سلوفاكيا.. بلاد الينابع الحارة تبحث عن شخصيتها

سلوفاكيا.. بلاد الينابع الحارة تبحث عن شخصيتها

تصوير: طالب الحسيني

كانت الطائرة تحملنا من العاصمة براغ إلى برتسلافا عاصمة أصغر دولة أوربية.. سلوفاكيا. لقد تكاثرت الدول الحديثة في أوربا حتى أصبحت خريطتها مفتتة مليئة بالألوان المختلفة ولكن ميزة سلوفاكيا التي ظلت مرتبطة في إطار الدولة الموحدة مع التشيك لمدة 74 عاما أن انفصمالهما في عام 1993 كان هادئا ومتحضراً. لقد تم عقب استفتاء هادىء اختار فيه السلوفاك أن يكونوا وحدهم بعد أن أحسوا طويلا بالغبن من جانب التشيك،

سلوفاكيا أقل من نصف تشيكيا ولكنها تحتل موقعا مهما في وسط أوربا.. فهي الجسر الذي يصل بين النمسا وأوكرأنيا والمجر وبولندا، وبسبب هذا الموقع فهي مؤهلة لتلعب دوراً كبيراً في أوربا الجديدة.

وأعترف بأنني أصبت بالدهشة أمام جمال الطبيعة في سلوفاكيا. فبرغم أنها امتداد طبيعي للأراضي التشيكية، فإن الطبيعة فيها لها مذاق خاص.، فهناك جبال "تترا" ذات الحواف المدببة والمحميات الطبيعية في مالافاترا. وتظهر مميزاتها أكثر في الشتاء عندما تتحول من مناطق سلوفاكيا لاتزال معظمها إلى ملاعب لهواة الترلج من كل أوربا. كما أن العديد تحتفظ بالطابع القوطي الذي كان يميز العصور الوسطى كما يظهر في بعض أجزاء برتسلافا برغم أنها عاصمة حديثة غنية بالمعالم الثقافية. كما يوجد حوالي 180 قلعة وحصنا قديما منتشرة في أرجاء البلاد أشهرها وأكبرها قلعة سبيسكي وقلعة أورفا. والريف في سلوفاكيا هو أيضا امتداد للريف التشيكي. يتشاركان معاً في نفسه التقاليد وهي جزء مستمد من عادات وطقوس القبائل السلافية القديمة التي سادت في بوهميا ومورافيا وأو كرانيا. يبدو هذا في أشكال الأزياء الشعبية.. وفي وجبات يوم السبت التي تتكون من الأوز المحمر مع البطاطس والكعك وكذلك المفارش اليدوية الملونة. كذلك فهم برغم الجو البارد قد استقبلونا بحرارة صادقة من النادر أن تجدها في بقية بلدان أوربا.

ولكن هل لهذه البقعة الضيقة من الأرض تاريخ خاص بها؟ كان هذا السؤال يلح عليّ وأنا أجوس خلال حواري مدينة براتسلافا وأحيائها القديمة.. أو وأنا داخل متاحفها الغنية بآثار العصور الوسطى فإلى أين تمتد هذه السنوات؟

يحكي لنا يوهان تشابك من متحف التاريخ الطبيعي في براتسلافا جانبا من هذا التاريخ قائلاً: "لقد استوطنت القبائل السلافية هذه البقعة من الأرض في القرن الخامسة بعد الميلاد. وفي عام 833 ميلادية استولى أمير مورافيا على "نيترا" وكون إمبراطورية مورافيا العظمى التي كانت تحتوي داخل حدودها على سلوفاكيا ومورافيا وتشيكيا. ولكي يستطيع مقاومة نفوذ قبائل "الغرانكيش " في الغرب فقد أرسل يستنجد بالإمبراطور البيزنطي الذي أرسل مبعوثيه إلى المنطقة في عام 863. وكان أهم ما في بعثة الإمبراطور الأخوين اليونانيين سيريل وميثوديس اللذين قاما بنشر المسيحية.. ويتمتع الأخوان بجانب نشرهما للدين بابتكارهما للأبجدية السيريلية ولاتزال تمارس في بلغاريا وصربيا وروسيا.

ولكن هذه الإمبراطورية لم تصمد طويلا. ففي عام 907 انهارت بفعل تنازع الحكام الداخلين والضغوط الخارجية خاصة من ألمانيا والمجر. وقامت القبائل المجرية بغزو سلوفاكيا واستقرت جنوبها وأنشأت الإمبراطورية المجرية عام 1000 وقد سبب هذا الغزو تحول سلوفاكيا من الكنيسة الأرثوذكسية التي كانت تابعة لبيزنطة إلى الكنيسة الكاثوليكية في روما.

واكتشفت المناجم وتطورت صناعة التعدين في هذه الفترة مثل الفضة والذهب والنحاس وتبودلت بالفراء والعنبر مع أهالي المجر. ولكن بعد أن قام التتار بغزو أوربا في القرن الثالث عشر اضطر الملك المجري إلى الاستعانة بالألمان الساكسون الذين استقروا على الحدود الشرقية ليمثلوا منطقة عازلة ضد هجماتهم.

لقد بقيت سلوفاكيا جزءا من الإمبراطورية المجرية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في 1918. وعندما هاجم الأتراك هذه الإمبراطورية في القرن السادس عشر تحركت العاصمة من بودابست إلى براتسلافا. ولكن بعد الحرب انتهت سيطرة أسرة هايسبرج، لتي حكمت الإمبراطورية المجرية طويلا. ولعلنا جميعا نذكر مأساة "مايرلنج " عندما أحب وريث العرش فتاة من الشعب وعندما رفض والده انتحر هو وحبيبته في أحد القصور وطوال فترة إقامتي كنت أتذكر هذا الفيلم الذي قام بتمثيله عمر الشريف وكاترين دي نيف وأعتذر للقارىء العزيز عن طذا الاستطراد.. وهكذا اختلطت وقائع التاريخ بوقائع الحب لتزول الإمبراطورية وتصبح سلوفاكيا جزءاً من تشيكوسلوفاكيا لتكونا معا للمرة الأولى منذ القرن التاسع المـيلادي.

مسيرة صعبة

في منتصف القرن التاسع عشر وبرغم أنها لم تكن مستقلة استطاعت سلوفاكيا أن تتعرف بعضا من شخصيتها القومية. فقد ولد شاعرها العظيم "لودوفيت شتاير" الذي كتب أشعاره باللغة السلوفاكية وقاد ثورة من أجل الديمقراطية عام 1848 وقد ترسب هذا الإحساس القومي في نفوس السلوفاك بحيث أخذوا ينفصلون ثقافيا عن المجر ويقتربون أكثر من التشيك وبالتالي هجروا تعلم لغتهم وكان هذا تمهيداً ليوم الاستقلال المنتظر.

ولكن مسيرة الدولة الوليدة لم تكن سهلة فمع تجمع سحب الحرب العالمية الثانية أعطت معاهدة "ميونخ " عام 1939 قطعة من تشيكوسلوفاكيا للألمان ولم يعجب هذا الموقنة سلوفاكيا فأعلنت استقلالها من جانب واحد. وأنتهزت المجر هي أيضا فرصة عدم الاستقرار واقتطعت من سلوفاكيا جزءاً آخر. ثم دخلت جحافل النازية الدولة كلها وأقامت في سلوفاكيا نظاما مواليا لها على رأسه رئيس دمية هو جوزيف نيسو الذي أعلن انحياز بلاده في الحرب إلى جانب الألمان ولكن الشيوعيين قاوموا ذلك ودخلوا في صدام

مسلح مع هذه الحكومة الموالية ومع قوات الاحتلال. وهو شيء لايزال يثير الفخر حتى الآن في نفوس السلوفاك. وعندما اندحرت النازية على يد القوات السوفييتية وجدت لها حليفا قويا داخل البلاد حتى أن سلوفاكيا قد تحررت قبل براغ بثلاثة شهور كاملة.

عاد الاتحاد مرة أخرى بين البلدين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على أسس جديدة أهمها المساواة بين الشعبين ولكن بعد أن استولى الشيوعيون على الحكم في فبرايرعام 1948 عادت السلطة مرة أخرى تتركز في براغ بل إن الشيوعين السلوفاك الذين قاوموا النازية تمت محاكمتهم بتهمة أنهم وطنيون برجوازيون. ولم يجد هذا الوضع غير العادل تصحيحا إلا مع ربيع براغ عام 1968 عندما صعد إلى قمة السلطة الكسندر دوبشيك وهو شيوعي من أصل سلوفاكي:

كان ربيع براغ ثورة حقيقية ضد تزمت الشيوعية وتسلطها وسارعت موسكو للتدخل للقضاء على ما اعتبرته تمرداً على سلطتها المركزية وأودعت دوبشيك السجن وتحول الربيع الى شتاء قارس.

وعندما سقطت الشيوعية مؤخراً عام 1989 استيقظت في نفوس السلوفاك كل المشاعر القومية القديمة وظلت هذه المشاعر تتصاعد مع وجود مشاعر بعدم التكافؤ في العلاقة بين الطرفين. وبين سعي التشيك السريع للسوق المفتوح والاقتصاد الحر. والتحفظ الذي أبداه السلوفاك تجاه هذا الأمر. وفي فبراير 1992 رفض البرلمان السلوفاكي المعاهدة التي تم وضعها لضم البلدين في اتحاد فيدرالي على أسس جديدة. وقد عمق هذا الرفض من مشاعر التباعد بينهما. وقد تصاعدت حدة اليسار الديمقراطي السلوفاكي إلى أقصى مداه في الانتخابات التي حدثت في يونيو 1992 وكان يقوده ملاكم سابق هو فلادمير ميسير. وقد قام بالتفاوض مع الرئيس التشيكي فسلاف كلاوس حول اتحاد فيدرالي مرن يشترك في العملة النقدية والجيش والرئاسة. ولكن كلاوس رفض ذلك وأصر على اتحاد مركزي.

في مايو 1992 ارتفعت نسبة البطالة إلى 11.8% في سلوفاكيا بالمقارنة مع التشيك التي لم تزد النسبة فيها على 3.2%. كما أن 10% فقط من الاستثمارات كانت تذهب إليهم بالإضافة إلى مشاكل الانفتاح وتحول السوق وكانت النتيجة محتمة أن يتفض الاتحاد في سلام أغسطس 1992 ودائما يكون أغسطس هو شهر الحوادث الجسام.

لقد ألف ميسيز حكومة سلوفاكية جديدة وبدأت عملية التحدي الاقتصادي الذيمما عليه أن يواجهه حتى تستطيع سلوفاكيا الصمود وسط الدول العملاقة في أوربا.. فهل يمكن أن تصمد؟

جولة على الدانوب

كانت جولتنا في براتسلافا متعبة وممتعة في الوقت نفسه. إنها أكبر مدن سلوفاكيا تنام عند سفوح جبال كاربثيان التي تبدأ عند البوابة الحديدية في رومانيا وتنتهي عند أطراف العاصمة عندما تنحدر سفوح الجبل على شاطىء نهر الدانوب. ويمكن رؤية الحدود النمساوية من هذا المكان والحدود المجرية نفسها لاتبعد أكثر من ستة كيلو مترات.

نشأت المدينة عام 907 م وواصلت ازدهارها في القرن الثاني عشر حتى أصبحت عاصمة المجر كما ذكرنا قبل ذلك عندما استولى الأتراك على بودا العاصمة القديمة في عام 1541 م. لقد شهدت براتسلافا تتويج أحد عشر ملكا وسبع ملكات من ملوك المجر في كاتدرائية سانت مارتين. وقد شهدت براتسلافا قمة ازدهارها في عهد مارياتيريزا ملكة النمسا وقد بنيت العديد من المباني على الطراز الباروكي في هذا العهد. كنا نقف وممط الحي القديم من المدينة. وسط العديد من المعالم التي تدل على هذا الازدهار. لقد قام الموسيقار الشهير فرانز ليست بزيارة براتسلافا 15 مرة والأوبرا الموجودة هنا تماثل أرقى وأعرق دور الأوبرا في بقية أوربا.. هانحن نخترق الميدان ونتجه إلى حافة نهر الدانوب. في مواجهة النهر تماما يقف مبنى المتحف الوطني السلوفاكي وهو يحتوي على خليط من الحفريات القديمة والآثار والتاريخ الطبيعي كما أنه يضم خريطة هائلة تبين كل تضاريس سلوفاكيا.. وبعيداً قليلاً عن المتحف يوجد متحف الفن الذي يضم أفضل مجموعة من الفن القوطي ومبنى المتحف نفسه مثير للتأمل لأنه يعود إلى القرن الثامن عشر وبالتحديد إلى عصر ماريا تيريزا.

تلتف حولنا المدينة القديمة بشوارعها الضيقة، نصل إلى ميدان هالفاني الذي تتوسطه نافورة رونالد الشهيرة وتلتف حولى مجموعة من البيوت القديمة ذات الواجهات الملونة والسقوف المليئة بالزخارف.. وعلى يمينها توجد قاعة البلدية. التي كانت قصراً للحكم. ندخل من بوابتها الرئيسية إلى قاعة المرايا. هنا وقع نابليون بونابرت معاهدة سلام مع فرانز الأول عام 1805 م. وفي الدور الثاني يوجد متحف صغير فيه العديد من القطع الفنية. في يوم الأحد تمتلىء قاعة البلدية بالعرائس الجدد وهي لاتغلق أبوابها لا في وجه الزوار ولا وجه العرسان. نعود إلى ساحة المدينة مرة أخرى. على اليمين يوجد متحف غريب من نوعه.. إنه متحفط النبيذ الذي يعرض مراحل صناعة النبيذ التي تشتهر بها المنطقة ولأن الموضوع لايهمنا كثيراً فإننا نواصل السير إلى قصر: قيرباش وهو مبنى من الطراز الروكوكو ويضم مجموعة جميلة من الأبنية والأسقف الملونة. ويقودنا إلى برج ميشيك الذي يضم متحفا حربيا لتطور الأسلحة العسكرية وبجانبه توجد المكتبة الوطنية التي كانت من قبل مقراً للبرلمان المجري. ولقد صدر من هنا عام 1848 القانون الشهير الذي انتهى بموجبه الإقطاع في كل الإمبراطورية المجرية.

نتتبع سور المدينة وصولا إلى حافة نهر الدانوب الساحر. نعبر أحد أنفاق المشاة بالقرب من النهر حتى نصل إلى قلعة براتسلافا التي بنيت على طرف النهر.. لقد تم بناؤها عدة مرات وكانت مقر الأسرة الحاكمة المجرية حتى احترقت في عام 1811 ثم أعيد ترميمها في الستينيات من هذا القرن وتحول الجزء الأكبر منها إلى متحف للتاريخ..

عندما صعدنا إلى قمتها بدا منظر الدانوب في كامل بهائه. ولابد أن شتراوس وقف في هذا المكان حين أخذت أنغام "الفالس" تتراقص في ذهنه. مبنى البرلمان السلوفاكي يبدو واضحاً والجزء القديم من المدينة يلتحم مع المباني الحديثة التي أخذت في الانتشار.. نهبط من القلعة لنركب الحافلة 29 التي تسير بمحاذاة الدانوب لنستمتع أكثر بمشاهدة الجزر الخضراء والمباني التاريخية المترامية على ضفتيه. نصل إلى قلعة أخرى هي "دافين" إنها تقف شامخة على أحد التلال وتحتها يلتقي نهرا الدانوب ومورافا. لقد قاومت هذه القلعة الحصار التركي طويلا ولكنها انفجرت في عام 1859 على يد الفرنسيين وإذا بقينا في الحافلة حتى نهايتها فسوف نجد النمسا على الضفة الأخرى مقابل القلعة.

في القرن الميلادي الأول كانت قلعتا براتسلافا ودافين هما الحصنين الرومانيين الأولين للدفاع عن هذه المنطقة. وفي القرن التاسع تحولت دافين إلى مقر لإمبراطور مورافيا وقد تحولتا الآن إلى رمز لاستعادة الروح السلوفاكية القديمة التي طمسها الحكم الشمولي الطويل.

وعن التغيرات التي حدثت في سلوفاكيا بعد انهيار الحكم الشيوعي يقول المدير التجاري للطيران السلوفاكي السيد تيبور فارجا الذي التقيناه في مقره بمطار براتسلافا: لقد انفصلنا عن الطيران التشيكي بشكل ودى في مايو 1996 لتأسيس شركة طيران السلوفاك وهي شركة يملكها القطاع الخاص بالكامل، حيث بدأنا من الصفر وهي شركة طيران نموذجية حيث درسنا السوق ووجدنا أن هناك فرصة تجارية جيدة وعلى هذا الأساس دخل رأس المال الخاص في التأسيس وتعمل الخطوط السلوفاكية بطائرتين من طراز بوينج 727 تم شـراؤهما من طيران اللوفتهانزا. وحول طبيعة العاملين بالشركة بقول المدير التجاري إن معظمهم كانوا يعملون في الطيران التشيكي سابقاً ونحن نتبع النظام الأمريكي في التدريب والقيادة ولدينا 3 خطوط في الوقت الحاضر منها خط الكويت ولارنكا وتونس، وحول طبيعة السوق التنافسية، يقول السيد تيمور فارجا إن قربنا من العاصمة النمساوية "فيينا" التي تبعد عنا فقط بحوالي 40 كيلومترا يخلق لدينا تنافسا حادا، فعلى سبيل المثال هناك 8 رحلات يومية بين فيينا ولندن فهل يعقل أن ننظم رحلة من براتسلافا إلى لندن. بالتأكيد السوق صعبة ولكننا نحاول على الخطوط الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، عليك أن تنظر إلى الخريطة وترى مايحيط بنا من دول كبيرة وعريقة.

التحدي الاقتصادي

لقد انتهت كثير من الحروب، وبدأت حروب أخرى. لم تعد سلوفاكيا في حاجة للدفاع عن استقلالها فقد ظفرت أخيراً. ولكنها في حاجة إلى الدفاع عن كيانها واقتصادها. كيف يمكن أن تتنافس وهي دولة صغيرة مع الحيتان التي تسبح في مياه أوربا الباردة من حولها؟ فلعدة قرون كان العصب الأساسي للاقتصاد هو الزراعة. وكانت الأرض طاردة. تشهد موجة وراء أخرى من الهجرات. ويعيش في أمريكا وحدها الآن حوالي مليوني شخص من أصل سلوفاكي. وهي لم تشهد أي نمو صناعي إلا بعد أن ارتبطت بالتشيك في عام 1918. ولكن أثناء الحرب العالمية الثانية تحولت كل المصانع التي فيها إلى مصانع حربية كي تفي باحتياجات الجيش الألماني.. وكان من الطبيعي عندما جاء الشيوعيون إلى الحكم أن تستمر هذه الصبغة العسكرية تدعيما لاحتياجات الجيش. وهكذا كان 65% من العتاد العسكري الذي يحتاج إليه الجيش الموحد يأتي من سلوفاكيا.

وعندما انهار الحكم الشيوعي وبدأت نذر الانفصال واكبتها محاولة تحويل هذه الصناعات إلى صناعات طبيعية فقد اصطدمت بتخلفها عن العصر وأنها كانت تابعة لنظام التجميع السوفييتي. وبدأت البلاد تعاني من انخفاض المستوى الصناعي والزراعي دفعة واحدة ولم يرتفع التضخم فقط ولكن ارتفعت معه نسبة العاطلين عن العمل. لقد بدأت الخصخصة تأخذ طريقها. المزارع التعاونية الآن أصبحت ملكا للعاملين فيها.

لقد كان نصيب سلوفاكيا من الصناعات الثقيلة أيام الاتحاد لايتحاوز الخمس. وفي عام 1989 كان حساب ماتملكه هو عبارة عن بعض مصافي النفط في براتسلافا وكذلك عدة مصانع للمنسوجات في براتسلافا وترينشاين وزيلنا وبرشوف. مصنع للأسمنت في بانشيكا بيستريكا ومصنع للحديد والصلب في كوشيتسي. وقد عانت هذه الصناعة- مثلما حدث في بقية أوربا الشرقية بسبب انهيار الاتحاد السوفييتي وإغلاق أسواقه وزوال الدعم عن هذه الصناعات. ولم تستطع هذه الصناعات السلوفاكية منافسة المنتجات الغربية المتطورة. كما أن حالة المصانع لم تكن تشجع كثيراً على إتمام عمليات الخصخصة بالسر المطلوبة. وكان الخيار صعبا بين اختيار انخفاض بلا نهاية في كفاءة هـذه المؤسسات أو إعلان إفلاس بنكي.

ومما زاد من سوء الأمور الانهيار التجاري الذي حدث بين تشيكيا وسلوفاكيا، الأقارب الأبعدين. وكان الأمر أسوأ بالنسبة للأخيرة التي تعتمد على التشيك في 40% من تجارتها. المستثمرون الرئيسيون الذين قبلوا تحمل المخاطرة في سلوفاكيا كانوا من النمسا وألمانيا وبدرجة أقل من أمريكا والتشيك. والحق يقال إن سلوفاكيا تمتلك قوة عمل ضخمة مدربة ومتعلمة،10% من قوة العمل السلوفاكي متخرجة في جامعات، 36.40% منها متخرجة في مدارس عليا وبرغم هذا فإن الأجور متدنية بالنسبة لأوربا ومعدلها حوالي 200 دولار شهريا. ولكن المشكلة هي أن المستثمرين الغربيين يتعللون دائما بمدى تحكم البيروقراطية وبطئها وفسادها الداخلي وهو الأمر الذي يقف عقبة في سبيل الاستثمار.

وقد بني أول مفاعل نووي سلوفاكي في مدينة جاسلوفسكي في عام 1970 وفق تصميم سوفييتي. سلوفاكيا بنصف حاجتها من الطاقة الكهربية. ولكن التساؤلات تثار الآن حول درجة الأمان المتوافرة في مثل هذا المفاعل خاصة بعد ماحدث في تشرنوبل.

والمتاعب لاتأتي فرادى كما يقولون. فقد انسحبت المجر من المشروع المشترك الذي كان سيقام مع سلوفاكيا على نهر الدانوب لتوليد الطاوقة الهيدروليكية لأسباب بيئية كما ذكرت المجر وكانت النتيجة أن سلوفاكيا قامت من جانبها بجزء كبير من العمل وكانت تعتقد أنه بذلك يمكنها أن توفر كل احتياجاتها من الطاقة ولاتزال المحاولة مستمرة.

كل هذا يعطينا صورة عن متاعب هذه الدولة الحديثة الاستقلال والتي خرجت دفعة واحدة من ظل اتحاد طويل ونظام شمولي ثقيل فهل يمكن أدأ تنجو وتشق طريقها؟.

نستمع إلى ألحان شتراوس الراقصة ونحن نبحر فوق صفحة الدانوب الزرقاء. لقد صنعت "الفلسات " المختلفة سحراً خاصاً لهذا النهر. كان يخيل لإلىّ أن إيقاع الريح وحركات الموج كلها ترقص على أنغام هذا الموسيقار العبقري. يقودنا النهر إلى الحدود الجنوبية مع المجر إلى ثاني أكبر المدن السلوفاكية "كوشيتسي" التي تسكنها أغلبية بحرية، فيبلغ عدد المجريين في سلوفاكيا حوالي 600 ألف يمثلون الجنسية الثانية بعد السلوفاك.

وكوشيتسي لاتزال تربطها مع المجر روابط قوية، أهمها اللغة والعادات والأصل الذي انحدروا منه جميعا. يسكنها حوالي نصف مليون وتعتمد على صناعة الصلب. وعندما هبطنا من القارب وسرنا إلى مركز المدينة الذي يغلب عليه طابع العصور الوسطى كعادة بقية المدن الأخرى، استطعنا أن نلمح في الوجوه ملامح السكان الذين يستوطنون سلوفاكيا كلهم. هناك أقليات من البولنديين والغجر والمجريين كما قلنا وهم يمثلون 14% من تعداد السكان.

المجرية هي اللغة الثانية في سلوفاكيا.. ولكنها الأولى بطبيعة الحال في مدينة "كوشيتسي ". المكتبات مليئة بكتب تولستوي وجراهام جرين ورسوم النينجا كلها بالمجرية. دار الأوبرا تعلن عن مسرحيتي "حلاق فيجارو" و"روميو وجوليت ". وكلها باللغة المجرية طبعا. وقبل الحرب العالمية الأولى كانت كوشيتسي واسمها بالمجرية "كاسا " تابعة للمجر ثم أصبحت تابعة لتشيكوسلوفاكيا عام 1918. ولكن المجر انتهزت فرصة الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار وعاودت الاستيلاء على المدينة عام 1938 وظلت تحت سيطرتها إلى مابعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 عندما دخلتها القوات السوفييتية واعتبرتها مدينة الحرية عادت ضمها إلى تشيكوسلوفاكيا مرة أخرى.

مصانع الحديد والصلب التي كانت تغذي الدولة القديمة لا تزال مداخنها تطل علينا ونحن نتجول في الأحياء التقليدية. نواصل جولتنا من كاتدرائية سانت إليزابيث وهي أحد المباني الضخمة ذات الطابع القوطي ونسير حيث يوجد قبر فراز راجوفسكي وهو البطل النمساوي الشهير الذي نفاه التراك إلى هذه المدينة ونعبر مسرح المدينة حتى نذهب متحف شرق سلوفاكيا. إنه مكون من طابقين ويحتوي على أهم الآثار التي اكتشفت في المنطقة وخاصة آثار ماقبل التاريخ. ولكن في قبو المتحف يوجد كنز حقيقي، حوالي 3 آلاف قطعة نقود ذهبية يعود تاريخها من القرن الخامس عشر إلى الثامن عشر. وقد اكتشفت بالصدفة عندما عثر عليها في كنيسة قديمة خلف المتحف.

إن مأساة كوشيتسي الحقيقية أنها ترفض التغيير. فبينما يقوم التشيك بتحويل الدبابات القديمة إلى جرارات زراعية لتناسب المرحلة الجديدة في تنويع المنتجات لاتزال مصانع كوشيتسي متمسكة بعقيدتها الشيوعية القديمة في صنع المعدات الثقيلة جداً التي لم يعد أحد يأبه بها أو يشتريها. وهي أيضا لاتملك السيولة الكافية كي تطور نفسها وفق منظور التكنولوجيا الغربية التي تطورت بمراحل.. وهكذا تبدو في كوشيتسي كل المآزق التي تعيشها الصناعة السلوفاكية في كل مكان.

مدينة الينابيع الحارة

قال لنا سائق التاكسي بلهجة عربية متكسرة "من أي بلد أنتم؟" وفوجئنا بالسؤال. فقد كنا نعاني كثيراً من محاولة التفاهم مع من نقابلهم بأي لغة من اللغات الحية، ماعدا الذين يعملون في السياحة لا أحد يعرف لغة غير السلوفاكية.. لقد علمتهم سنوات القمع الطويلة أن يعتزوا بلغتهم الخاصة وكان علينا أن نمزج بين عشر كلمات تشيكية هي التي نعرفها وخمس كلمات سلوفاكية أخرى كي نقول للجميع إننا نود الذهاب إلى بشتاني.. ولكن هاهو سائق التاكسي يفاجئنا بلغتنا العربية.. يواصل القول "الزبائن العرب الذين يأتون هنا كثيرون جداً.. إن لي أصدقاء كثيرين من العرب".

وبشتاني هي أشهر مدينة تضم عدداً من المصحات العلاجية في سلوفاكيا.. وربما في العالم. فبرغم أنها مدينة صغيرة لايوجد فيها إلا شارع رئيسي واحد مزين بالأزهار النضرة فإن هذا الشارع يضم أجناساً من كل أنحاء العالم الذين يقصدونها من أجل الاستشفاء بماء الينابيع الصحية التي تتدفق من أرضها.

إنها تقع في الجنوب الغربي من سلوفاكيا على ضفاف نهـر "فاه ". ولكن نهرها الحقيقي يكمن في عشرة من الينابيع المعدنية يتدفق منها كل يوم حوالي 3 ملايين لتر من المياه الكبريتية تبلغ درجة حرارتثا من 67 إلى 69 درجة مئوية وكل لتر منها يحتوي على 1.300 مليجرام من المعادن والمواد الفوارة. والمياه الكبريتية ليست هي مصدر العلاج الوحيد في هذه المدينة ولكن هناك أيضا الطيني الكبريتي وهو أفضل نوع في العالم من حيث خصائصه العلاجية.

طوال سيرنا في الشارع الرئيسي ونحن نسمع "الله بالخير" و"في أمأن الله " كان هناك الكثير من العرب يجلسون على الآرائك المتناثرة على طول الطريق. وبعضهم كان يتنزه على قدميه وقليل منهم يجلسون فوق مقاعد متحركة وهم يسيرون في صحبة الأهل أو برفقة ممرضات محترفات.

كان الفندق الذي هبطنا فيه مناسب السعر بالنسبة لبقية أوربا، برغم أن الأسعار في بتشاني قد تضاعفت فإنها لاتزال أقل من الدول المحيطة بها. وهناك العديد من الفنادق ذات الدرجات المختلفة بحيث تتناسب مع كل الدخول وتسع 2300 زائر يوميا، بالإضافة إلى طاقم كبير من الأطباء والممرضين، مما جعلها واحدة من أكبر المدن العلاجية في العالم برغم صغر حجمها. نواصل التجوال. نتوقف أمام أشهر تمثال في المدينة للرجل الذي يكسر عكازه. إنه يرمز للأثر الذي يحدثه العلاج بواسطة ينابيع المدينة وهو يقف أمام مدخل الجسر الذي يصل بجزيرة وسط نهر "فاه" حيث توجد الينابيع وتسهيلات الإقامة والعلاج. وترتكز شهرة بيشتاني العلاجية ليس على الماء أو الطين الكبريتي ولكن على وجود 64 طبيبا متخصصاً وحوالي 400 شخص من الهيئة الطبية المؤهلين. والمعروف أن تشيكوسلوفاكيا قبل أن تسقط النظام الشيوعي كان بها أفضل نظام صحي في العالم حتى أنه يتفوق في خدماته على الولايات المتحدة. وتعالج هذه الينابيع حالات الروماتيزم المستعصية والعديد من أمراض الأعصاب باستخدام معدات حديثة. إضافة إلى ذلك فإن المركز الحراري يوفر الفرصة لكل أنواع التأهيل والجراحات في حالات الشلل والكسور.

قال لي حسين دشتي أحد المرضى العرب الدائمين في المصح وهو من الكويت: "ميزة العلاج هنا أنه شخصي. بمعنى أنه لايوجد نظام ثابت يطبق على الجميع ولكن يعد نظام علاجي لكل واحد حسب حالته الصحية. وهكذا تشعر
أنك لست خاضعا لعلاجهم بقدر ماهم يتعاونون معك. في البداية يتم الفحص الإكلينيكي لتشخيص المرض ثم يوضع البرنامج الذي يتماشى مع هذه الحالة. أنا أعالج الآن بواسطة الماء في مختلف درجات الحرارة وهناك أوقات للتدليك ثم حمام الطين وهناك أيضا علاج بالموجات فوق الصوتية وحتى يحدث نوع من التكامل العلاجي فإنني أقوم بالتمارين الرياضية والسباحة والقيام برياضيات خفيفة ويأتي وصف جرعات الدواء في نهاية الأمر وكذلك إعداد طعام خاص.. ويستخدم هنا أيضا العلاج بالإبر الصينية.

عبرنا الجسر إلى جزيرة الينابيع.. إنها مليئة بالمنتجعات والفنادق التي تحتوي على كل وسائل العلاج وكلها محاطة بحدائق زاهية الخضرة. وعمر الأشجار يعود إلى قرن مضى. وقد شيد المركز العلاجي منذ عام 1912 وبرغم أنه لايزال يحتفظ من الخارج بطابعه التقليدي القديم فإنه من الداخل يحتوي على كل وسائل التقنية المعاصرة.

البحث عن التاريخ

وربما كانت سلوفاكيا من أكثر الشعوب الأوربية تجانساً.. فتعدادها يبلغ 5 ملايين و 300 ألف نسمة أي أن 85%. منهم من السلوفاك. بينما يوجد 10.7% مجرين و 1.5 من الغجر و1% فقط من التشيك. وقد اعترفت الدولة في سبتمبر 1992 بحق هذه الأقليات في ثقافتها الخاصة.

وهكذا أصبح من حق ثلاثة أرباع مليون طفل من أصل مجري أن يدرسوا اللغة المجرية داخل مدارسهم كلغة أولى. وبرغم أن العداء التاريخي للوجود المجري قد أثار موجة من الاعتراضات على هذا الأمر فإن اجتماع القادة من الجانبين كان كفيلا بحل هذه المشكلة.

كما أن هناك حوالي 80 ألف غجري هاجروا إلى سلوفاكيا أيام الحكم النازي. وقد استقروا بها لأن ألمانيا لم تقم بالاحتلال الفعلي للبلاد إلا في عام 1944 ولم تملك الوقت الكافي لإرسالهم إلى معسكرات الغاز. وقد أعطى الشيوعيون الغجر العمل والمنزل ومعظمهم يعيش الآن حياة عادية وقد ذهبت ثقافتهم الخاصة بفعل عوامل الزمن. وأخيراً وبسبب البطالة هاجر قسم كبير منهم إلى التشيك وهم يقاسون من المعارضة الشديدة الرافضة لوجودهم.

الديانة الكاثوليكية هي الغالبة على السكان في سلوفاكيا وان كانت هناك أقلية أرثوذكسية وبشكل عام فإن الديانة تؤخذ بجدية أكثر في سلوفاكيا عن جارتها تشيكيا.

إن الجولة في حدود هذه الدولة الضيقة تتسع حين نرحل في الزمان. كأن الصراعات الأوربية الطويلة قد تركزت في هذا المكان فأصبحنا نعرف طرفاً عن كل تاريخ وبقيت مشكلة الدولة قائمة. كيف تنفض من على كاهلها كل هذا التاريخ الذي لايخصها وتبحث عن تاريخها الخاص؟.

 

 

أنور الياسين