أسوياء في المصحات العقلية

 أسوياء في المصحات العقلية

هل يمكن إدخال شخص سليم سوي ومعافى من حيث صحته العقلية! إلى مصح للأمراض العقلية على أنه إنسان مختل عقلياً دون أن يتم اكتشافه من قبل الأطباء النفسيين وبقية أفراد الطاقم العامل في المستشفى? إن الإجابة عن هذا السؤال تثير مشكلة ذات طابع ليس طبياً فقط! بل كذلك ذات طابع إنساني. إنه سؤال يلامس بشكل غير مباشر المخاوف والهواجس التي تنتاب كثيرين ممن زاروا مشافي الأمراض العقلية! وممن عملوا فيها! أو حتى ممن رأوا فيلماً واقعياً عن طبيعة الحياة فيها. وتثور مخاوف من نوع خاص عند من سمعوا بإمكان التخلص من بعض الأفراد لأسباب شتى! منها السياسي أو الاجتماعي أو الديني أو حتى الأسري! عن طريق إلقاء الشخص غير المرغوب فيه في مصح للأمراض العقلية.

التشخيص ـ التهمة

تدل نتائج البحث الجريء الذي نفذه طاقم من خريجي علم النفس بقيادة دافيد روزنهان على أن مخاوف من هذا النوع هي مخاوف واقعية ومبررة. إذا تم وصم أحد الأفراد الأسوياء لسبب أو لآخر "بوصمة" الاختلال العقلي! وتم إدخاله على هذا الأساس إلى مصح عقلي! فإن كل جهود هذا الشخص لمحاولة إثبات أنه سوي العقل ستبوء على الأغلب بالفشل! ولن يتم اعتباره شخصاً "سوياً". إن هذا يعني فيما يعنيه أن المجتمع الإنساني يسمح بأن يعامل "المتهم" بالمرض النفسي معاملة أسوأ بكثير مما يعامل المتهم بجرم! بل وحتى المجرم الثابت إجرامه! فهذا الأخير قادر في كل الأحوال على أن يسعى لإثبات براءته! وله في هذا السبيل أن يستخدم من يشاء من أهل الخبرة للدفاع عنه بكل شكل ممكن. أما "المتهم" بالمرض النفسي فإن وضعه أسوأ بشكل لايصدق: إنه يعزل غالباً عن العالم الخارجي "بحجة أنه خطر على نفسه أو على الآخرين"! ويحرم من أي فرصة لنفي "التهمة" الموجهة إليه! فكلامه لايعامل بشكل جدي! ومن السهولة بمكان أن تنسب إليه أي أعراض دون أن يتمكن من نفي ذلك! فيكفي من يوجه "التهمة ـ التشخيص" أن يقول إنها أعراض "لا شعورية" أو "ميول مكبوتة" أو ماشابه ذلك. والأمر الذي لاشك فيه هو أن عملية التشخيص النفسي - على ضرورتها ـ يجب ألاتكون عملية مطلقة! بل أن تظل محل مراجعة دائمة! سواء من قبل ذلك الذي قام بوضعها! أم من قبل متخصصين آخرين مما يزيد من دقتها وصوابها! ويقلل إمكانات الخطأ فيها! فالخطأ من هذا النوع يختلف كثيراً عن غيره من الأخطاء: إنه يحمل معه خطر "إلصاق اتيكيتة" لايسلم المرء من عواقبها هو وأفراد أسرته. لنتأمل الآن في مجريات التجربة التي أجراها روزنهان ورفاقه في عام 3791. قام روزنهان بالمشاركة مع سبعة متطوعين آخرين بتدبر أمر دخولهم إلى مستشفيات مختلفة للأمراض النفسية والعقلية موزعة في ولايات متعددة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الأمر بمنتهى البساطة: فقد اتصل كل منهم هاتفياً بالمستشفى ليشتكي من نفس الأعراض! فكان يقول: "إني أسمع أصواتاً غريبة.. أصواتاً غامضة.. يبدو لي أن هذه الأصوات تهمس لي: فارغ.. أطرش.. مغرور" وفيما عدا هذه الكذبة وتغيير اسم كل واحد منهم ومحل سكنه ومهنته فإن المتطوعين تصرفوا بشكل طبيعي وحقيقي تماماً: فقد تحدثوا عن حياتهم بعفوية! عن أمهاتهم! وآبائهم وعلاقاتهم العاطفية! عن أحلامهم وعن الإخفاقات التي واجهوها والنجاحات التي أنجزوها. والذي حدث أن الطاقم العامل في المشافي الخمسة قد شخص 11 حالة من أصل 12 على أنها حالات "فصام Schizophrenia" وأما الحالة الأخيرة فتم تشخيصها على أنها من حالات "ذهان الهوس الاكتئابي Cyclothymic" وهو اضطراب أخف وطأة من الفصام! وإمكانات علاجه وشفائه أعلى بشكل ملحوظ.

وعلى هذا الأساس أدخل جميع المتطوعين إلى مشاف مختلفة للعلاج. وفور أن وجد المفحوصون أنفسهم في عنابر المشافي توقفوا فوراً عن تمثيل أي عرض غير سوي! وصار كل منهم يتصرف بشكل عفوي وطبيعي قدر الإمكان.

فصام بالاشتباه

ما رأيك عزيزي القارىء! متى اكتشف الطاقم الطبي الأمر? مع الأسف! فبرغم تصرف روزنهان وطاقمه بشكل اعتيادي! فإن أياً من العاملين في المستشفيات لم يكتشف أنهم أسوياء!! وبعد فترات متفاوتة تم إخراجهم من المشافي على أنهم "باستثناء واحد" مصابون بمرض الفصام! وأن حالة الفصام عندهم أصبحت بفضل العلاج تمر بمرحلة كمون Latency "أي أنه تمت السيطرة على الأعراض ووقفها دون شفاء المرض". وقد تراوحت فترة إقامة المتطوعين في المشافي بين سبعة إلى اثنين وخمسين يوماً! بما متوسطه 19 يوماً. وقد تم إخراج معظم "المرضى" بناء على تدخل زوجاتهم أو أقاربهم! لكن أياً من أفراد الطاقم الطبي لم ينتبه إلى أن خطأ ماقد حصل.

وبهدف مزيد من إبراز "مزاجية" وعدم موضوعية عملية التشخيص ومصداقيتها فقد قام روزنهان ومساعدوه بخطوة إضافية أخرى: قاموا بإعلام طاقم العاملين في أحد المشافي بنتيجة تجربتهم! ولم يصدق هؤلاء أن أمراً كهذا ممكن الحدوث في مشفاهم! وشككوا في مصداقية البحث. عند ذلك تم إخبارهم أن التجربة ستكرر خلال الشهور الثلاثة القادمة! وسيرسل الباحثون إليهم متطوعاً أو أكثر ليكرر دخول المشفى بنفس الطريقة. وبهذا فقد كون الباحثون عند طاقم المستشفى ميلاً قوياً للتشكيك والتمحيص واكتشاف أخطاء التشخيص. وهكذا فعلى مدى ثلاثة أشهر! ومن أصل 193 من الأشخاص الذين راجعوا المستشفى فإن 41 شخصاً قد تم الشك بهم بأنهم "يمثلون ويدعون" المرض النفسي! في حين أن 19 شخصاً قد تم الحكم عليهم بأنهم بالتأكيد متطوعون مرسلون من قبل فريق البحث يدعون المرض النفسي في حين أنهم أسوياء.

والآن عزيزي القارىء! خمن بنفسك كم متطوعاً قد أرسل روزنهان إلى ذلك المستشفى? أظن بأنك ربما حزرت.. إنه لم يبعث أحداً هذه المرة.

 

مطاوع بركات