وفاء من الكويت لذكرى شهدائها
وفاء من الكويت لذكرى شهدائها
تصوير: حسين لاري ومصطفي يونس
لا يمكن التعبير عن المعاني التي يرمز إليها مكتب الشهيد وفق لغة واحدة. فبلغة الوطن هو شهادة وفاء للذين بذلوا أرواحهم من أجل الحفاظ على اسمه ووجوده حتى لاتضيع اسماؤهم وينمحي وجودهم. وبلغة علوم الاجتماع هو تكريس لسمة كويتية أصيلة هي التكافل والتآزر بين الكويتيين في مواجهة المحن والنوائب. وبلغة علم الإدارة هو مؤسسة- برغم حداثة عمرها- استطاعت أن تنشىء تنظيما يقدم خدمة شاملة الجودة لاتعوض الأسر التي غاب عائلها على المستوى المادي والمعنوي فقط، ولكنه يتخطى هذا الدور ليقدم تجربة متميزة في إعداد الكوادر الوطنية.
وأعترف أنني أصبت بالدهشة وأنا أدخل إلى مبنى المكتب الهادىء في ثانوية اليرموك. خلف هذا الهدوء الظاهري كانت هناك حركة صاخبة من العمل الذي لا يهدأ على مدار اليوم. لقد أنشىء المكتب في أيام الطوارىء التي أعقبت حرب التحرير مباشرة. ومازال أسلوب الطوارىء هو الذي يسود العمل. فكل الأعمال عاجلة لأن مواساة النفس الإنسانية المكلومة لا تحتمل التأجيل. والعمل المكتبي يأتي دائما بعد قيامهم بالخطوات الضرورية إزاء كل نداء يوجه إليهم. ولعل هذا الطابع غير الرسمي في العمل ينبع من غلبة الجهود التطوعية على الرسمية، فعدد العاملين في مكتب الشهيد يصل إلى 325 عاملا، وعدد المتطوعين منهم يبلغ 242 وبقية العدد منتدبون من جهات أخرى، أي أن النسبة الأكبر من هؤلاء العاملين جاءت بمحض إرادتها وبإيمان نابع من داخلها من أجل العمل العام وهو اتجاه يتفق إلى حد كبيرمع الرسالة التي يتبناها مكتب الشهيد ويحرص عليها. دون أي رسمية كان لقاؤنا مع الدكتور إبراهيم الخليفي مدير. مكتب الأمناء العشرة الذين يتولون الإشراف على المكتب، كان طابعه المرح لايخفي إحساسه العميق بالمسئولية التي ألقيت على كتفه بجانب عمله الأكاديمي، فهو أستاذ متخصص في التربية ومن هذا المنطلق فقد كان يدرك مدى الألم والإحساس بالافتقاد الذي يمكن أن يشعر به أولاد الشهداء، كما أنه كان يمتلك التصور العلمي للخروج بهم من هذه المشكلة. وبناء مستقبلهم به كل صحيح. يقول الدكتور الخليفي موضحاً الفلسفة الكامنة وراء إنشاء مكتب الشهيد: "إن الشهيد يقف على حافة الحضور والغياب. فهو غائب عن عيوننا ولكنه حي عند الله. أي أنه شاهد ومطلع علينا وعلى أعمالنا. نحن نعمل في هذا المكتب ولدينا هذا الإحساس.. أن هناك شاهدا علينا يراقب ما نقدمه أهله. ولعلك لاحظت شعار المكتب الذي يمثل بصمة موجودة في كل مكان. في الأرض والبحر والجو. لقد ستوحينا من الحديث النبوي الشريف إن للشهيد طابعا عندالله. وقد تخيلنا أن هذا الطابع هو بصمة لشهيد التي اختلطت بصورة الوطن فلا تزول أبداً ولقد وفقنا في هذا الاختيار حتى أن المؤسسة العالمية رعاية الإعلان قد اختارتها كواحدة من أفضل التصاميم على مستوى العالم كله..".
كانت بداية مكتب الشهيد في وقت صعب. فقد كانت الكويت تلملم جسدها الجريح بعد أن أجليت عنها القوات العراقية، وكان في كل بيت جريح أو أسير أو شهيد. ولم يكن التعويض المادي مهما علت قيمته كافيا لمعالجة الآثار النفسية والمعنوية لآثار الغزو. وإذا عرفنا أن نسبة الشهداء والمفقودين هي التي لاتزال قائمة حتى الآن تمثل 1% من تعداد الشعب الكويتي أدركنا أنه لا توجد أسرة لم تعان هذا الأمر.. وكما يقول الدكتور إبراهيم الخليفي: "لقد كان هاجس صاحب السمو أمير البلاد أن يعود الناس إلى حياتهم الطبيعية أعمالنا. نحن نعمل في هذا المكتب ولدينا هذا بعد الغزو بأقل حجم ممكن من الخسائر لذلك فقد أخذ يواسي أهالي الشهداء بنفسه وينتقل من بيت إلى بيت ثم نشأت فكرة إقامة المكتب من سمة التكافل التي هي من صميم خصائص المجتمع الكويتي الذي كان يخرج جزء من أهله إلى البحر الواسع قد يعودون أو لا يعودون بينما يقوم بقية الرجال برعاية الأهل أثناء فترة الغياب. نبع المكتب من فكرة التكافل هذه وكان علينا أن نحول هذه الفكرة إلى عمل مؤسسي. وهكذا أنشىء مكتب الشهيد بناء على المرسوم الأميري رقم 83/ 1991 وبدأ أعماله بعد التحرير بأشهر قليلة وكان هدفه هو تكريم الشهداء ورعاية أسرهم ماديا ومعنويا وقد عين مجلس أمناء للإشراف على هذا المكتب. كان عددهم ستة أشخاص ثم زيدوا إلى عشرة، وقد أعطيت لهم الحرية الكاملة لاقتراح مايراه مناسبا لتحقيق الأهداف التي كان سمو أمير البلاد يرجوها".
من هذه البداية بدأ المكتب عمله كي يرمم جروح مجتمع بأسره. كانت رسالته محددة ولكنه كان مطالبا بكل شيء تقريبا. فعلى أثر الضغط النفسي الذي يعقب الكوارث يبحث، الناس عن شيء يسعون خلفه ويحملونه مسئولياتهم. وقد حاول المكتب أن ينجو من كل هذه الآثار. كانت الادعاءات كثيرة تختلط فيها الحقيقة بالكذب. وعلى حد تعبير الدكتور الخليفي: "أن نخطىء في إعطاء من لايستحق أفضل من أن نحرم من يستحق".
وبدأ المكتب عملا دءوبا للإجابة عن العديد من الأسئلة التي تحدد هوية عمله.. من هو الشهيد؟ وكيف يمكن أن نحدد عملية الشهادة؟ وهل هو الكويتي الذي سقط شهيداً من أجل الكويت أم هو كل من سقط دفاعاً عن أرضها بغض النظر عن جنسيته؟ وقد استلزم هذا الأمر تشكيل لجان للتحري عن الشهداء شملت سؤال كل من له صلة بالشهيد من أهل وأقارب، وكذلك الرجوع إلى الوثائق التي تركها العراقيون خلفهم بل ونشرت في الصحف المحلية أسماء بكل القتلى طالبين ممن يملك معلومات أن يتقدم للإفادة بها. ويوضح الدكتور الخليفي طبيعة عمل لجان التحري: "لقد توخينا الدقة العلمية إلى أقصى درجة ممكنة وكانت التقارير التي قمنا بها عن كل حالة مؤكدة من أكثر من مصدر ولعل أبرز شهادة قد حصلنا عليها في هذا المجال هي تقرير لجنة التعويضات عن أثر الغزو العراقي التي أكدت أن الملفات التي تقدم بها مجلس الشهيد قد قبلت جميعها نظراً للدقة العلمية التي تحلت بها".
ويؤكد الدكتور الخليفي في ختام حديثه: "إن الشهيد قد تحول إلى رمز نلتف حوله جميعا. ونحن نحاول من خلال هذا الرمز أن نعطي لأسرته معنى جديداً للحياة فنحن لانتحمل أعباء الحياة بدلا منها ولكننا نؤهلها للاعتماد على النفس ومواجهة الحياة بقوتها الذاتية." يقوم العمل في مكتب الشهيد على التنفيذ. ويوضح ذلك الدكتور طلاع الديحاني المدير العام لمكتب الشهيد قائلا: "إن لدينا رسالة هي تكريم الشهيد عن طريق تخليد بطولاته ورعاية ذويه رعاية متميزة من النواحي المادية والمعنوية بما يحقق معاني الوحدة الوطنية ويكرس خصوصية المجتمع الكويتي ويبث روح الجهاد لدى أبنائه. وقد وضعنا هذه الرسالة في كل مكان في المكتب حتى يستوعبها كل موظف ومتطوع في المكتب. وبذلك يمكن القول إن دور مكتب الشهيد أن يوفر الرعاية لكل أسرة بنفس الدرجة التي كان سيوفرها له راعي الأسرة لو ظل باقيا على قيد الحياة. ونحن هنا ننفذ تعليمات سمو أمير البلاد الذي جعل من نفسه راعيا لكل الأسر التي فقدت راعيها. لذلك فنحن نوفر الرعاية الاجتماعية والنفسية والتربوية وحتى الترفيهية بكل ماتشتمل عليه من أنشطة.. ".
وعلى هذا الأساس يمكن أن نقسم الخدمات التي يقدمها مكتب الشهيد في إطار هدفين رئيسيين. أولهما تخليد الشهداء وفي هذا الإطار يسعى المكتب إلى طبع اسم الشهيد في أذهان المجتمع الكويتي عبر استخدام جميع الوسائل المتاحة. وثانيهما توفير الرعاية لأسرة الشهيد من خلال العديد من المكاتب المتخصصة داخله، والتي هي صلة يومية بمختلف الأجهزة الحكومية والأهلية. وتمثل الرعاية الاجتماعية عنصراً مهماً من عمل المكتب فمن خلال الفريق يقوم بتعزيز أساليب التنشئة الاجتماعية والاهتمام ببرامج التثقيف الدينية لإحياء معاني القيم النبيلة في قلوب الأطفال. وكذلك توفر الرعاية الصحية سواء تم ذلك داخل المؤسسات الصحية في الكويت أو متابعة الحالات الصحية التي تحتاج إلى السفر إلى الخارج. وفي الجانب الإسكاني يقوم المختصون بتوفير السكن لذوي الشهداء بمساعدتهم على تخصيص منازل لهم أو منحهم بدل الرعاية النفسية. وهناك في هذا المجال المهم فرع لمكتب الإنماء الاجتماعي داخل مكتب الشهيد نفسه حتى يمكن توفير الرعاية النفسية المناسبة لأسر الشهداء وأولادهم. ويساهم المكتب مساهمة فعالة في الجانب التربوي لأبناء الشهداء حيث يتعاون مع وزارة التربية والتعليم بمتابعة تقدم الطلاب في كل مراحل الدراسة وتقويمهم وتقديم العون اللازم لهم. ويضيف الدكتور طلاع الديحاني موضحاً طبيعة هذه الخدمات: "إن المكتب يخصص باحثا وباحثة اجتماعيين لكل أسرة. فالمستفيدون من مؤسساتنا لايصلون إلينا ولكننا نحرص على الوصول إليهم. هؤلاء الباحثون ليسوا موظفين في المكتب، الإيجار أو الإشراف على بناء أو ترميم مساكنهم. وقد قام المكتب بتجربة رائدة في هذا المجال من استعانة ببعض المهندسين في الهيئة العامة للإسكان الذين عملوا كمتطوعين للإشراف على بناء وصيانة بعض بيوت أسر الشهداء مما أحدث وفراً في مواد البناء قدره 300 ألف دينار. كما يقوم المكتب بتقديم خبرات الاستشارة القانونية أيضا عن طريق المحامين المتطوعين وكذلك ولكنهم شباب كويتي متطوع يؤمن. بهذا العمل. وهذا هو أيضا توجه من سمو الأمير حتى يتأكد من تكريم المجتمع للشهداء من أبنائه. وحتى نضمن أن تصل هذه الرعاية بالشكل الذي نريده كان يجب أن نقوم بتدريب هؤلاء الشباب بشكل متميز. ويعني هذا أننا يجب منذ البداية أن نختار بشكل جيد وأعتقد أن هذا ينعكس بنفس الدرجة م ن الجودة على الكوادر الوطنية التي تريد أن تساهم في العمل الاجتماعي. ". إن دور رعاية أبناء الشهداء لايقتصر على متابعة الباحثين فقط ولكن علاقتهم بالمكتب علاقة حية وفعالة وقد حرص المكتب على أن يكون مقره هو بيتهم الثاني وهو يحتفل معهم بكل الأعياد والمناسبات الدينية والوطنية ويقيم الأنشطة الترفيهية والرحلات إلى داخل الكويت وخارجها، وقد قام أبناء الشهداء برحلات إلى مصر وتونس وكينيا وكذلك قام آباؤهم برحلات للحج والعمرة. ويحرص سمو أمير البلاد على القيام بنفسه بتكريم المتفوقين من أبناء الشهداء وهو يحضر للاحتفال معهم كل عام وفي أي مناسبة.
تخليد ووفاء
ويقودنا الحديث عن تكريم الشهيد إلى قسم التخليد الذي يمثل محوراً أساسياً من أعمال المكتب. ويقول تركي الأنبعي رئيس قسم التخليد ورئيس تحرير مجلة "الهوية" التي يقوم المكتب بإصدارها: "يمكن القول إن هذا العمل هو جديد من نوعه في منطقة الشرق الأوسط. فهذه المؤسسة هدفها خدمة الإنسان وهي قد حولت القناعات التي يؤمن بها الإنسان الكويتي إلى عمل مؤسسي منظم. إن الغرض الذي نقوم به من تكريم الشهداء هو غرس الولاء الوطني لذلك فنحن نحاول أن ننشر اسم الشهيد في كل مكان نسعى إليه. لقد أقمنا حوالي 50 معرضاً عن الشهداء في غضون السنوات الخمس. وأطلقنا أسماء الشهداء على العديد من المرافق العامة كما أنتا نشارك في إنتاج فيلم عن ملحمة القرين يشارك فيه عدة ممثلين ومخرجين من العرب، كما أننا نعد كتاب حيثيات الشهادة الذي يضم كل ماكتب عن حياة الشهداء وظروف موتهم، والتخليد لايقتصر على داخل الكويت فقط، حيث غرسنا أشجاراً وأقمنا معارض وعقدنا مسابقات، ولكنه امتد إلى خارج الكويت فقد شاركنا في إنشاء العديد من المشاريع الخيرية في العديد من الدول الإسلامية، وهي تحمل اسم شهيد من الشهداء هدفها هو أن يستفيد منها كل المسلمين ويبقى اسم الشهيد مرتبطا بعمل الخير. ولعل آخر هذه المشاريع ماقمنا به في مدينة سوهاج بجمهورية مصر العربية من افتتاح معهد للدراسة الأزهرية. في نفس المدينة التي أغرقتها السيول منذ عامين.. ويواصل تركي الأنبعي حديثه عن تجربته في مجلة "الهوية" التي صدر منها العدد السادس حتى الآن: "إنها تكمل رسالة المكتب في غرس روح الهوية الانتماء في نفس الإنسان الكويتي. فهي لاتهتم بعرض أنشطة المكتب بقدر ماتقدم صورة لجهد الإنسان الكويتي في عمر الوطن. وسواء أكان شهيداً أو على قيد الحياة فهو لم يكف عن تقديم العطاء من أجل هذه الأرض. وبخلاف المضمون فإن شكل المجلة وإخراجها هو أيضا مختلف عن المجلات السائدة".
ذكرى لاتموت
لعل الهدف الأساسي من كتاب "حيثيات الشهادة" الذي أوشك مكتب الشهيد على إنجازه هو محاولة كتابة تاريخ صادق الوقائع لايعرف التزوير، لأنه مكتوب بمداد من دم الشهداء. ويعد الكتاب بحق الوثيقة المعتمدة علميا لحياة خمسين شهيداً من شهداء الكويت كمرحلة أولى تعقبها مراحل أخرى تقوم بالتغطية الشاملة لبقية شهداء الكويت.. وقد ألف مكتب الشهيد لهذا الغرض لجنة "حيثيات الشهداء" التي ضمت أكاديميين من جامعة الكويت وباحثين شبانا منهم د. نجاة الجاسم ود. بنيان سعود تركي ود. جمال الزنكي، كانت مهمتهم الأساسية هي جمع معلومات دقيقة عن كل من سقط شهيداً في سبيل الكويت تشمل نشأته وصفاته الشخصية وكيفية التحاقه بالمقاومة الشعبية والظروف التي أدت إلى اعتقاله وتعذيبه ثم استشهاده. والكتاب بهذه الصورة، وكما تؤكد الدكتورة نجاة الجاسم، ليس مجرد سيرة ذاتية للشهداء ولكنه توثيق علمي لكل الروايات الشفهية وتحويلها إلى وثيقة مكتوبة. وهو لايعتمد على الروايات الشفهية فقط ولكنه يحاول تأكيدها من مصادر أخرى يمكن أن تكون مضادة أحيانا مثل الوثائق التي تركها جنود الاحتلال العراقي خلفهم ويمكن أن تكون شخصية مثل المذكرات التي تركها خلفهم بعض الشهداء. تقول الدكتورة نجاة الجاسم: "لقد قمت حتى الآن بتوثيق حياة 22 شهيداً وخرجت بحصيلة شعورية مليئة بالإعجاب بمشاعر هؤلاء الذين اختاروا بإرادتهم لحظة استشهادهم فداء للأرض التي عاشوا عليها، وبرغم ذلك استطيع القول إنني لم أترك عواطفي تأخذني بعيداً عن الموضوعية. ففي مثل هذا الجهد لا مجال للانحياز".
ويؤكد هذا القول الدكتور بنيان سعود الذي عمل على توثيق حياة عشرين شهيداً معظمهم من العسكريين. وقام بالعديد من الجولات بحثا عن المعلومات المؤكدة، خثاصة مع أفراد اللواء الثامن والثمانين بالإضافة إلى أهالي الشهداء وأصدقائهم وحتى المعارف غير المقربين. يقول: "مشاعر كبيرة كانت تتلاطم في صدري وأنا أتتبع قصص هؤلاء الشهداء. لقد فضل بعضهم العذاب واعترفوا على أنفسهم بدلا من الاعتراف على زملائهم. لقد نشأت بينهم مقاومة بصورة تلقائية ودون قيادة مركزية إلا الإحساس بنداء ـالأرض، كنت أجتهد في الوصول إلى المعلومات من مصدرها الأصلي رغبة مني في الحصول على أصدق الروايات مركزاً على أسلوب التحري العميق واضعاً نصب عيني الأمانة العلمية من أجل كتاب لايحابي أحدا". ويضيف د. جمال الزنكي: "كل المعلومات كانت تخض في النهاية للنقد والتمحيص فقد كنا لانريد أي نوع من المبالغة عند ذكر بطولات الشهداء حتى لانسيء لهم ولأنفسنا ولوطننا، فالمبالغة بعيدة كل البعد عن الأمانة العلمية ولايرضاها الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر وأخفى، كما نحرص عند ذكر بطولات شهدائنا على عدم بخس إنجازاتهم حقها". ولم تكن مهمة اللجنة سهلة. لقد حاولوا إزالة كل المبالغات العاطفية من كل الروايات.
كما أن نسيان بعض التفاصيل استدعى التأكد من أكثر من مصدر. أضف إلى ذلك أن الكثير من المذكرات والوثائق كان قد تم إتلافها خوفاً من وقوعها في أيدي العراقيين أو لعدم معرفة القيمة الحقيقية لهذه المذكرات. وقد تعاون مع اللجنة نخبة من شباب وشابات الكويت الذين عملوا بجد فقطعوا المسافات والتقوا العديد من الشخصيات وألقوا عليهم مئات الأسئلة، وقد تم اختيار هؤلاء الشبان من قبل اللجنة بعناية فائقة حتى يضمنوا نزاهتهم وإخلاصهم وإحساسهم بالمسئولية الوطنية.
مواكب الشهداء
والآن ماذا تقول سطور الشهادة في سبيل الوطن؟ هل صنع الشهيد مصيره أم أن ذلك المصير الدموي قد فرض عليه؟ المدهش أنه في كثير من الحالات كان هذا المصير هو الاختيار. وكانوا يعرفون أنهم سوف يدفعون الثمن من حياتهم، ومع ذلك لم يهابوا ألم هذه اللحظة. وربما كان الشهيد محمد الذايدي خير مثال على ذلك. لم تبدأ قصة بطولة الشهيد الذايدي على أرض الكويت كما قد يتبادر للذطن ولكنها بدأت بعيداً على ضفاف قناة السويس حيث شارك إخوته في الجيش المصري في الدفاع عنها ضد العدو الصهيوني أثناء حرب 1967 وقد تركت المعركة التي خاضها إصابة في جسده ظلت معه. لقد كان جنديا في الجيش الكويتي وقضى خمس سنوات في الخدمة العسكرية وقد اشتهر بالجد والالتزام بالقيم الدينية والثقافية. ويبدو أن الإصابة قد أثرت فيه بحيث ترك الخدمة العسكرية ليتولى رئاسة قسم المحفوظات بوزارة العدل عام 1970. ولكن هذه الوظيفة الروتينية لم تطفىء جذوة الجندي التي ظلت مشتعلة بداخلة والتي تبقيه دائما على درجة الاستعداد فتطوع في أزمة "الصامتة" عام 1973، وذلك عندما حاولت قوة عراقية القيام باحتلال منطقة الصامتة الكويتية وضمها بالقوة للعراق في عهد أحمد حسن البكر. لقد كانت هذه الحادثة هي جزءا من مسلسل التحرشات التي دأب العراق على اختلاقها والتي تكشف أطماعه القديمة في أرض الكويت. لم يتحمل الجندي القديم أن يبقى ساكنا وراء مكتبه فاندفع إلى صفوف المتطوعن ولم يكن يبلغ من العمر أكثر من 26 عاما. لقد انتهت أزمة الصامتة في صمت، ولكن أزمة الثاني من أغسطس كانت مدوية وحارقة. فى ذلك اليوم استيقظ مبكراً ليعرف خبر الغزو من أخته وتاكد من الخبر عبر الإذاعة الكويتية التي كانت قد بدأت تبث الأغاني الوطنية وقام على الفور فتوضأ وصلى الفجر وقال لزوجته إن وحدته في الجيش تناديه. ترك الزوجة والأولاد وأباه المسن إلى مقر رئاسة الأركان العامة للجيش في معسكر المباركية "الجيوان". ولكن قوات العدوان كانت قد سبقته إلى هناك. فقد كانت هناك معركة ضارية بين القوات الكويتية التي تدافع عن موقعها والقوات العراقية التي تريد اقتحام المكان ولم يجد الذايدي بدا من الذهاب إلى مكان آخر للتطوع هو مديرية سلاح الهندسة. وكان هو أول من سجل اسمه من المتطوعين. تسلم الذ ايدي البندقية والذخيرة واللباس وخرج هو ومجموعة من الرفاق لمقاومة العدوان ولكن العدو أحاط بهم في منطقة الرقعي وأخذت تتساقط عليهم قذائف الهاون. وعندما جرح ربط جرحه وظل يواصل المقاومة ويخاطب زملاءه وهو يحثهم على مواصلة القتال حتى هبطت عليه شظية من إحدى قذائف الهاون فسقط مضرجاً بالدم. لقد اختار قدره.. واختار قضيته ومات الجندي القديم ولكن بقيت ذكرى الشهادة والتضحية.
الأمر لايختلف كثيراً مع جاسم الأستاذ. لقد مزق الرصاص جسده هو وستة من رفاقه في المقاومة في سرداب داخل مجمع الصوابر وظل أمر استشهاده خافيا عن أسرته حتى خرج ابنه من المعتقل ليكتشف وجود صورته في الألبوم الخاص بالشهداء في المقبرة. لقد أستطاع جاسم الأستاذ أن يقوم بعمل خاص داخل المقاومة الكويتية عندما قام بتهريب تقريرين عسكريين على درجة عالية من الخطورة والأهمية. الأولما خاص بالكمائن المثلثة العسكرية المعدة من قبل العدو لتدمير أكبر عدد من دبابات دول التحالف والثاني عن مواقع ونوع الأسلحة لدى الجيش الجمهوري العراقي الموجود في الكويت. وقد سهلت هذه التقارير لقوات التحالف قصف المواقع العراقية وتدميرها.
لم يكتف جاسم الأستاذ هو وبقية زملائه - من عناصر المقاومة في مجموعة الفردوس- بهذا العمل السري من المقاومة ولكنه كان عضوا نشطا في تهريب الأسلحة من مخازنها في الشويخ ونقلها إلى عناصر المقاومة لاستخدامها وكذلك شارك في نقل وإيواء وإسعاف الأجانب العسكرين والمدنيين المطلوبين لجيش الاحتلال كذلك قام بتفجير العديد من شاحنات التموين العراقية وأشهرها تلك العملية التي تحدثت عنها الوثائق العراقية عندما استخدم أنابيب الغاز لتفخيخ إحدى السيارات في دوار العظام.
كان يدرك بشكل غير مباشر المصير الذي ينتظره. كان يعرف أنه قد اختار طريق الموت والشهادة وأن بعضاً من زملائه في المقاومة قد سقطوا في أيدي القوات العراقية، ولم يغادر منزله وقبض عليه للمرة الأولى حيث أخضع لتعذيب شديد في قصر نايف وعاد إلى منزله دامي البدن ليتمالك قواه قليلا، ثم يعود للمقاومة من جديد. حاله حال الوطن. ذاق حلاوة الاستشهاد كما أراد وقنما سعى.
الشهيد يوسف خضير يوسف علي. لم يختر مصير الشهادة فقط، ولكن اختار لحظتها أيضا. فمع الساعات الأولى ليوم الغزو انطلق النقيب يوسف إلى مقر عمله في اللواء الخامس عشر بعد أن قطغ إجازته بناء على استدعاء من قيادته العسكرية.
لقد خاض النقيب ووحدته معارك ضارية مع العدو في منطقة "عريفجان " ثم اضطر للانسحاب إلى منطقة بيان حيث تواصلت المعارك، وأحس من خلالها أن آليات العدو، وذخيرته هي أكثر وأقوى تدميراً من مواجهتها من خلال القتال الميداني المنظم. استطاع أن ينسحب إلى الأراضي السعودية ولكنه لم ينسحب من ميدان المعركة.
كانت رغبة المقاومة متأججة في داخله لم يهنأ بهذا البعد والوطن غير هانىء. وهكذا عاود التسلل مرةأخرى إلى الكويت وانضم هو ومجموعة من رفاقه العسكريين إلى المقاومة. لم يشترك في مجموعة واحدة ولكنه أحس أن أكثر من مجموعة في حاجة إلى خبرته العسكرية، فساهم في أكثر من عملية ناجحة كان أشهرها اشتراكه مع مجموعة في إحراق شاحنات عراقية على الدائري الخامس كما قام بعمليات اقتناص لجنود الاحتلال وإحراق سيارة له. كان جنود الاحتلال يطاردون العسكريين بكل قوةويتسقطون أخبارهم. وكانت معرفة أي شخص أنه عسكري ثابت تعني الإعدام على الفور. وعندما أعدمت القوات العراقية أحد أصدقائه بعد تعذيبه فإن أصدقاء النقيب يولممف نصحوه بمغادرة الكويت ووافقهم في البداية، ولكن طبيعة التضحية في أعماقه اختارت المرابطة داخل ا لأرض. كانت القوات العراقية قد حددت مكان مجموعته وحاصرت المنزل الذي يستخدمونه كمخزن للأسلحة ومن إحدى غرف المبنى حاول هو وزميل آخر إعاقة أي تقدم للجنود المحاصرين بواسطة إلقاء القنابل عليهم. وعندما بدأت جدران المنزل في الانهيار من حولهما تحت وطأة القذائف صعد إلى السطح كي يرفع علم الكويت وكانت هذه هي المرة الأولى التى يرفع فيها العلم منذ أغسطس 1990 وقد أصيب البطل وهو جالس على ركبتيه وفي يده القنابل وقد انفجرت إحداها وتناثر الجزء الأيمن من وجهه.
ولايتوقف موكب الشهداء.. لايشارك فيه العسكريون والجنود القدماء فقط، ولكنه يطول العديد من الناس الأبرياء الذين كان ذنبهم أنهم شهود هذه اللحظة من التاريخ ولم يرضوا بأن يذعنوا تحت وطأتها. كان منهم جاسم المطوع الذي اعتقلته السلطات العراقية ثلاث مرات متوالية، وتعرضت خلالها لأسوأ أنواع التعذيب حتى يعترف بأسماء زملائه دون أن ينجحوا في ذلك. إن كل مافعلته فيه مرات التعذيب هذه هي زيادة صلابته الداخلية وإصراره على المقاومة أكثر وأكثر. لقد قام مع مجموعة بجمع السلاح من المخافر قبل أن يسيطر عليها العدو سيطرة كاملة وقام بمهاجمة السيارات التي كانت تحمل العراقيين الذين شجعتهم سلطات الاحتلال على الإقامة في الكويت. وتعلم كيف يعد قنابل "المولوتوف" الحارقة.
وعقب الاعتقال الثالث كانت معاملة الجنود العراقيين أكثر قسوة، خاصة أنهم لم يظفروا منه بشيء. حملوه في السيارة إلى بيته وأمروه بالتحرك نحو الباب ولكن ما إن امتدت يده ليطرقه حتى انطلق منهم سيل من الرصاص على ساقيه فسقط مضرجاً بدمائه ثم انصب الرصاص على رأسه حتى فاضمت روحه إلى بارئها.
ولاتنتهي صور الشهادة سواء للذين اختاروا مصيرهم، أو الذين غدر بهم بعد أما غدر بوطنهم. لقد أيقظ خطر الغزو كل ما في الإنسان من فضائل. وبذلك تحولت لحظات الشهادة إلى تاريخ في مواجهة الغياب والنسيان واكتسب الوطن هوية جديدة من دم أبنائه الذين عاشوا طوال عمرهم في سلام لم يحشدوا فيه جيوشاً ولم يعتدوا على جار.
أنشطة لاتهدأ
الحركة لاتهدأ داخل مكتب الشهيد. وفي أي قسم نتوجه إليه نرى حجما من العمل المنجز ولاتزال هناك خطط أخرى قيد الإنجاز. يقودنا عباس المشعل مدير قسم العلاقات العامة عبر أروقة المكتب، وهو يحاول أن يلخص لنا الأنشطة في كلمات محددة. ولكننا لانستطيع أن نتصور حجم كلماته إلا عندما نقوم بزيارة كل قسم من الأقسام. في قسم الأنشطة برئاسة "ناصر القبندي نرى قسماً من المشاريع الترويحية التي تم تنفيذها خلال الشهور السابقة ما بين احتفالات دينية وثقافية ورياضية هدفها تطوير مهارات ذوي الشهداء وأبنائهم، وبث روح التنافس بينهم وقد قامت اللجنة بحوالي 40 نشاطاً منها الاحتفال بالمولد النبوي الشريف والمشاركة في رحلة الغوص على اللؤلؤ وكذلك رحلات إلى القبة الفلكية ونادي الفتاة والمدينة الترفيهية. وكذلك يواصل مركز رعاية الأسر الذي ترأسه فاطمة الأمير بتكليف فريق الباحثين والباحثات- سواء في وحدة الاستقبال والمراجعة، أو وحدة مراقبة العمل الميداني- بعمل دائب لحل كل المشاكل التي تواجه أسر الشهداء والاتصال بكل الأجهزة المعنية في الدولة. ويمثل مركز المعلومات في مكتب الشهيد برئاسة أحمد السهلاوي خطوة مهمة ومتقدمة في مسايرة الكوادر الوطنية التطورات التكنولوجية. لقد قام المركز بتصميم البرامج الخاصة به، واستطاع أن يصل إلى تطوير نظام متكامل يضم كل المعلومات التي تضمها الملفات المختلفة عن حياة كل شهيد وظروف أسرته ومختلف الأطوار التي مرت بها. كما يضم نطاقاً متكاملا للمعلومات الإدارية للمكتب. ولايهدأ النشاط أيضا داخل وحدة التطوير الإداري والتدريب برئاسة محمد الكندري وقد تحول إلى مصنع لتدريب الكوادر الوطنية وإعدادها للعمل في مجال الخدمة الاجتماعية والإدارية فهو يواصل وضع الخطط والبرامج للارتقاء بطرق وأساليب العمل ومستوى اداء كما أنه. يقوم بإعداد الدورات التدريبية العامة والمتخصصة العاملة والدير يرتبط عملهم مع أسر الشهداء بصفة خاصة الكفيلة بالمساعدة على حل بعض المشاكل التربوية والاجتماعية والنفسية لذوي الشهداء لمساعدتهم على مواجهة كل ظروف الحياة.
وكواحدة من المؤسسات الوطنية التي تفخر بها الكويت فقد احتل مكتب الشهيد المرتبة الأولى في التنظيم الإداري على مستوى مؤسسات الدولة، وهي المسابقة التي نظمها ديوان المتابعة التابع لمجلس الوزراء وكذلك تحول المكتب إلى هدف أساسي لزيارة كل المسئولين الذين يقومون بزيارة الكويت فقد زارته في هذا العام وفود من التشيك والسنغال وعندما قام الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بالزيارة أهداه المكتب بابا كويتيا قديما محفورا عليه أسماء كل الجنود الأمريكيين الذين ماتوا أثناء حرب تحرير
الكويت.
إن انعكاس عمل المكتب يبدو واضحا من خلال الديوانية التي يعقدها مكتب الشهيد مساء كل يوم أحد وتضم أهالي الأسرى، حيث تطرح كل المشاكل والمطالب بصراحة ووضوح. وقد تحول هذا التقليد الكويتي إلى نوع من جهاز المراقبة الشعبي يدخله المسئولون في المكتب كل أسبوع بإرادتهم، حيث يحدث الاحتكاك المباشر بين طالب الخدمة ومقدمي الخدمة.. ولعل أبلغ رد فعل تلقاه المكتب هو قيام أمهات وزوجات الشهداء بنسج بيت من الشعر على أن يقدمنه هدية كنوع من رد الجميل لسمو الأمير وإهدائه عملا رمزيا يعبر عن حبهم وعرفانهم لما بذله من جهد في رعايتهم. لقد تبنى مكتب الشهيد الفكرة وقام بحلقة الوصل وعين أحد العاملين به للإشراف عليه. تقول ذكريات الحمد مديرة المشروع: "كان دورنا كلجنة - يرأسها الشيخ سلمان الداود الصباح أن يعطى الجميع فرصة للمشاركة، ولم يكن العمل سهلا فقد كان في حاجة إلى مهارات خاصة أهمها معرفة السدو والحياكة وقد كانت مدرسة "بحرة " في اليرموك هي مقر العمل وقد وفر المكتب للمشاركات كل المواد الخام اللازمة بما فيها الوجبات الغذائية. وبرغم أنه كان من المخطط أن يتم العمل على فترتين فإن شدة حماس الأهالي جعلتهم يواصلون العمل طوال اليوم، ولكي تكتمل لمسة الوفاء فقد أطلقوا عليه "بيت جابر" وكان "مسوبع " أي تحمله سبعة أعمدة وكان هذا النموذج هو أكبر بيحق عرفه أهل البدو واستغرق العمل فيه سبعة أشهر كاملة وقام الفنان الكويتي عنبر وليد بتصميم أوتاد البيت التي صورها على هيئة يدين متعارضتين تعبيراً عن تعاضد أهل الكويت وتلاحمهم. أما الأعمدة فقد كانت قواعدها عبارة عن رمز لآثار جزيرة " فيلكا " لإبراز جزء مهم من التاريخ الحضاري للكويت. لقد كان بيتا كويتيا خالصا. وقد أعرب سمو الأمير عن سعادته بهذا البيت وتم نصبه في قصر بيان واستقبل فيه عدداً من الشخصيات المهمة من بينها الرئيس كلينتون عندما قام بزيارة الكويت، وكرم المشاركين فيه أو بالأحرى كرم الأكف التي عملت في نسج البيت فأهداها أكفا ذهبية. إلى هنا وينتهي حديثناعن الوفاء. الذين وفوا للأرض والوطن والذين وفو الذكرى الشهادة والتضحية. لقد أحسن الأولون التضحية وأحسن أهلهم من أبناء الوطن الرعاية وبقي مكتب الشهيد رمزاص لفترة عصيبة عاشتها الكويت وخرجت منها- كالعنقاء- في بعث جديد أكثر شبابا وأكثر قدرة على العطاء وبذاكرة حية تتسامح ولاتنسى. لاتنسى الذين أساءوا إليها.. وتحمل في عيونها جميل كل من ضحى من أجلها.