له شيخ مهيب . يرتدي قفطانا اسودا وعمة سوداء . تتدلى بين أصابعه اليمنى سبحة طويلة . . سوداء أيضا . في يده الأخرى ورقة بيضاء . رماه بها وهو يرطن بكلمات مبهمة . حتى الشاب الأنيق الذي تحرر من أساره قبيل قليل ، غير بدلته بواحدة جديدة . وبعد أن ضمد كل جراحاته . أخرج من جيبه ورقة . حذفها عليه . ثم أتبعها ببصقة تشي بكل ما في داخله من حنق وغيض .

تقدم نحوه سادسهم . رجل في أواسط العمر . شماغه أزرق ، وعقاله كأنه إطار من شعر . ذو شارب غليظ ولحية غير مشذبة . ما إن رآه الأسد حتى اتسعت حدقتاه ، وبرزت أنيابه في تكشيرة هي الموت بذاته . زمجر بغيض . انحنى الرجل على صندوق شفاف مغلق بقفل بلاستيكي . مليء بالأوراق البيضاء . رفعه لأعلى ، فلمعت تحت وهج الشمس عقلة اصبعه البنفسجية . هم بالهجوم على ذلك الخنصر الذي أثار غضبه . ابتدره الرجل بضربة في الصندوق على يأفوخه .

تطوح من فعل الضربة . رفع الرجل ثوبه وعضه بأسنانه . التقط عقاله المشعر من على رأسه . ثم . . . طفق ضربا بالأ . . . س. . . د .

----------------------------
حفنة تراب
وجيهة عبدالرحمن سعيد

هذا الذي انحدر من زغابات فجر ٍلا متناه ٍ ..... كيف استطاع الابتعادَ هكذا عن بيته, الذي يعلو سفحَ القرية, التي نامت بتأمُّلٍ على هذه التلّة ....بيتُهُ هو آخرَ بيتٍ شرقِ القريةِ, يقفُ قبالةَ الشمسِ, في كلِّ صباحٍ, حين تنسلُّ من مخدعها المظلم, تترك وراءَها ذيلاً من الشُّهبِ, ينير حلكةَ ليلهِم هناك, وفيما نسمِّيه نحنُ الطّرفُ الآخر من العالم الضّبابيِ.... انزلقَ جالساًعلى مؤخِّرتهِ, وبدفعةٍ واحدةٍ من يديهِ لجسده, تسلَّق هابطاً المنحدرَ الذي كان طريقاً, تشقُّ صدر التَّلة وصولاً إلى البيوت في أعلاها... حتى استقرَّ أخيراً في البقعة التُّرابية التي تحوَّلت إلى صحراءَ صغيرةً غير متراميةِ الأطرافِ, بفضل ذلك التسلُّق, أبتِ الأعشاب والحشائش النّموَّ في تلك البقعة, خشية الموت دهساً بأقدامهم في كلِّ حين, عندما يصعدون الطَّريق التي لا تخلو منهم, أصبح الغلام الصَّغير الآن من سكان الأرض, فقد هبط بمظلِّته اللامرئيَّة, إلى أرض الحشائش والأشجار, وقطعان الأغنام التي ترعى في زاويةٍ على مرأى من بصره, والدَّجاجات التي يقودها ديك يمشي بتؤدَّة, مباعداً بين ساقيه, وقد نفش الرِّيش القزحي, ابتهاجاً بقيادته لقطيعه..... وفي بيدر الأشواك, تراءى له ديك حبش, بدا كنعامةٍ أول الأمر, أو غولاً يحكى عنه في أقاصيص جده....تقدَّمَ بقدميه الحافيتين نحوه, وقد أمسك بيده غصناً, استلَّه من بين كومة الأغصان اليابسة التي جمعتها ( أم بيار ) من كرم العنب, بعد قضاء موسمهِ, ليكون حطباً حين تحتاج إليه ...هذا العفريت الصَّغير ابن الخمسة أعوام, يتقدَّم باتجاه الدّيك الحبشي غير مبالٍ... يقوده فضوله, فقد اختاره من بين تجمهر الحيوانات والطُّيور في كل جهة......

أتساءل ما الذي جعله يختار هذا الشَّبح الغولي, ليذهب إليه, ويعلن معركة لم يكن ذلك الديك على علم بها, وبعد أن اقترب منه, انحنى بطوله على الأرض, وأخذ بعض الحصى, ثمَّ راح يقذفها واحدة تلو الأخرى, معلناً بداية المعركة.

ما زال غير قادر على إيصال نبأ إعلان الحرب إلى مسامع ذلك الوحش البرَّي, حيث بدا له, وحينما لم تصدر منه حركة تقدَّم أكثر, وجعل عدد الحصى أكثر, وقذفها بسرعة أكبر, وقوة لا يستهان بها من قبل فراشة مثله.

آن لغريمه أن يلتفت إليه, ليعلم بأنَّ رائحةَ معركة تفوحُ من الصَّبي الصَّغير...... فراح ينفش ريشه ويسرع بخطاه, معلناً ردَّ الهجوم عنه..... قذفه بحصيَّات أخريات, لكنه لم يفلح في ردعه, وهنا ما كان منهُ إلا أن يسلِّم ساقيه للريح, مستغيثاً طالباً النجدة .....كنت ُ أراقبه بفضول بينما كنت منهمكة في قراءة رواية, جذبتني الكاتبة بأسلوبها, لدرجة أنني لم أستطع فكاكاً عنها, حينها كنت جالسة بجانب سور المدرسة الطيني, أقتبسُ من النهار فسحة من الرَّاحة, لأكمل قراءة الرواية رفعت ُ بصري أجيله حولي.... ولانغماسي في صفحات كتابي, لم أدرك بأن مصدر الاستغاثة هو ذلك الصبيُّ الذي راقبتهُ, ومن ثمَّ انشغلتُ عنه, انتصبتُ واقفة, لأسرع لنجدته.. فإذا بي أرى رجلاً ينبثق من بين البيوت.... رجلاً عتيقاً له قامة سحابة, وساقان طويلتان, واضعاً إحدى يديه في جيب سرواله, بينما الأخرى تقبض لفافة تبغ, ينفث من فمه دخاناً كثيفاً, ودون أن يتقدًّم من الطَّفل المطارد من قبل الديك الذي نفش ريشهُ, وطالت الذؤابات الحمراء في ذقنه, وانتفض عرفه القاني.....

طلب منه صارخاً: هيا اضربه....اضربه... أبعده عنك.
ثمَّ مضى بمحاذاة الطفل, كسحابة صيف ٍ تمرُّ بسرعة .

وما أن سمعهُ الطفل, حتى دبَّت الشجاعة سيراً سريعاً في أوردته, التي وصَّلت ردة الفعل هذه إلى قلبه, فبات كقلب مقاتل شجاع, يصارع الثيران في حلبة اسبانية للمصارعين, والتفت إلى الديك, ثمَّ انحنى على الأرض, ممسكاً بحفنة من التراب التي تناثرت من بين كفيه الصغيرتين, وأرسلها ذرَّاً إياها على عينيِّ عدوِّه, اللتين كانتا تقدحان شرراً حارقاً..... وبدد بذلك الهجومَ العاصفة.

إذ سرعان ما اندس التَّراب في عينيه.... فانتفض هازَّاً رأسهُ, ومادَّاً عنقهُ, مصدراً ذلك الصوت الذي يشبه هدير بوق الموت, ثمَّ اختفى الصوت منخفضاً رويداًرويداً, وعادت الأرياش السّوداء إلى طبيعتها, بينما الذؤابات كانت تنكمش، استسلم أخيراً واستكان... ورأيتُ بطلي الخُرافيَّ, بعد ذلك كيف اندفع يعانقها ويلاعبها وصارت لا تخشاه, هكذا انضم الطفل الذي كان قبل لحظات غيمة خائفة, تهرب من رياح عاتية, وقبلها بلحظات أخرى بطلاً مغواراً يقتحم ساحة المعركة بلا خوف... إلى عالم الطََّّبيعة, هناك في تلك القرية التي لا يفصلها عن جسد السدِّ سوى جسر....

وللحظات بعد ذلك كنتُ أفكِّر... ماذا كان يدور في ذهن هذه الشَّرنقة, لتعلن هذا الهجوم المباغت, من دون سابق إنذار, وبم يفكِّر الآن وهو يلهو مع الطبيعة الساحرة في قرية (جلو) الجميلة المليئة بالحكايا...

قرية جلو : قرية صغيرة تقع شمال مدينة الحسكة إحدى المحافظات في سوريا ولها إرث تاريخي في كتب التاريخ الخاصة عن المنطقة.

 

حسين الجفال