الفجوة النانو - معرفية وآثارها على العالم العربي

الفجوة النانو - معرفية وآثارها على العالم العربي

من الجدير بالذكر، أنه وللمرة الأولى ومنذ دخول العالم في ثوراته الصناعية الكبرى بأواخر القرن السابع عشر، تتواكب الاهتمامات التقنية والأنشطة العلمية والبحثية في عدد من الدول العربية مع تلك الاهتمامات البحثية والمجالات التطبيقية التي توليها الدول الصناعية المتقدمة الاهتمام الأعظم.

فقد سارعت بعض من دولنا العربية في منطقة الخليج العربي (السعودية، الكويت، قطر)، والنطاق العربي بالشمال الإفريقي (مصر) خلال سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بوضع مبادراتها الوطنية وبرامجها البحثية الخاصة بتأسيس برامج ومراكز تميز لعلم وتكنولوجيا النانو. وقد انضمت أخيراً لتلك الأنشطة البحثية العربية، دولٌ عربية شقيقة أخرى، مثل الجزائر، المغرب، الأردن، الإمارات. وهذا في حد ذاته إن دل على شيء، فإنه يدل على تعاظم الحس العربي بأهمية دور التكنولوجيات المتقدمة في دعم وتعزيز الاقتصاد العربي، وتوظيف أدوات تكنولوجيا النانو لحل مشكلاتنا المستعصية، ولتحسين معيشة المواطن العربي وتوفير الرعاية الصحية والخدمات الطبية له. لكننا وفي الوقت نفسه، لا بد أن نُقر بأننا لم نحقق بعد كل ما نطمح إليه كعلماء وباحثين بهذا المجال المهم، فنحن مازلنا نترجل في بداية هذا الدرب الذي يحتاج منا إلى مضاعفة الجهود العلمية والبحثية وأن نزيد من ساعات تفرغنا البحثي والعلمي حتى نكون قادرين على تجاوز الفجوة التكنولوجية الفاصلة بيننا وبين الدول المهتمة بتلك التكنولوجيا. ويبين الجدول «1» عدد الأوراق البحثية المتعلقة بعلم وتكنولوجيا النانو المنشورة بالدوريات العلمية العالمية منذ عام 2000 وحتى نهاية عام 2008 الخاصة بالدول العربية، وذلك بالمقارنة مع مجموع الأوراق البحثية لبعض من الدول الشرق أوسطية، وكذلك بعض من الدول النامية بقارة آسيا، مع إسقاط تلك الأوراق المنشورة بورشات العمل، الندوات، أو بالمجلات العلمية المحلية، أو مجلات الثقافة العلمية من الحسبان.

الجدول (1) : مقارنة لناتج النشر العلمي في مجال تكنولوجيا النانو بالدول العربية، بنظيره ببعض الدول الشرق أوسطية والنامية بقارة أسيا، وذلك في الفترة ما بين عامي 2000 و 2008.

وإذا ما تأمل القارئ الكريم البيانات المبينة في الجدول السابق، اتضح له عدة أمور يمكن إيجازها في النقاط التالية :

- تدني مساهمة الدول العربية مجتمعة (13 دولة) في النشر العلمي العالمي الخاص بمجال تكنولوجيا النانو إلى 0,65% فقط من مجمل الإنتاج العلمي العالمي الخاص بهذا الفرع من التكنولوجيات.

- الإنتاج العلمي العربي الخاص بالأنشطة النانونية والمنشور في الدوريات العالمية خلال فترة ثمانية أعوام لا يتعدى 1263 ورقة، وهو بذلك لا يعادل إلا ثلث ما قامت به إسرائيل بنشره من أوراق بحثية في هذا المجال ( 3363 ورقة ) خلال الفترة نفسها.

- على الرغم من الحصار الشامل المفروض على إيران منذ وقت طويل، فإنها تحتل الترتيب الثاني بعد إسرائيل فيما يتعلق بمسألة النشر العلمي الخاص بدول منطقة الشرق الأوسط المهتمة بتكنولوجيا النانو، حيث وصل عدد ما نشرته من أوراق علمية مُحكمة بالدوريات العالمية إلى حوالي 1385 ورقة. وهي بذلك تتفوق على تركيا المتاخمة لقارة أوربا، والتي تنال كثيرا من مزايا التعاون العلمي والتكنولوجي المشترك مع دول القارة وغيرها من الدول التكنولوجية المتقدمة.

- نلاحظ أيضًا ارتفاع مؤشر النشر العلمي بمجال تكنولوجيا النانو الخاص بالدول الصاعدة في قارة آسيا مثل الصين، دول النمور والهند، للحد الذي شاركت فيه تلك الدول مجتمعة بحوالي ثلث المنشور من أبحاث نانونية على مستوى العالم وذلك خلال الفترة نفسها موضوع المقارنة (200 2008).

تصنيف دول العالم وفقًا لأنشطتها النانو - بحثية

يوضح الشكل التالي التصنيف العام للدول المشاركة في الأنشطة العلمية، البحثية والتطبيقية الخاصة بتكنولوجيا العالم وذلك خلال الفترة المنحصرة ما بين عامي 2000 و 2008. وقد قمت بتصميم هذا التوزيع الموضح بالشكل وفقا لما أُتيح لي من بيانات ومعلومات ترتبط بعدة عوامل هي:

- المخصصات المالية التي وفرتها حكومات تلك الدول لإدارة الأنشطة البحثية النانونية بها.

- الإمكانات التقنية المتوافرة بالمعامل البحثية لمراكز التميز النانونية في تلك الدول.

- القدرات البشرية التي تمتلكها تلك الدول، المتمثلة في عدد الباحثين والعلماء والأساتذة الأكاديميين المتخصصين في علم وتكنولوجيا النانو، الحاملين لدرجات الماجستير والدكتوراه بأحد أفرعها.

- عدد الأبحاث المنشورة بالدوريات العلمية العالمية المتخصصة، ونسبة مساهمة كل دولة من الدول المبينة بالشكل في هذا الإنتاج العالمي.

- عدد براءات الاختراع التي تمتلكها كل دولة.

- عدد الشركات المُنتجة للمخرجات التقنية للسلع والأجهزة النانونية في تلك الدول.

- مشروعات البحث والتطوير الجارية بها.

تصنيف دول العالم المشاركة في الأنشطة البحثية والتطبيقية لعلم وتكنولوجيا النانو، وفقًا للمخصصات المالية المتاحة لها لتنفيذ خطط إستراتيجياتها البحثية في هذا المجال وعلاقة ذلك بالإمكانات التقنية والبشرية المتوافرة بها المتمثلة في أنشطتها النانو بحثية خلال الفترة ما بين عامي 2000 و2008. (تم تنفيذ الشكل وجمع البيانات الخاصة به بواسطة مؤلف هذا المقال منفذ جميع الأشكال والجداول الواردة بالمقال).

ومن الشكل السابق نستطيع تصنيف الدول المهتمة بالأنشطة البحثية المتعلقة بتكنولوجيا النانو إلى المجموعات التالية:

- دول المجموعة الأولى: وهي الدول الرائدة لعلم وتكنولوجيا النانو، حيث تضم الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، ألمانيا، كوريا الجنوبية وتايوان. وتتمتع هذه الدول بتوافر ميزانيات هائلة مخصصة من أجل تمويل المشاريع والأنشطة البحثية المتعلقة بالبحث والتطوير في مجال تكنولوجيا النانو. كما تتميز هذه الدول بتوافر الإمكانات التقنية والبشرية العالية، ووجود صناعات عديدة تعتمد في التصنيع على تكنولوجيا النانو. وتتميز أبحاث هذه المجموعة برفادتها ومستواها العلمي المرتفع.

- دول المجموعة الثانية: وتضم كلا من الصين، سنغافورة، سويسرا وهولندا، فرنسا، المملكة المتحدة، الدول الإسكندنافية (فنلندا، السويد، النرويج، الدانمارك وآيسلندا)، أستراليا، كندا، روسيا وماليزيا. وتشترك مجموعة دول هذه المجموعة مع دول المجموعة السابقة في مستوى أنشطتها البحثية الرائدة بمجال علم وتكنولوجيا النانو، وارتفاع مستوى الناتج البحثي والصناعي القائم على هذه التكنولوجيا. كما تشترك أيضًا في ارتفاع قدراتها التقنية والبشرية وتخصيصها لميزانيات كبيرة لتمويل الأبحاث والمشروعات الصناعية المتعلقة بتطبيقات تكنولوجيا النانو في المجالات المختلفة.

- دول المجموعة الثالثة: وهي مجموعة الدول النامية، وتضم الهند، البرازيل، الأرجنتين، شيلي، المكسيك، جنوب إفريقيا، تايلاند وباكستان. وتختلف هذه المجموعة مع المجموعتين السابقتين في انخفاض قيمة المبالغ المالية المخصصة لإدارة الأنشطة البحثية الخاصة بتكنولوجيا النانو، هذا على الرغم من تمتعها بارتفاع في الإمكانات البشرية من العلماء والمتخصصين في هذا المجال. والأبحاث العلمية الخاصة بهذه الدولة، وعلى الرغم من جودتها، فإنها لا تعد أبحاثًا رائدة أو فريدة، بيد أن هذه الدول تمتلك بعض الصناعات القائمة على تكنولوجيا النانو وتمتلك لنفسها أيضا عددا وافرا من براءات الاختراع الخاصة بالمنتجات النانونية.

- دول المجموعة الرابعة: وهي إيران، تركيا، تايلاند، باكستان، مصر، دول المغرب العربي. وعلى الرغم من أن الأنشطة البحثية النانونية في تلك الدول لا تلقى الدعم المالي الكافي، وعلى الرغم من توافر عدد لا بأس به من الباحثين والعلماء المتخصصين في هذا المجال. ويتدنى في هذه الدول عدد براءات الاختراع المملوكة للشركات الوطنية المُنتجة للمخرجات النانونية، كما تتدنى أو تنعدم التطبيقات التكنولوجية القائمة على تلك التكنولوجيا. وعلى الرغم من نهوض الأنشطة البحثية النانونية في تلك الدول بالفترة الأخيرة الماضية، فإن غالبية تلك المخرجات البحثية مازالت دون المستوى العالمي، حيث تعاني غالبيتها إما من عدم التحديث ومحاكاة أبحاث الغير التي أُجريت منذ فترة بعيدة، أو السير على وتيرة واحدة.

- دول المجموعة الخامسة: وتضم الدول العربية بالخليج العربي الغنية بالنفط، مثل السعودية والكويت، والتي بدأت ثورتها العلمية في هذا المجال التقني المهم منذ فترة وجيزة. وعلى الرغم من انخفاض عدد العلماء المتخصصين وأبحاثهم العلمية في مجال علم وتكنولوجيا النانو بتلك الدول في الفترة الحالية، بيد أن تمتع البرامج البحثية النانونية بها بميزانيات مرتفعة سوف يُتيح لتلك الدول الشقيقة بناء قدراتها البشرية والتقنية خلال السنوات القليلة المقبلة.

- دول المجموعة السادسة: وهي تضم مجموعة الدول الأقل نموًا في العالم، مثل أفغانستان، السنغال، تنزانيا وبنجلادش، والتي حرمتها ظروفها الاقتصادية الصعبة أو الحروب من أن تشارك شقيقاتها من الدول الأخرى في الأنشطة البحثية المتعلقة بتكنولوجيا النانو.

الصدع المعرفي النانو تكنولوجي

على الرغم من كل المزايا التي توفرها تكنولوجيا النانو في خدمة البشرية بمختلف المجالات، والتي يجيء على رأسها مجال الطب والرعاية الصحية (قد يجد القارئ الكريم أنه من المفيد تصفح المقال الخاص بتطبيقات تكنولوجيا النانو في المجال الطبي، والذي نشرته مجلة العربي على صفحات عددها الصادر في فبراير 2010) بيد أنها قد خلقت فجوة تكنولوجية ليس فقط بين دول العالم المتقدم والنامي، ولكن بين الدول النامية نفسها، كما هو مبين في الشكل السابق. وتتسع هذه الفجوة وتتأصل مع نهاية كل يوم يمر دون أن تضع الدول المعنية إستراتيجية بحثية واضحة المعالم تخص تكنولوجيا النانو يؤهلها في أن تُدرج بالخريطة العالمية الجديدة للعالم، القائمة على الإبداع العلمي والتكنولوجي النانوي.

وليس من شك في أن اتساع الفجوة المعرفية في علم وتقنيات تكنولوجيا النانو، بين دول الشمال المتقدم ودول الجنوب النامي وعلى الأخص بدول عالمنا العربي، يمثل أحد الآثار السلبية الجسيمة المتوقع حدوثها جراء تطبيقات تكنولوجيا النانو والتقدم البحثي في مجالاتها على المستوى العالمي، وهو ما حذرت منه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة - اليونسكو UNESCO - United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization، من خلال لجنة ضمت 26 خبيرًا من جميع التخصصات - أطلق عليها اسم الكومست COMEST أو اللجنة العالمية لأخلاقيات المعارف العلمية والتكنولوجية (The World Commission on the Ethics of Scientific Knowledge and Technology)، تشرفت بأن أكون أحد أعضائها.

تكنولوجيا النانو وآثارها على المجتمع العربي

أظهرت التجارب السابقة بالدول المتقدمة، أن النجاح في إدخال أي تكنولوجيا حديثة وتوطينها يتطلب موافقة ومساندة المجتمعات المدنية بها، ودعمها لجهود حكوماتها في مساعيها الرامية إلى توطين تلك التكنولوجيا. ومن المعروف أن قناعة أي مجتمع مدني بجدوى التحديث التكنولوجي وحتمية مواكبته تتأتى من خلال التفاعل والحوار بين المؤسسات الأكاديمية والبحثية من جهة، وبين طوائف القاعدة الشعبية المُمثلة في منظمات ونقابات المجتمعات المدنية من جهة أخرى. لذا، فإنه يتحتم على المؤسسات البحثية والأكاديمية، في عالمنا العربي والنامي أن تقوم بدورها الثقافي المطلوب في تعريف رجل الشارع عن ماهية التكنولوجيا المُراد توطينها ببلده، وأهميتها وتطبيقاتها، وذلك باللغة والأسلوب اللذين يتناسبان معه كمواطن عادي غير متخصص. كذلك ينبغي أن تقوم تلك المؤسسات بالفصح عن ماهية الآثار الإيجابية والسلبية المرتقبة من جراء هذا التطبيق وكيفية التعامل معها. وليس ثمة شك، فقد جذبت تكنولوجيا النانو الكثير من الانتباه خلال العشرين سنة الماضية، فدارت بشأنها مناقشات عديدة وحوارات مستفيضة بين المؤسسات الأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني في الدول الصناعية الكبرى، حيث تركز النقاش حول مدى أهميتها التطبيقية والجدوى الاقتصادية المنتظرة من جراء تطبيقاتها. كما تطرق النقاش ومازال، إلى الآثار السلبية المحتمل حدوثها بعد تطبيقات تلك التكنولوجيا الرائدة وكيفية مجابهتها من خلال وضع الأطر الأخلاقية والقوانين المُلزمة للباحثين والعلماء والمشتغلين في الأبحاث العلمية والتطبيقية الخاصة بتلك التكنولوجيا الجديدة. ومن المتوقع أن تتزايد حلقات النقاش الدائرة بشأن أخلاقيات النانو Nano Ethics في السنوات القليلة المقبلة، خاصة بعد أن أبحرت بعض من دولنا العربية في محيط أبحاثها العلمية. لذا فلابد من قيام حكومات تلك الدول بسن القوانين ووضع الأطر المُنظمة للأبحاث العلمية الخاصة بعلم النانو، بما يتناسب مع المواريث العقائدية والفكرية لنا، والتي ليس بالضرورة أن تتماشى مع نظيرتها بمجتمعات الدول الأخرى.

وفي الواقع، لقد تغيرت مفاهيم المجتمع المدني ونظرته إلى العلوم والتكنولوجيا تغيرًا جذريًا منذ منتصف القرن العشرين، فأصبحت العلاقة بين الثالوث: العلم، التكنولوجيا والمجتمع، علاقة وطيدة ومهمة تمثل في جوهرها ترابطًا وتكافلاً مهما بحيث لا يمكن عزل أحدها عن الآخر. وقد أضحت التطبيقات الخاصة بالعلوم المعرفية والتطورات التكنولوجية المصاحبة العوامل الرئيسية في تقييم مدى ازدهار أي مجتمع وتعيين مقدار تقدمه ونموه. هذا ما دلت عليه دروس الماضي من التغييرات الاجتماعية المعقبة للثورات الحضارية والصناعية بدءًا من عصر ما قبل الصناعة مرورًا بالثورات الصناعية الكبرى التي شهدتها البشرية خلال الثلاثة قرون الماضية والتي توجت بثورة الهندسة الوراثية والتكنولوجية الحيوية، وكذلك ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي مازلنا نعيش نتائجها وتأثيرها على الحياة الاجتماعية حتى اليوم.

وتُعد ديناميكية التغييرات الاجتماعية المصاحبة للعلوم والتكنولوجيا في مجتمعات البلدان النامية، وبخاصة دولنا العربية والعالم الإسلامي عملية معقدة وذلك لارتباطها بنسيج وثقافة المجتمع وبالنظم الاجتماعية والعادات والتقاليد الموروثة. ولا تقتصر طول الفترة الزمنية المرتبطة باستجابة المجتمع للثورات التكنولوجية على مجتمعاتنا فحسب، بل إنها تشمل مجتمعات العالم كله، ولكن بنسب متفاوتة. فإذا ما نظرنا إلى الفترات الزمنية المطلوبة بمجتمعات العالم الغربي لإحداث تغيرات تكنولوجية واجتماعية مبنية على الاختراعات والاكتشافات، فسنجد أنها قد تطلبت مددا زمنية طويلة، وذلك نظرًا لحاجة أي نظام اجتماعي، شرقي أو غربي، نام أو متقدم، في الحصول على الوقت الكافي للرد على التعديل في الأنماط الاجتماعية المصاحبة للثورات العلمية، ومحاولة إيجاد توازنات جديدة في نسيجه وهيكله الداخلي تقوم أساسًا على ضبط إيقاع العلاقات الاجتماعية المواكبة للثورات التكنولوجية والاكتشافات العلمية.

وبطبيعة الحال فإن هذه التغييرات الاجتماعية سوف تتكرر، وإن كانت بصورة أعمق وبشكل شمولي هائل حين ما تبدأ تكنولوجيا النانو في الهيمنة على مجريات الأمور بالقطاعات الصناعية والاقتصادية في العالم أجمع. وأود التأكيد على أنه ليس بالضرورة أن تتم هذه التغييرات المصاحبة لتطبيقات تكنولوجيا النانو على النمط نفسه الذي تمت به عقب الثورات الصناعية السابقة، وذلك نظرًا لتمتع هذه التكنولوجيا بقدر كبير من المرونة التي تُخولها لإحداث تغييرات تدريجية في طرق الصناعة المستخدمة عن طريق إدخال تعديلات مطردة ومتلاحقة مما يُعطي مجتمعات العالم العربي الفرصة في الاستيعاب التكنولوجي. وقد يشاركني القارئ الكريم الرأي بأن الخطورة تكمن في تخلف بعض من دولنا العربية في مواكبة هذه التكنولوجيا الحديثة، والارتضاء بما هي عليه اليوم وعدم الرغبة في تطوير منتجاتها المحلية، مما يجعلها صيدًا سهلاً وسوقًا مفتوحة لفيضان السلع النانونية المقبلة إليها من جميع أرجاء العالم.

أرى أن الخطر الحقيقي الذي سوف تواجهه الشعوب العربية من البلدان غير المشاركة بالأنشطة البحثية النانونية، هو خطر اقتصادي في المقام الأول. إن التزايد المطرد في حجم المبيعات والمنتجات النانونية، لأمر مقلق نظرًا لأن تلك المنتجات الاستهلاكية تجد سوقًا ضخمة لها بمجتمعاتنا العربية، وهذا يعني استنزاف المال العربي وإهداره. أخشى من مجيء ذلك اليوم، الذي تتحول فيه جميع العقاقير والأدوية الفعالة إلى منتجات نانونية، لا يستطيع شراءها إلا كل قادر، وبذلك تترسخ في العالم مفاهيم غير أخلاقية، فيصبح العلاج من الأمراض الفتاكة والمزمنة حقاً للغني، أما المرضى من الفقراء فعليهم التحلي بالصبر والسلوان.

الحلول مازالت بأيدينا

على الرغم من طرح مئات التوصيات من خلال مئات من المؤتمرات العربية الخاصة بكيفية رأب الصدع التكنولوجي بين الشمال والجنوب، بل بين دول الجنوب بعضها البعض، واستضافة عشرات الخبراء العالميين المتخصصين في هذا المضمار، بيد أن كل هذه التوصيات كانت رتيبة ومُكررة، مما أفقدها هيبتها وأهميتها، فعزف متخذ القرار عن الأخذ بها. وفي رأيي المتواضع أنه لا توجد حلول سحرية وفورية لمشكلات البحث العلمي المتراكمة عندنا بالعالم العربي، ولا يستطيع أحد منا أن يصف علاجًا حاسمًا لتلك المشكلات دون أن يتم استئصال عدد ضخم من المشكلات التي تعيق علماءنا عن الإبداعات العلمية والابتكارات. وقد يتفق معي القارئ الكريم أن تلك المعوقات التي تواجهها مسيرة البحث العلمي، على سبيل المثال في علم وتكنولوجيا النانو بدولنا العربية يمكن إيجازها في عدة نقاط هي:

- عدم الاهتمام بتوفير مناهج حديثة وجذابة في مواد العلوم الأساسية لطلاب المراحل الأساسية بالمدارس، وانخفاض مستوى معظم المعلمين، وعدم قدرتهم في توصيل الحقائق العلمية والأساسيات بأسلوب يتوافق مع إمكانات الطالب في تلك المرحلة العمرية، مما أسفر عنه قيام الدارسين باللجوء إلى حفظ المناهج العلمية، التي سرعان ما تتبخر عند انتقال الطالب للمراحل التالية من التعليم. ومن وجهة نظري المتواضعة، فإن هذا هو العامل الأهم، والأكثر تأثيرا، وذلك نظرا لأن علم النانو يعتمد على حصيلة ما تفهمه الطالب من العلوم الأساسية المتمثلة في الفيزياء، الكيمياء، الأحياء والرياضيات، والتي بدونها لا نستطيع المضي قدما في هذه التكنولوجيا حتى مع توافر كل الإمكانات البحثية والتقنية.

- تدني مستوى المعامل المدرسية (إن وجدت) في كثير من مدارس أقطار البلدان العربية، وعدم قيام المدرس بإتاحة الفرصة للطلاب بإجراء التجارب المعملية.

- عدم إدراج علم وتكنولوجيا النانو ضمن المناهج التي يتم تدريسها في مراحل التعليم الأساسية والجامعات في معظم البلدان العربية (أخذت دولة الكويت في هذا العام قرارها بإدراج علم وتكنولوجيا النانو كي يُدرس بمناهج مرحلة التعليم الأساسي).

- قلة عدد العلماء والباحثين المتخصصين في علم وتكنولوجيا النانو وعدم توافرهم، مع دخول فئة غير متخصصة إلى هذا المجال، وذلك من باب «الوجاهة الأكاديمية» أو لربما من أجل مسايرة آخر صيحات «التقاليع التكنولوجية المتقدمة» من دون خبرة أو دراية (تقوم حاليا بعض من حكومات البلدان العربية، وبخاصة في منطقة الخليج العربي، بإرسال طلابها إلى الخارج لنيل درجات الماجستير والدكتوراه في مجال علم وتكنولوجيا النانو).

- انعدام أو ضعف المخصصات المالية الخاصة بتعزيز المعامل وشراء أجهزة تحضير وتوصيف المواد النانونية (قلت حدة تأثير هذا العامل في بعض من بلدان عالمنا العربي بعد أن ضخت حكومات تلك البلدان بميزانيات جيدة تستخدم في تأسيس مراكز تميز لتكنولوجيا النانو، لكن المشكلة مازالت متفاقمة في كثير من البلدان العربية الأخرى).

- غياب دور الشركات وقطاع الأعمال الخاص عن تمويل الأبحاث العلمية الخاصة بتكنولوجيا النانو، وعدم الاستفادة من المخرجات البحثية للعلماء الوطنيين.

- التشكيك فيما يمكن أن تلعبه تكنولوجيا النانو في دعم وتعزيز الإقتصاد الوطني.

- عدم اكتراث أفراد المجتمع المدني لما يجري من بحوث علمية داخل مؤسساته الأكاديمية والبحثية الوطنية.

- غياب ثقافة العمل بروح الفريق الواحد.

- غياب ثقافة الإبداع والاختراع.

- هجرة العقول إلى دول العالم المتقدم في الأنشطة البحثية المتعلقة بتكنولوجيا النانو وتطبيقاتها.

ومن دون مجاملة، فقد أجادت حكومات تلك الدول بقراراتها الإستراتيجية في الفترة الأخيرة، والخاصة بدخول عصر تكنولوجيا النانو، وقيامها بضخ المال العربي اللازم لتمويل البحوث والمشاريع العلمية الموجهة من أجل خدمة ورفاهية المواطن العربي، وحل مشكلاته وتحسين البنية الأساسية في بلاده. كما أجادت قيادات المعاهد البحثية والجامعات العربية، في السعودية، مصر، الكويت، قطر، الإمارات، الأردن، وغيرها من البلدان العربية، في اتخاذ القرار بتشييد البرامج والمراكز البحثية المتخصصة في تكنولوجيا النانو، وإرسال أبنائنا من الشباب العربي الواعد في بعثات خارجية لدول الصف الأول، من أجل نهل علم النانو وتكنولوجيته، كي يعودوا خلال فترة وجيزة إلى أوطانهم وهم يحملون مشاعل الأمل والعلم، ليشيدوا بأموالهم العربية، صناعات نانونية، تقوم على إبداعاتهم واختراعاتهم الأصيلة.

-------------------------------

عجبتُ لهذا الزائرِ المترقب
وإدلالهِ بالصرم بعدَ التجنب
أرى طائراً أشفقتُ من نعبائه
فان فارقوا غدراً فما شئتَ فانعبِ
إذا لمْ يزَلْ في كلّ دارٍ عَرَفْتَهَا
لهذا رفٌ منْ دمع عينيكِ يذهب
فما زال يتنعي الهوى ويقودني
بحَبْلَينِ حتى قالَ صَحبي ألا ارْكَبِ

جرير

 

 

 

محمد شريف الإسكندراني 




مقارنة لناتج النشر العلمي في مجال تكنولوجيا النانو بالدول العربية، بنظيره ببعض الدول الشرق أوسطية والنامية بقارة أسيا، وذلك في الفترة ما بين عامي 2000 و 2008





التصنيف العام للدول المشاركة في الأنشطة العلمية، البحثية والتطبيقية الخاصة بتكنولوجيا العالم وذلك خلال الفترة المنحصرة ما بين عامي 2000 و 2008