مهرجان ميونيخ للفيلم الوثائقي.. أحلام عربية

مهرجان ميونيخ للفيلم الوثائقي.. أحلام عربية

شهد مهرجان ميونيخ الدولي للأفلام الوثائقية في دورة انعقاده الخامسة والعشرين في ميونيخ مشاركة اثنين وسبعين فيلما وثائقيا من اثنتين وثلاثين دولة، منها دول عربية هي تونس وقطر وفلسطين.

الفيلم التونسي «كان يا مكان في هذا الزمان» هو أول فيلم عربي تم عرضه في المهرجان، وهو إنتاج جديد للمخرج التونسي «هشام بن عمار»، قصة الفيلم تدور حول الطفل التونسي الموهوب «أنس الرمضاني» ابن الثانية عشرة، وموهبته الفذة في العزف على آلة الكمان، والتي راح والده يعمل على تدعيمها بقوة من خلال السعي لدى مدرسي الموسيقى العالمية في أوربا لتعليم ابنه أصول الموسيقى، والعزف على آلة الكمان.. وتتوالى أحداث الفيلم حتى تجيء اللحظة الحاسمة التي قبلت فيها مدرسة الموسيقى الشهيرة في لندن أنس للدراسة فيها، غير أن التمويل المالي وقف حجر عثرة في انضمام الطفل للمدرسة، ولم تفلح محاولات الأب في مخاطبة وزارة الثقافة التونسية التي أهملت الرد على طلبه، إلا أن عددا من رجال الأعمال التونسيين اقتنعوا بالصبي الموهوب وقاموا بتمويل دراسته.

محمود درويش

أما الفيلم العربي الآخر الذي عرض في المهرجان، هو فيلم «كما قال الشاعر» للمخرج الفلسطيني نصري حجاج، والفيلم توثيق لرحلة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، مدة الفيلم تصل إلى ثمان وخمسين دقيقة، يأخذنا فيها المخرج إلى أهم الأماكن التي ارتبط بها الشاعر الكبير، والمناسبات التي ألقى فيها أشعاره، وإلى الذين أحبوه والذين أحبهم، ومن ثم إلى منزل العائلة في قرية «البروة» في الجليل الأعلى، ويصور الفيلم أيضا لحظات الراحل الأخيرة ومشاهد من جنازته ومقاطع من أهم أشعاره، ويعتبر النقاد أن الفيلم وثيقة مهمة، فهو خلاصة استماع لأكثر من 60 ساعة تسجيل بصوت درويش حصل عليها المخرج من أرشيف محطات عربية لاختيار أهم المقاطع التي عرضت في الفيلم.

غزة بعد الحرب

المشاركة العربية الأخيرة كانت بفيلم «عايشين» من إنتاج قطري أخرجه السويسري «نيكولا فاديفوف» وهو من الأفلام التى تصور ويلات الحروب والكوارث الإنسانية التي تنتج عنها، فقد استطاع المخرج السويسري تصوير وتوثيق حجم الدمار الهائل الذي حدث في غزة إبان الاجتياح الإسرائيلي لها في نهاية عام 2008.

من جهة أخرى يسلط الفيلم الضوء على مشاعر الناس المحبطة، ومحاولة تغلبهم على الآلام من أجل استمرار الحياة، فمهم لهؤلاء الناس أن تستمر حياتهم، لهذا اشتق اسم الفيلم «عايشين»، فطوال مدة الفيلم يحاول المخرج إبراز تلك المشاهد التي تصور كيف أثرت الحرب في كل جوانب الحياة في غزة، فرسوم الأطفال لاتخلو من مشاهد الحرب، وفرقة «الراب» الموسيقية التي تغني في غزة.. لاتغني إلا عن الموت، ومسرحيات المدارس لا تخلو من فقد أم أو أب أو أخ، ثم كيف يعاني مئات المواطنين الفقر، وكيف يغرقون في رحلة البحث عن لقمة العيش في ظل حصار محكم، حتى الشاطئ الوحيد الذي يعتبرونه متنفسهم الوحيد تشوه بفعل القنابل والخراب وهجرة الصيادين له.

هشام بن عمار

على هامش فعاليات المهرجان تحدث المخرج التونسي هشام بن عمار عن فيلمه المشارك في المهرجان بقوله: هذا الفيلم هو إنتاج جديد، انتهيت منه في ديسمبر 2009 يناير 2010، وقد أنتجت الفيلم بشكل مستقل لم تشارك فيه لا وزارة ولا سفارة ولا أي مؤسسة، بل هو تمويل خاص مستقل قمت به بنفسي، ذلك أنني كنت قد حصلت على تمويل متأخر لفيلم سابق من وزارة الثقافة التونسية استخدمته في تمويل هذا الفيلم.

وأستطيع أن أقول إنني أنجزت الفيلم بطريقة مستقلة بحته، وأنا أعتبره نموذجا لاستقلالية السينما، أي السينما التي لاتطلب الدعم الرسمي من مؤسسات الدولة،وعندما ترى قصة الفيلم فإنك تجد فيه الاكتفاء الذاتي، اي أن الطفل الذي حظي بهذه العبقرية لم يأخذها من عند الدولة التونسية، ثم إن الدعم المالي حصل عليه من المجتمع المدني من مشاركة الناس معا من أجل أن يواصل هذا الطفل النابغ مسيرة التعليم في المدرسة الموسيقية العالمية في لندن، إذن الفيلم فيه تناسق بين القصة التي يرويها وأسلوب الإنجاز الذي تم به.

وعن تكلفة الفيلم الوثائقي يقول بن عمار: إنه لايستحق التكلفات الباهظة، ونحن نحاول كمخرجين أن نجد طرق إنتاج جديدة تجعلنا نخلق ونعطي ونبدع لغة سينمائية جديدة، أي نخرج من الأنماط المعروفة لتضامن المنتج مع رأس المال مع الرقابة.. أي مع مؤسسات الدولة بصفة عامة، وفي هذا الإطار لابد أن نخلق تيارا جديدا يستفيد من الوسائل الرقمية ويحقق الاكتفاء الذاتي، فيمكن الآن لأي إنسان أن يستخدم المحمول في التصوير وتركيب الصور ثم البث، أي أن كل واحد منا يستطيع أن يكون «تليفزيونا» على حاله، وهذه الظاهرة لابد من استغلالها حتى نظهر أخلاقيات جديدة للمهنة، وحتى تكون بديلا لتلك التي بها الكثير من العشوائية والسلبية، وفي هذا الاطار أريد أن أؤكد لك أنه في غضون السنوات الثلاث المقبلة ستكون نوعية الأفلام الوثائقية موجودة على الساحة العربية بكثرة، ستنتج في كل التليفزيونات العربية.

لكن هناك بالفعل أفلاما وثائقية تنتج في قناة الجزيرة، فكيف يراها بن عمار يجيب: الجزيرة تقدم أفلاما وثائقية إخبارية، ونحن نتحدث عن سينما فيها إبداع وفيها مؤلف وليست سينما إخبارية، في الجزيرة ينتجون أفلاما تليفزيونية بحتة وفي قالب خاص يرتبط بالمضمون وأسلوب الكتابة والتوقيت وكل شيء، ولكن ليس لهم علاقة بالسينما الإبداعية الروائية.

أهمية الفيلم الوثائقي في المجتمع

يعمل هشام بن عمار منذ عشرين سنة في إنتاج الأفلام الوثائقية، ويقول: كنت قد بدأت بالأفلام الروائية، لكن الإلتزام والوعي بالفيلم الوثائقي ضروري في بلادنا وله فائدة في المجتمع التونسي في حماية الذاكرة الشعبية للدولة والناس، كما أنه يطرح قضايا وتساؤلات عن الواقع وعن مستقبل البلاد، إنه بمنزلة سلاح لحفظ تاريخ الأمة، وأنا أعتبر دوري في المجال الثقافي كمخرج وثائقي هو تسجيل الواقع بالضبط، كما الطبيب الذي يعالج كل يوم مريضا، يلزم أيضا أن نقوم بالتسجيل اليومي لواقع الأمة، إن الواقع العربي والتونسي لم يصور بعد بالطريقة الذاتية وبالطريقة التي بها حس شاعري،فالتلفزة تصور كل يوم الواقع التونسي أو العربي، لكن يجب علينا التوثيق بطريقة تخضع لشروط أخرى والشروط هذه هي شروط محاكاة الواقع ومتابعة الأحداث بطريقة وأسلوب آخر غير الأسلوب الجامد الذي يخضع للشروط الحكومية.

يتحدث بن عمار عن أهم إنجازاته في مجال الإخراج الوثائقي ويقول: لقد أخرجت فيلما لقناة الجزيرة الوثائقية عن مدينة في السنغال اسمها «توبة» وهي تقع في قلب السنغال وهي مدينة إسلامية ومعقل للصوفيين، في شهر رمضان صورت الفيلم هناك عن عادات أهل هذه المدينة التي أسسها شيخ اسمه «أحمد بوبامبا» في القرن 19 وأراد استخدام أسلوبه الصوفي في مواجهة الاستعمار، وكانت تعاليم طريقته الصوفية تتلخص في ثلاثة عوامل مستمدة من الإسلام وهي تقديس العمل، والمعرفة، والسلام، ومن ثم أردنا أخذ هذه القيم الثلاثة التي أراد أن يكرسها الشيخ أحمد بوبامبا لنعرف بالإسلام بصفة عامة من خلال الفيلم.

أنجزت عددا آخر من الافلام، كفيلم عن صيد التونه، أي الصيد التقليدي للتونة المملحة في البحر الأبيض المتوسط، أنجزت أيضا فيلما عن «الكافي شنطا» أي المقاهي التي تفتح في شهر رمضان في تونس في حي باب سويقة الذي تغير من ناحية الهندسة المعمارية، وأنجزت فيلما آخر عن الملاكمة، أي تاريخ النضال الوطني من خلال شخصيات الملاكمين، فقد كانت الملاكمة في تونس ظاهرة اجتماعية وسياسية، كانت الفئات الاجتماعية والدينية تواجه بعضها البعض من خلال الملاكمة، وهذا كان يحقق نوعا من التعايش في المجتمع التونسي.

أين واقع الفيلم الوثائقي في العالم العربي؟

عن ذلك يقول بن عمار ليس في العالم العربي سوق للفيلم الوثائقي يمكن الإشارة إليها لأن مؤسسات السلطة تعرف جيدا أبعاد الفيلم الوثائقي، وهناك تخوفات منه، لأن كل فيلم فيه كشف أو فيه نقد لرؤية ذاتية.

أما من ناحية السينما بالفعل، هناك أزمة حقيقية، السينما تتطور ودخلت فيها تكنولوجيا جديدة، وطرق جديدة للاستهلاك، وإنترنت وستلايت، ونحن كعالم عربي متأخرون في هذه الصناعة، ولم نعد نستطيع ملاحقة هذه التغيرات السريعة في صناعة السينما، من ناحية أخرى فإن دور السينما في بلادنا تتقلص وتقفل أبوابها وجمهور السينما بدأ يندثر ويهرب إلى الإنترنت أو التلفزة أو إلى الأفلام التي تسوق على الأسطوانات المدمجة، وهذا يجعل السينمائيين العرب اليوم في حيرة والمستقبل في حيرة أيضا.

 

 

 

صلاح سليمان 




ملصق (كان يامكان في هذا الزمان)





الفتى الموهوب في الفيلم التونسي





المخرج التونسي هشام بن عمار





ديوان درويش تحت الماء