قطر: دوحتا الماء والأرض

قطر: دوحتا الماء والأرض

تصوير: فهد الكوح

من ينظر إلى خارطة قطر يرها يدا تمتد من يابسة الجزيرة العربية لتقتحم مياه الخليج عند منتصف الساحل الغربي. ويبدو أن ذلك الطابع لم يتوقف عند حدود الجغرافيا! ولم ينقطع على مر التاريخ. ولعله يفسر الطموح الآني والمستقبلي الكبير لهذه الدولة العربية الخليجية.

زمن الطيران من مطار الكويت إلى مطار الدوحة ـ عاصمة قطر ـ لا يتجاوز الساعة وعشر دقائق. وخلال ذلك الوقت لم تكف مياه الخليج التي أطل عليها من نافذة الطائرة عن الالتماع! بمرايا صفحتها الزرقاء الداكنة المخضرة! تحت شمس ظهيرة لم تلن إلا قليلا برغم أننا كنا على مشارف الشتاء. لكن صورة مياه الخليج التي مكثت أطالعها على مدى رحلة الطيران القصيرة تلك! تغيرت فجأة! صارت المياه فيروزية شفافة وهي تنحسر عن شاطىء رملي مقوس! مرقش بالخلجان الصغيرة! أو الأخوار! حيث تتواجه وتتداخل فيروزية المياه مع لون الرمل.

كان الجزر واضحا من ارتفاع كبير! وبدا لي كما لو كان الماء حذرا يتراجع عن أرض مشاكسة! ويقف على مبعدة يترقبها بعيونه الوجلة صافية الاخضرار.

ضحكت مسرة ونشوة من هذا الخاطر الذي طاف بي بينما الطائرة تهبط في الدوحة! فقطر البالغة مساحتها (11437) كيلومترا مربعا تشكل شبه جزيرة تخرج من منتصف الساحل الغربي للخليج العربي وتمتد داخل هذا الخليج بطول 160 كيلومترا تقريبا! وبعرض أقصاه (80) كيلومترا! ويوحي شكلها العام بصورة يد توغل في الماء وتبسط راحتها عليه وهي تقول له تمهل. وأظن أن هذا الملمح الجغرافي يتجلى أيضا في التاريخ! وفي رؤية البشر أبناء هذه الجغرافيا وصناع هذا التاريخ.

اقتحام وهدهدة! خليط مدهش من التمرد وطلب السكينة! الحنو والعناد! ومن كل ذلك تأتي مفاجأة الفعل والشعر. والتي تفلسف ثنائيات هذه الأرض.

مدينة تصون تراثها

ظلت الدوحة تلح عليّ بالسؤال خلال الأيام الأولى التي قضيتها على شاطئها الجميل وفي رحابها المضياف. من أين جاء اسمها?. ومن قبل! من أين جاء اسم قطر? سؤال يلح بقدر يقيني بأن لا شيء تتحقق معرفته دون تسميته وإدراك كنه التسمية.

أثرت السؤال أثناء العشاء الذي دعانا إليه مدير المكتب الصحفي لوزارة الخارجية ورئيس تحرير جريدة الوطن الأستاذ أحمد علي الذي رعى زيارتنا بالتفهم وحسن الاستجابة الشابة منذ أول لحظة وحتى قبل أن نقلع إلى قطر. وكان معنا على العشاء الذي أقيم في مطعم مجمع دانة البديع الذي يشبه لؤلؤة من العمارة الحديثة والتراثية معا! الصحفي الشاب خالد الجابر.

ثم أثرت السؤال في ركن من أركان متحف قطر الوطني مع العلامة الكبير! موسوعي المعرفة! الأستاذ درويش مصطفى الفار الذي لا أظن أن هناك سؤالا يمكن أن يوجّه إليه دون أن يجد الإجابة! وكثير من معطيات هذا الاستطلاع تدين بمرجعيتها إليه. كانت الإجابات كلها تصب في مجرى واحد! يتجه نحو ما ذهبت إليه في تأمل جغرافية قطر وإشعاع روح هذه الجغرافية في فعل التاريخ والإنسان الصانع لهذا التاريخ. وأجمل ما في الأمر أن الإجابة يمكن تُلمس انعكاساتها في واقع اللحظة. فكلمة الدوحة في معنى من المعاني هي كل ما التف من البحر! وفي معنى آخر هي الشجرة الوارفة يستفاء بظلها. وفي المعنيين هي ماثلة في الواقع وفي التاريخ.

ففي الواقع الذي مكثنا نراه طوال إقامتنا وكلما مررنا بشارع الكورنيش! تتحلق الدوحة خليجا مستديرا صغيرا يقع في المنتصف من الشاطىء الشرقي لشبه جزيرة قطر. ويبتدىء قوس هذا الخليج بميناء الدوحة وينتهي بفندق شيراتون الدوحة الذي يبدو كأنه هرم عصري يرتفع على مرسى يطفو فوق المياه! وتواجهه جزيرة صغيرة تسمى جزيرة النخيل. وعلى امتداد الكيلومترات السبعة التي يجري خلالها نهرا الشارع الواسع المطل على فيروزية الماء! لا ينقطع النخيل عن تسييج الضفتين والسموق في الجزيرة الفاصلة بين نهري الشارع. وتتواصل حدائق الشاطىء على امتداد شارع الكورنيش! وتتواصل أيضا ملامح الإصرار القطري على صون التراث المعماري العربي الخليجي القديم برغم الانخراط في التحديث. وفي هذا الشأن تعد الدوحة من أكثر العواصم الخليجية احتفاظا بملامحها التراثية معماريا. سواء بالحفاظ على القديم وترميمه أو بدمج الطراز العربي الخليجي في تصميم الأبنية الحديثة ابتداء من مبنى الديوان الأميري حتى مساكن موظفي الدولة.. الكبار والصغار على السواء.

ولا تكتفي الدوحة بصون تراثها المعماري البديع والمريح للعين والنفس عند واجهة الكورنيش فحسب! فهي تفعل ذلك حتى أعمق أعماقها. شهدنا ذلك في حي الريان الذي يبعد سبعة كيلومترات عن مركز المدينة! وفي الضاحية الشمالية التي تبعد عن المركز ستة كيلومترات.

اللون الأبيض الناصع لأبنية أليفة تتنفس بارتياح في المساحات الشاسعة وسط النخيل! والسمات واضحة: نقوش الجص العربية حول الأقواس والأسوار والأبراج تأخذ شكل القلاع الخليجية القديمة! والأبواب من الخشب الثقيل المصفح والمحفورة صفحته بالنقوش! والسقوف القديمة من الخشب وسعف النخل مازالت تحيا في قمة الحداثة. بينما الباجادير (أو ملقف الهواء)! لايزال يرفع رأسه فوق الأبنية الحديثة بواجهاته الأربع المفتوحة تستقبل الهواء من أي اتجاه يكون وتحيله إلى داخل الأبنية لتبترد أجوافها بلا أجهزة تكييف ولا مراوح. شيء إنساني جميل أحسست به في أحد الأبنية الرائعة المطلة على الكورنيش وهو المقهى الشعبي المؤسس على نمط قلعة تتناسق داخل أسوارها البنية الحمراء عدة كتل معمارية ذات قباب وأبراج وأقواس! وباجاديرات.. بالطبع.

الدوحة مدينة تصر على ألا تتنازل عن شخصيتها أمام ضرورات وصرعات التحديث! وهي معادلة صعبة لكن العناد القطري الجميل يقوى على حمل شقي المعادلة. وفي إطار ذلك كنت أتحاور مع كثير من القطريين الذين التقيتهم في الدوحة! فأكتشف أن المسألة يقين قطري داخلي عميق! وقد عبر عن ذلك عند حديثي معه الأستاذ ناصر محمد العثمان رئيس تحرير جريدة الشرق اليومية! إذ سألته: "ألا تخشون من اجتياح التحديث الغربي لأصالتكم العربية الخليجية كأثر جانبي لتدفق النفط والغاز باتجاه العالم الصناعي ومن ثم توقع تدفق قيمي معاكس في عملية المبادلة?" قال: "أمام التطور السريع والمتغيرات المتوالية في فكر الإنسان وتوجهاته نجد أنفسنا ـ جيلنا نحن المخضرم ـ نحاول الموازنة بين الماضي والحاضر وتطلعات المستقبل. المهم أن تعرف كيف تقدم الماضي لجيل الحاضر والمستقبل. هذا الماضي يجب ألا يقدم بجمود ودون أخذ المتغيرات بعين الاعتبار. وفي تصوري أن هناك شقين لكيفية طرح الماضي. أولهما تاريخي يعتمد على التدوين وعلى الذاكرة والتسجيل! والثاني آداب وسلوكيات.. حرف وصناعات وفنون.. هذه يجب أن نحافظ عليها ويعطيها الجيل الحاضر لجيل المستقبل حتى يكون هناك تواصل بين الأجيال على أن يطوّع الجيد والجميل ليبقى مستمرا معنا يربطنا بجذورنا وأصالتنا".

ولقد كان الجيد والجميل من التراث ماثلا في الكثير مما رأيناه في الدوحة! في العمارة كما أسلفت! وفي بيت التقاليد الشعبية الذي يعد هو نفسه ـ كمبنى ـ أحد النماذج النادرة من العمارة الخليجية القديمة حيث البرج الهوائي (باجدير) مفتوح على الجهات الأربع ليؤمن تيارا مستمرا من الهواء اللطيف للغرف الداخلية خلال الصيف الطويل الحار. كما أن محتويات البيت هي ذاتها محتويات البيت القطري القديم. أما الأسواق القديمة فهي على حالها ومنها سوق "الواقف" الذي أسمي هكذا ربما لصغر حوانيته وتفرعات دروبه الضيقة الظليلة التي يدور فيها المتسوق دون أن يفكر في الجلوس. وفي منطقة الشحانية في الجهة الغربية بمدينة الريان التي تبعد 45 كيلومترا عن قلب الدوحة كانت قطعان المها (أو الوضيحي) تسرح آمنة في هذه المحمية التي تستهدف المحافظة على هذا الحيوان الذي أوشك على الانقراض من الجزيرة العربية لولا جهود دول الخليج البيئية ومنها قطر. وإذا كان الغزال العربي تراثا بريا عربيا تصر على استعادته قطر في محمية الشحانية! فالشحانية أيضا هي موضع عالمي معروف في دنيا الخيول العربية الأصيلة إذ يتم في مزارعها استيلاد أصفى السلالات من الحصان العربي! وفي هذه المزارع يوجد 90 حصانا من أثمن خيول العالم ترتع في رحاب 300 هكتار من الأرض الخضراء المحفوفة بالنخيل والأسوار والبوابات المشيدة من الحجر الأبيض على النمط الخليجي القديم.

إن التراث البري للبادية العربية يجد في قطر رعاية كبيرة تصل إلى درجة العشق ابتداء من التصقير (أي القنص باستخدام الصقور) وحتى سباق الإبل! أما البحر الذي تحيط مياهه بشبه جزيرة قطر من كل ناحية! فإنه يشغل موقعه من قلب الحنين القطري للقديم! وثمة رحلة قصيرة جميلة بالقوارب التقليدية تنطلق من شاطىء خليج الدوحة الشمالي إلى جزيرة صغيرة تتمركز في الوسط واسمها جزيرة النخيل. وحتى لا تنقرض صناعة السفن وقوارب الصيد التقليدية في قطر أنشئت ورشة أميرية لصناعة وصيانة السفن التقليدية من أبرز إنجازاتها صناعة سفينة تسمى البتيل على يد "قلاف" (أي بنّاء سفن)! قطري مشهور من جيل الآباء الذين عاصروا زمن الغوص والصيد! وطول هذه السفينة الكبيرة يبلغ 125 قدما وعرضها 31 قدما! وتتسع لنحو 200 شخص! وهي لاتزال تنقل القطريين للقيام برحلات بحرية ذات طابع تقليدي! رغم أنها مزودة بكل إنجازات الملاحة البحرية الحديثة حفاظا على أرواح الأجيال الجديدة التي يشغلها الحنين إلى البحر بينما بعد بها عهد مصارعته.

الدوحة! هي كل خليج ملتف في بلاد العرب! وهي الشجرة وارفة الظل! ومن ثم تتعدد الدوحات فهناك دوحة في عمان وأخرى في الكويت! لهذا كثيرا ما يشار إلى العاصمة القطرية باسم "دوحة قطر"! وهي دوحة يلتف فيها الخليج وتتفيأ بظلالها ملامح تراث يقاوم الاندثار! لكنني أعتقد أن الدوحة إذ تحمل اسم قطر لتمييزها! فإن قطر يصح أن تحمل بكاملها معنى الدوحة! خاصة من زاوية التاريخ.

ملاذ الطيور والبحارة

مياه الخليج! ودائما مياه الخليج. وحيثما نتجه في قطر يكون وقوفنا في النهاية على حافة الماء. وعلى حافة الماء في جزيرة النخيل رحت أراقب كروان بحر يقف في اللجة على قدم واحدة ملتما على نفسه فيما منقاره الطويل الرفيع منكّس القوس كأنه في حالة شجن يتذاكر الماضي! يوم كانت قطر مستراحا للطيور العابرة والآبدة. وأتخيل المنظر.. شبه الجزيرة الممدودة كلسان بري في عرض الخليج! أول أرض من شبه جزيرة العرب تراها الطيور القادمة من الشمال في موسم الهجرة إلى الجنوب. وتهبط آلاف الأسراب قاصدة دوحة البر ـ قطر ـ المحاطة بدوحة البحر والمكتنفة بعديد الدوحات. وتتغطى الأرض ببساط الطيور الزاخر بالنبض والصدح. إنها صورة ليست خيالية! بل واقعية تماما وإن تكن قد حالت بفعل الزمان. ففي كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" الذي وضعه "الإدريسي" في القرن الثاني الميلادي بطلب من روجر الصقلي الذي اصطفاه كعالم وخبير من علماء وخبراء بلاطه (يوم كان العرب يسمون على الأوربيين بالعلم والمعرفة)! قال عن قطر: "ونأتي إلى ميناء يسمى السبخة حيث يوجد نبع ماء عذب ثم إلى شقاب ثم إلى بوار على شاطىء صعب الاجتياز! وهذه أماكن تسمى "بحر قطر"! وفي هذاالبحر جزر عديدة لا تسكنها إلا الطيور من جميع الأنواع". فهل كانت الطيور هي أول من سكن قطر ولاذ بها بعد عناء البحر?

ربما.. وربما كانت الطيور هي دليل البشر إلى هذه الأرض التي قال فيها منقب العبدي في القرن السادس الميلادي حيث يرجح أنه عاش بها في العصر الجاهلي! وأنشد:

"كل يوم كان عنا جللا غير يوم الحنو في جنبي قطر"

لقد سُجلت أوضح الهجرات البشرية العربية إلى قطر فيما قبل الغزو الأوربي حيث كانت بلاد العرب مفتوحة لارتحال أهلها. وفي هذا السياق "ارتحل المعاضيد من بني تميم من مشارف واحة جبرين في نجد إلى شبه جزيرة قطر! وكان أبرز هؤلاء المعاضيد الشيخ ثاني بن محمد الذي وجد في المشارف الشمالية لشبه جزيرة قطر منتجعا طيبا حيث تقع مظان اللؤلؤ الذي كان آنذاك عصب الحياة الاقتصادية في الساحل الشرقي لشبه جزيرة العرب" على حد تعبير الدكتور مصطفى الفار.

إذن! لاذت الطيور بقطر الأرض! وارتحل البشر إلى قطر الأرض والبحر! وهي بهذا المعنى دوحة في البحر والبر. يلتف بحرها حانيا حول الأرض! وتضيء أرضها بظلال السكينة على المتعب من الطير والمرتحل من البشر. لهذا لا تبدو مبالغة تلك الاجتهادات التي حاولت الإمساك بجذور تسمية هذا البلد "قطر"! ومنها أن قطر جاءت من قطر المطر "حيث كانت شبه الجزيرة القطرية أغزر مطرا مما حولها! ومنها أنها من القطر بمعنى البخور" إذ كانت محطة لاختبار البخور قبل نقله من شرق آسيا إلى الأناضول وجنوب روسيا! ومنها أنها من معنى "الطابور من الإبل إذ كان يصدر من قطر الكثير من الإبل".

ومن طرائف التراث التي تماوج فيها اسم قطر أن الناس كانوا يظنون أن اللآلىء تتكون في محاراتها عندما تقع قطرات الندى أو المطر الموسمي في جوف المحارات التي تطفو على السطح فاغرة أفواهها في موسم معين من السنة! وفي ذلك التبس تفسير بيت الراعي الذي يصف فيه لؤلؤة بالقول:

يمانية هوجاء أو قطرية لها من شعاع الشعريين لهيب

وقد حسم البيروني تفسير بيت الراعي بأن كلمة القطرية منسوبة إلى قطر بفتح الطاء لا تسكينها. لكن يبدو أن هناك تلازما في الكلمتين إذا أردنا الحديث عن قطر. فتلك الأرض التي كان غزيرا مطرها! صار غزيرا لؤلؤها في وقت من الأوقات حتى ضرب اللؤلؤ الصناعي لؤلؤها الطبيعي! وكانت حسرة وشدة من حسرات تلك الأرض وشدتها! لكن الله أدركها بغيث جديد هو النفط الذي بدأ تصديره عام 1949 ليصل بها راضية حتى نهاية قرننا! ويعزز غيثه وغوثه برافد جديد هو الغاز الطبيعي الذي يمد بساط الرضا في هذه الأرض حتى عمق القرن القادم.. وهي محطة لابد أن ندركها ونتوقف عندها في هذا المقام.


جزيرة فضائية

بهو فندق شيراتون الدوحة يدفع الإنسان لأن يرفع وجهه كثيرا نحو الأعالي! فالفندق مشيد على شكل هرم من أحد عشر طابقا فوق لسان من الأرض امتد في عرض الماء بإرادة الفعل البشري! وهي عملية تسمى (دفن البحر)! إذ يتم عبرها زيادة مساحة اليابسة عن طريق ردم مساحات من مياه الساحل! ولقد رأيت أحياء شاسعة من الدوحة لم تكن في السابق غير مساحات من البحر.

اقتحام البحر! وذلك البهو المتدرج في الصعود حتى نقطة القمة داخل الفندق! حيث تتحرك صعودا وهبوطا مصاعد من المرايا والزجاج الملون على خلفية من نباتات تتدلى على الشرفات الداخلية! كل ذلك كان يدفعني إلى عدم المكوث جالسا في الأوقات الخالية من المواعيد والجولات الخارجية. لهذا كنت أرتشف فنجالا من القهوة العربية في المستراح العربي الملون عند المدخل! وبدفء "الهيل" وطعمه العاطر في فمي أروح أتجول ثم أعود إلى قهوة الهيل وأكرر التجوال.. من حديقة الفندق الباذخة المؤدية إلى الماء وحتى الأركان ومرسى الزوارق الذاهبة إلى جزيرة النخيل وسط خليج الدوحة. وقادتني خطواتي دون ترتيب إلى مؤتمر صحفي يعقد في إحدى قاعات الفندق للإعلان عن بدء إرسال "قناة الجزيرة الفضائية".

لم تكن لدي فكرة مسبقة عن الموضوع! لهذا حضرت كمتفرج أرى وأسمع.. ولقد كان الأمر مفاجأة من مفاجآت قطر. على المنصة البيضاء المفروشة بالزهور جلس أربعة رجال يمثلون مجلس إدارة قناة الجزيرة الفضائية هم الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني رئيس مجلس إدارة القناة! والسيد محمود السهلاوي نائب رئيس مجلس الإدارة! والسيد محمد جاسم العلي مدير القناة! والمهندس حسين جعفر المدير التنفيذي.

مفاجأة الموضوع أنه كان طموحا نحو قناة فضائية عربية إخبارية تعتبر الأولى من نوعها! تحمل شعار "الرأي والرأي الآخر"! وتقدم خدمتها بشكل مستقل ومحايد وتسعى إلى تحقيق التوازن بين "الرأي والرأي الآخر"! كما أوضح رئيس مجلس إدارة القناة في ذلك المؤتمر الصحفي الذي أشار فيه أيضا إلى أن انطلاقة قناة الجزيرة الفضائية ما كان لها أن تبدأ لولا رعاية الحكومة القطرية التي شرعت في تمويل البنية الأساسية لهذه القناة على أن يتولى القطاع الخاص تملكها وإدارتها مستقبلا وتبدأ بالبث على مدى ست ساعات! ثم تصل إلى 12 ساعة على مدار اليوم بعد ذلك. وأنها ستعمل على أسس تجارية بحتة مع مراعاة القيم والعادات الإسلامية.

دولة صغيرة يخرج منها بث فضائي له هذه المواصفات! لاشك أن ذلك طموح كبير كان مفاجأة لي! وكان مفاجئا أيضا ويحمل على التفاؤل ذلك الفيلم التجريبي الذي عُرض في المؤتمر الصحفي عن ملامح البرامج التي ستعرض في القناة وتقدم تغطية شاملة للأخبار وتطورها وتحليلها عبر شبكة واسعة من المراسلين. أعجبني الإيقاع السريع الرصين للبرامج والوجوه غير المزوقة للمذيعين والمذيعات مما يعني أن الإجادة هي جواز القناة لتكون تجربة عربية مهمة تطمح في أن تقدم للمشاهد العربي قناة إخبارية بلغته ربما تغنيه عن قناة الـ CNN وتعوضه عن محطة "بي.بي.سي" العربية التي توقفت. وهي بالتأكيد ـ أي قناة الجزيرة ـ ستكون مشعلا جديدا للمنافسة بين القنوات الفضائية العربية لصالح المشاهد العربي الذي بدأ يصاب بالإحباط من قنوات تتحنط وأخرى يصيبها الترهل! وثالثة يفتك بها الغرور! ورابعة تمتلىء بما ليس له قيمة فتملؤها الفجوات.

كل مخلص لضرورة توافر المعلومات من زوايا مختلفة كشرط إنقاذ للإنسان العربي حتى يحسن الاختيار والرأي! لابد أنه سيرحب باشتعال المنافسة بين الفضائيات العربية! لهذا سيتمنى نجاح هذه القناة الفضائية العربية الجديدة لتكون جزيرة فضائية عربية ملونة نأمل أن تزدهي حقا بالرأي والرأي الآخر.

في المؤتمر الصحفي لفت انتباهي أداء رئيس مجلس إدارة قناة الجزيرة العربية الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني! فهذا الشاب عمرا والنحيف قواما! تجلى صوته الهادىء وطبعه المتواضع عن إحاطة غنية بموضوع كبير وخطير كموضوع الفضائيات! كما أبدى حكمة تنم عن أعماق عربية صافية! فعندما سأله أحد الصحفيين الذين يريدون أن يكونوا "ملكيين أكثر من الملك" عن أن ما شوهد في الفيلم التجريبي عن برامج القناة ليس فيه ما يقول إنها قطرية أو تبث من قطر (برغم أن الصحفي غير قطري!)! أجابه الشيخ الشاب بهدوء ينم عن طوية عربية حسنة وبتهذيب شديد يتحاشى أن يجرح! عن الطموح إلى الابتعاد عن الإقليمية والمحلية أملا في خدمة الإنسان العربي بشكل عام.

لقد أثلجت الإجابة صدري وجعلتني أنزل يدي بعد أن رفعتها طلبا للحديث وأغنتني عن القول إن أصالة أي فضل ثقافي عربي من أية أرض عربية تكمن في الابتعاد عن التغني بالذات والابتعاد عن المنّ! فالمن يُذهب الفضل.

خرجت من قاعة المؤتمر متفائلا أرنو إلى ارتفاع المصاعد الملونة عربية التشكيل وهي تسعى نحو قمة الداخل في البناء الهرمي! ثم خرجت أسعى نحو مبنى قناة الجزيرة الصغير شديد الأناقة والتركيز الموحي بالدقة. آخر تقنيات الاتصالات الفضائية والبث الرقمي! وخلية النحل الملونة تتأهب لإطلاق رسالتها العربية عبر الفضاء.. أمل جديد في جزيرة فضائية عربية ملونة.. جديدة.

من ألق اللؤلؤ إلى وهج الغاز

في الطريق إلى "رأس لفان" شمال شرقي قطر! راحت سيارة المؤسسة القطرية العامة للبترول تطوي الطريق السريع الممتد زهاء 70 كيلومترا شمال الدوحة! وعبر نافذة السيارة كانت معالم المزارع تلوح خضراء وسط الرمال وتختفي بينما يظل البحر أبدا هناك في المدى القريب! ومن مذياع السيارة جاءت الأغنية مفعمة بالشجو والشجن:
"بين السفن والغوص رحنا وجينا مرة معانا الريح ومرة علينا"

ولقد لعبت الريح لعبتها بالفعل مع هذه الأرض وهؤلاء الناس! لكن رحمة الله ظلت واسعة! ففي زمن الغوص كانت الريح مواتية لتجارة اللؤلؤ الطبيعي في الخليج عامة وقطر خاصة! وما أن استتب الأمر للؤلؤ المستزرع الذي توصل إليه العالم الياباني ميكيمو توكوكيشيو عام 1890! حتى بدأت تجارة اللؤلؤ الطبيعي في الكساد أمام غزو اللؤلؤ المستزرع الرخيص! وراحت الأزمة تشتد في الخليج! وتقسو على قطر! وعند ذروة الأزمة أدركت رحمة الله الناس! فالنفط المخبوء في طبقات العصر الجوروي العائد إلى 185 مليون سنة خلت أعلن عن وجوده! ولحكمة قدرية تماما لم يستطع المنقبون اختراق طبقات الصخور إليه إلا عام 1939 ليتدفق "زيت الصخر" ويعوض كساد لؤلؤ البحر! وإن أرجأت الحرب العالمية الثانية وتداعياتها تصدير أول شحنة نفط قطرية إلى أواخر عام 1949. ومع ذروة العطاء النفطي كان طبيعيا أن يكثر الحديث عن مخاوف النضوب! لكن الأرض والبحر عاودا فتح باب الأمل للقطريين باتساع قرنين قادمين من الزمان! فطبقات العصر البرمي من الأرض في يابسة قطر وتحت سطح مياهها الإقليمية والتي يعود تاريخها إلى 270 مليون سنة تحتوي على مخزون هائل من الغاز الطبيعي المنفرد يجعل من قطر ثاني أكبر ممتلك للغاز في العالم.

والحديث هنا عن الغاز المنفرد! فثمة غاز مصاحب للنفط! ولبيان الفارق بين الغازين أذكر أننا حين دخلنا منطقة "رأس لفان" رأينا مدخنتين تعلوهما شعلتان من نار تفور وتتقلب بألوان تتراوح بين البرتقالي الأحمر! والأصفر الذهبي. إحدى الشعلتين كانت مصحوبة بدخان أسود والثانية كانت صافية من كل دخان! ذلك أن الأولى شعلة غاز مصاحب والثانية شعلة غاز منفرد. وهذا يبين بشكل واضح لماذا تعتبر الطاقة المتولدة عن الغاز الطبيعي ـ المنفرد خاصة ـ طاقة نظيفة تتسق مع الطموح البيئي المستقبلي للبشر على الأرض. ومن ثم فإن التطلعات القطرية المستقبلية تبدو مشروعة تماما في ضوء ذلك اللهب المستقبلي الصافي القادم من حقل الشمال القطري! والذي تمثله سعيا وطموحا منطقة رأس لفان.

وإذا كان لنا أن نبدأ من الأصل! فلابد أن نعود إلى حقل غاز الشمال الذي كنا نقف على أطراف أطرافه بينما رحنا من فوق حاجز الأمواج الرئىسي في ميناء رأس لفان الحديث الضخم نطل على أفق الماء فلا نرى مجمع منصات الإنتاج البحرية الجبارة العائمة هناك ومنصات السكن التي تشبه مدنا صغيرة عائمة في عمق مياه الخليج.

يقع حقل غاز الشمال الذي بدأ اكتشافه عام 1971 في المياه القطرية شمال شرقي شبه جزيرة قطر ويمتد جزء صغير منه تحت اليابسة. ويغطي في مجمله مساحة قدرها ستة آلاف كيلومتر مربع! أي ما يعادل نصف مساحة الأرض القطرية كلها. وتبلغ احتياطيات الحقل من الغاز القابل للاستخراج نحو 250 تريليون قدم مكعب! وتزيد احتياطياته الإجمالية على 500 تريليون قدم مكعب.

حقل هائل هذا شأنه كان لابد له من مشروع طموح للتطوير يحدثنا عنه مرافقنا من المؤسسة القطرية العامة للبترول. وتتدرج بنا مراحله صعودا.

في المرحلة الأولى ظهرت الحاجة إلى استغلال غاز حقل الشمال خلال عقد الثمانينيات لدعم الطلب المحلي من الغاز! والذي لم يف به مكمن الخف البري بدخان! وبدأ تنفيذ المرحلة الأولى من التطوير في منتصف عام 1987 وتم إنجازها وتشغيل منشآتها في مطلع عام 1991 بطاقة إنتاجية قدرها 800 مليون قدم مكعب يوميا من غاز حقل الشمال ينتج عنها 750 مليون قدم مكعب من الغاز الخفيف ونحو 50 ألف برميل من سوائل الغاز الطبيعي والمكثفات للتصدير.

مدينة وسط البحر

في هذه المرحلة كان لابد من استحداث منشآت وإقامة شبكة أنابيب خاصة بالمشروع ومحطات ضخمة لمعالجة الغاز! وهي تنقسم إلى منشآت بحرية تتألف من محطة إنتاج بحرية تقع على بعد 80 كم! شمال شرقي الساحل القطري في مياه يبلغ عمقها 52 مترا! وتضم هذه المحطة منصتي آبار وقد تم حفر 8 آبار من خلال كل منصة! ومنصة معالجة وتتم بها معالجة الغاز المستخرج من الحقل قبل نقله إلى مسيعيد عبر خطي أنابيب منفصلين! ومنصة المرافق العامة وتضم جميع الأنظمة الداعمة والمساندة للمنشآت البحرية كتوليد الكهرباء ومكافحة الحريق ومياه التبريد وغاز الوقود! ثم منصة السكن وتوفر سبل إقامة مشمولة بكل الخدمات اللازمة لإقامة 75 شخصا! وأخيرا منصتان لدعم الجسور بين كل هذه المنشآت.

إنها مدينة صناعية وسط البحر رأينا منظرها من الجو مدهشا كأنها جسور معلقة ويقف على رأس جسورها برج سامق تخرج من قمته شعلة هائلة صافية النيران.

إنها مدينة لكن هذه المدينة الصناعية العائمة وسط الخليج في مياه قطر الإقليمية لا تبقى معزولة في البحر فثمة شبكة هائلة من الأنابيب توصلها بالبر لاستكمال معالجة الغاز تمتد بعد المعالجة الأولى في المحطة البحرية 80 كيلومترا حتى رأس لفان عبر خطي أنابيب معتمدين قطرهما 34 بوصة للغاز الجاف! و21 بوصة للمكثفات! ويواصل خطا الأنابيب سيرهما على البر. ولن ينتهي دور مسيعيد في المستقبل! بل يتعزز برغم بروز نجم جديد يتألق لطاقة الغاز في منطقة رأس لفان التي تبعد 70 كيلومترا عن الدوحة! ولا شك أن رأس لفان هي إطلالة البر القطري على حقل الشمال الواقع في البحر! وهي إطلالة عالمية الطموح أسست لإقامة مدينة صناعية جديدة ضخمة على مساحة 40 كيلومترا مربعا! لتضم عددا كبيرا من المجمعات الصناعية التي تعتمد على الغاز من منشآت معالجة وتسييل وتصدير الغاز وتصنيع البتروكيماويات وتكرير المكثفات وإنشاء ميناء حديث لخدمة هذه الصناعات.

لقد تم إرساء عقد عالمي لتصميم وبناء رأس لفان في 7 سبتمبر 1991! وكانت السنوات الست التي مضت منذ ذلك الحين ساحة محدودة لإنجاز كبير رأيناه رأي العين ونحن نتجول بين منشآت المعالجة والتخزين وجسور وأوناش التصدير.

ثمة قناة ملاحية بطول 5 كم وعرض 280 مترا وعمق 15 مترا تحت سطح البحر تم حفرها وتعميقها! وحوض للسفن مساحته 2 كم2 وبعمق 31.5 متر تم استكماله! وحاجز أساسي للأمواج بطول 6كم! وآخر خلفي بطول 5كم اكتملا مع مرسيين لتحميل ناقلات الغاز المسال ومرسيين آخرين لتحميل المنتجات السائلة والبتروكيماويات. كذا أرصفة تحميل ناقلات البضائع الجافة وشحن المعدات الثقيلة. هذا غير مرافق الميناء المختلفة من مبان وطرق وشبكات صرف وإنارة ومياه وإدارة العمليات البحرية والمستودعات وكافتيريا ومباني الشرطة والجمارك والمسجد ومحطات الإطفاء. هذا غير مدينة العاملين في رأس لفان بكل خدماتها المعيشية والترفيهية والطبية.

إنه مشروع كبير يتأهب للعمل وقد عرف الاكتمال! ولقد صعدنا إلى قمة برج التحكم والمراقبة الحديث في ميناء رأس لفان وكانت مساحة الإنجاز على مد البصر! منشآت! وطرق! ومصانع! وصهاريج تخزين هائلة! وأنابيب عملاقة فوق ظهر الأرض غير تلك التي تغوص في جوفها قاطعة رحلة طويلة دقيقة من حقل البحر إلى طموح البر.

لقد قرأت في طبيعة الجغرافيا القطرية ما ينم عن الطموح! والجغرافيا هي أم التاريخ والناس. وقطر تحقيق لتلك الرؤية! فالمساحة الصغيرة من الأرض تشق مكانها في عرض البحر لتؤسس لإنجاز طبيعي كبير! وهو ما ينعكس في ثلاثة ملامح لفتت نظري في واقع قطر اليوم! ثلاثة طموحات كبيرة لبلد صغير المساحة والتعداد وكل منها تكاد لا تضطلع به إلا دولة كبيرة! قناة فضائية ترنو للتميز البرامجي والتقني! ومدينة صناعية تلامس أفق العالمية في القرن القادم! ومنظومة من المتاحف أشهرها متحف قطر الوطني الذي لانظير له كجامعة مفتوحة شاملة في كثير من البلدان الكبيرة. ومتاحف قطر لابد لها من حديث آخر. حديث منفرد يعطي لهذه الصروح الثقافية المتميزة حقها.

 

 

 

محمد المخزنجي