جمال العربية

اعتزاز باللغة

كان العرب شديدي الاعتزاز بلغتهم الجميلة، حريصين كل الحرص على تقديرها ووضعها في أكرم منزلة وأحسن صورة. يتجلى هذا الحرص والاعتزاز في عنايتهم بجودة الإلقاء وحسن الحديث، وفي نفورهم من كل عيب يشوب النطق أو يشوه جمال التعبير.

يقول الشاعر الجاهلي سويد بن أبي كاهل واصفا حبيبته بحسن الحديث:

تسمع الحداث قولا حسنا

لو أرادوا غيره لم يستمع

ويقول لبيد، وهو أيضا شاعر جاهلي:

كأن الشمول خالطت في كلامها

جنيا من الرمان مرطبا وذابلا.

والشمول هي الخمر الباردة، ويقال إنها سميت بهذا الاسم لأنها تجمع شمل شاربيها، أو لأنها تشمل على العقل فتملكه وتذهب به.

كما كان العرب يؤثرون من القول ما جاء وجيزا بليغا مركزا، ولذا نراهم ينفرون من فضول الكلام وحواشيه، واشتهر عنهم قولهم: خير الكلام ما قل ودل.

يقول شاعرهم:

تضع الحديث على مواضعه

وكلامها من بعده نزر

ويقول آخر:

لها بشرة مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي، لا هراء ولا هذر

كما كانوا يحبون في الرجل قوة الصوت ووضوحه وجهارته، وفي المرأة رقته وفخامته، ولذا مدحوا سعة الفم في الرجل وذموا ضيقه، ووصفوا الخطيب الواسع الشدقين بالأشدق، وعابوا التشدق فيمن لم يوهب اتساع الفم ورحابة الشدقين. يقول شاعرهم في ذم خطيب:

تشادق حتى مال بالقول شدقه

وكل خطيب - لا أبالك - أشدق

ويقول:

مليء ببهر والتفات وسعلة

ومسحة عثنون، وفتل الأصابع

ويقول النمر بن تولب:

أعذني رب من حصر وعي

ومن نفس أعالجها علاجا

والبهر هو انقطاع النفس - في الكلام - من الإعياء، والحصر: احتباسه، والعي: العجز عن الإبانة والوضوح، وكلها صفات مذمومة في المتحدث، بله الخطيب.

لذلك كله لم يكن غريبا على من يتمدحون بحسن الحديث وجودة الإلقاء أن يعتبروا القدرة على التعبير والخطابة نصف الشخصية الحقيقية للإنسان.

يقول الشاعر العربي:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

عربية أم أجنبية؟

من أطرف البحوث اللغوية التي شغلت علماءنا منذ سنوات، ووصلت أصداؤها إلى المجامع اللغوية العربية، معا يتصل بتنازع اللغات حول أصول بعض الكلمات الكثيرة الشيوع على الألسنة والأقلام، هناك من يقول إنها عربية الأصل وآخرون ينسبونها إلى لغات أجنبية، وأصول غير عربية

من هذه الكلمات كلمة "صوفي".

وهي صفة للرجل، المعروف بالزهد والتقشف والبعد عن الحياة الدنيا.

والذين يرون أن الكلمة عربية الأصل يقولون إنها منسوبة إلى لبس الصوف، الذي كان علامة على الورع والزهد، أو منسوبة إلى الصفة التي كانت في المسجد النبوي على زمن الرسول الكريم، أو إنها من الصفاء بمعنى صفاء القلب من كدر العالم.

لكن هناك من يرون أنها يونانية الأصل، وأنها مشتقة من كلمة صوفيا بمعنى الحكمة، كما أن كلمة فيلسوف من " فيلاصوفيا " بمعنى سحب الحكمة.

وكلمة "القاني" من الألفاظ العربية المؤكدة للألوان، وهي تؤكد اللون الأحمر، يقال: أحمر قان، كما يقال: سود حالك وأصفر فاقع وأبيض ناصع، هكذا يقول العرب، فالكلمة عندهم عربية فصيحة لا شبهة فيها، لكن هناك من يرى أنها تركية الأصل نسبة إلى " قان " بمعنى الدم في التركية، فأحمر قان هي بمعنى أحمر دموي طبقا لهذا التفسير، بينما يقول المحتجون لعروبة الكلمة إن " قاني " مشتقة من القنوء بمعنى الحمرة، يقول العرب: لحية قانية أي حمراء، وقنأ لحيته وقناها: إذا خضبها بالحناء فأصبحت حمراء. ثم يقولون إن الكلمة التركية " قان " بمعنى الدم مأخوذة من " قاني " العربية.

وهناك من يقول إن كلمة " قارة " بمعنى المساحة الكبيرة من سطح الكرة الأرضية هي لفظ عربي أصيل من الفعل: قر، بمعنى ثبت واستقر.

يقول آخرون: بل هي لفظة تركية أصلها "قرة" بمعنى الأرض اليابسة، وإن العرب قد أخذوا "قارة" من التركية كما أخذوا كلمة "بوغاز" اسما للمضيق بين بحرين، من التركية أيضا، وأصل معنى البوغاز في التركية: الحلق والحلقوم.

كذلك كلمة "قهوة" التي سمي بها حب البن المعروف مأخوذة من اسم " القهوة " التي معناها في اللغة العربية الخمرة، اشتقها العرب من فعل: أقهى يقهي، أي ذهب بشهوة الطعام. والخمرة والبن لهما هذا التأثير على شهية الإنسان ودرجة تقبله للطعام.

والأعشى يقول في معلقته:

و "قهوة" مزة راووقها خضل

يقصد بالقهوة: الخمر.

لكن هناك من يرى أن القهوة كلمة حبشية أخذ اسمها من كلمة " كفا " وهي اسم لولاية من ولايات الحبشة هي موطن البن الأصلي، والفرنسيون يسمون القهوة "Cafe" باسم موطنها الأصلي.

كما حدث هذا التنازع بالنسبة لاسم "سارة" زوجة إبراهيم الخليل، فالبعض يرى أنه اسم عربي مخفف الراء من كلمة سارة وهي اسم فاعل من السرور، أي أن المسماة بسارة تسر القلوب. وآخرون يرون أنها كلمة عبرية الأصل بمعنى السيدة أو الأميرة، ومنها كلمة Soeur الفرنسية بمعنى أخت، وكلمة سير "Sir " أحد ألقاب الشرف في اللغة الإنجليزية.

وهي جميعا أمثلة ونماذج لهذا الصراع والتنازع بين اللغات حول أصول بعض الكلمات والمفردات: عربية هي أم غير عربية.

ترى - ما رأي القارئ في هذا الصراع الطريف؟

"أتسألين عن الخمسين"
للشاعر: بدوي الجبل

يذكرنا شعر الشاعر العربي من سوريا بدوي الجبل، بفحول الشعر العربي إبان عصور ازدهاره وتألقه: لغة وتدفق طبع وافتتان تعبير.

في شعره لفح شعر المتنبي وتوهجه، وفيه إحكام أبي تمام وبراعة فنه وصنعته، وفيه سلاسة البحتري وموسيقاه وانسيابيته، في مزاج مرهف، غذته طبيعة الشام الآسرة، وسكبت فيه صورها البديعة اللافتة، فاكتمل له نسيج متفرد بين شعراء عمره بوجه عام، وشعراء سوريا بوجه خاص.

ولد محمد سليمان الأحمد - الذي عرفه القراء باسمه المستعار بدوي الجبل الذي اتخذه لنفسه في مستهل حياته الأدبية - في إحدى قرى محافظة اللاذقية عام 1905، وتتلمذ على يدي أبيه العالم اللغوي والفقيه الديني سليمان الأحمد، ثم أتم دراسته في حماة، حيث تفتحت مواهبه وشد إليه اهتمام الناس، الذين بهرهم شغفه بحفظ الشعر وروايته وإقباله على كتب اللغة والأدب، وإبداعه الشعري المبكر، المؤذن بالنبوغ والتفوق.

وفي عام 1925 نشر بدوي الجبل ديوانه الأول، فاستقبله كبار شعراء عصره بالاهتمام والتقدير، وكتب عنه الأخطل الصغير: بشارة الخوري، وخليل مردم ومحمد كرد علي وعبد القادر المغربي وآخرون من أعلام الأدب والبيان.

وانتهت رحلة الشاعر مع الحياة عام 1980 في دمشق، مخلفا ثروة شعرية ضخمة، وتأثيرا عميقا في الشعراء من بعده.

والقصيدة التي نعرضها من شعره، هي إحدى روائعه الحافلة بأسرار فنه وشاعريته، في مسحة من الشجن الشفيف واللوعة الحارة، حركها في نفسه سؤال ملهمته عن سن الخمسين التي بلغها وما فعلت به، وفجر السؤال ما كتمه الشاعر طويلا فباح، مصارحا ومواجها غير وجل ولا هياب، وليكن بعد ذلك ما يكون! يقول بدوي الجبل:

تأنق الدوح يرضي بلبلا غردا

من جنة الله، قلبانا جناحاه

يطير ما انسجما، حتى إذا اختلفا

هوى، ولم تغن عن يسراه يمناه

الخافقان معا، فالنجم أيكهما

وسدرة المنتهى والحب أشباه

غمرت قلبي بأسرار معطرة

والحب أملكه للروح أخفاه

وما امتحنت خفاياه لأجلوها

ولا تمنيت أن تجلى خفاياه

الخافيان وفوق العقل سرهما

كلاهما للغيوب: الحب والله

كلاهما انسكبت فيه سرائرنا

وما شهدناه، لكنا عبدناه

حمنا مع العطر ورادا على شفة

فلم نغر منه لكنا أغرناه

تهدلت بالجنى المعسول، واكتنزت

والثغر أملؤه للثغر أشهاه

نعب منه بلا رفق ويظمئنا

فنحن أصدى إليه ما ارتشفناه

لم تعرف الحور أشهى من سلافتنا

رف الهجير ندى لما سقيناه

مدله فيك، ما صبح ونجمته

موله فيك، ما قيس وليلاه

من كان يسكب عينيه ونورهما

لتستحم رؤاك السمر لولاه

سما بحسنك عن شكواه تكرمه

وراح يسمو عن الدنيا بشكواه

***

أتسألين عن الخمسين ما فعلت؟

يبلى الشباب ولا تبلى سجاياه

في القلب كنز شباب لا نفاد له

يعطي ويزداد ما ازدادت عطاياه

فما انطوى واحد من زهو صبوته

إلا تفجر ألف في حناياه

يبقى الشباب نديا في شمائله

فلم يشب قلبه إن شاب فوداه

تزين الورد ألوانا ليفتننا

أيحلف الورد أناما فتناه

صادي الجوانح في مطلول أيكته

فما ارتوى بالندى حتى قطفناه

هذا السلاف أدام الله سكرته

من الشفاه البخيلات اعتصرناه

جل الذي خلق الدنيا وزينها

بالشعر، أصفى المصفى من مزاياه

***

يا من سقانا كئوس الهجر مترعة

بكى بساط الهوى لما طويناه

إن كان يذكر أو ينسى فلا سلمت

عيني ولا كبدي، إن كنت أنساه

يحب قلبي خباياه ويعبدها

إذا تبرأ قلب من خباياه

طفولة الروح أغلى ما أدل به

والحب أعنفه عندي وأوفاه

قلبي الذي لون الدنيا بجذوته

أحلى من النور نعماه وبؤساه

لم يرده ألف جرح من فواجعه

حتى أصيب بسهم منك أرداه

إن نحمل الحزن لا شكوى ولا ملل

غدر الأحبة حزن ما احتملناه

قد هان حتى سمت عنه ضغينتنا

فما حقدنا عليه بل رحمناه

يرضيه أن يتشفى من مدامعنا

لم نبك منه ولكنا بكيناه

حسب الأحبة ذلا عار غدرهمو

وحسبنا عزة أنا غفرناه!

صحا الفؤاد الذي قطعته مزقا

حرى الجراح ولملمنا بقاياه!