التاريخ والآثار... تكامل أم تفاضل؟!

  التاريخ والآثار... تكامل أم تفاضل؟!
        

إذا كان الإنسان يوصف أحياناً بأنه صانع التاريخ,
فإن المؤكد أنه أيضاً نتاج لهذا التاريخ نفسه.

           التاريخ نظام معرفي لازم الوجود الإنساني في الكون, وشارك الإنسان في رحلته عبر الزمان, وتأثر بما جرى على الإنسان نفسه من تطوّرات خلال هذه الرحلة الطويلة التي لم تكتب فصولها النهائية بعد. فمنذ الأزل, كان توق الإنسان شديداً لمعرفة ماضيه وتسجيله.

          ولعل هذا هو ما جعل الباحثين في الدراسات التاريخية يصفون التاريخ بأنه أكثر فروع العلم الإنساني ارتباطاً بالإنسان واقتراباً منه. وإذا كان يحلو للبعض أن يصف الإنسان بأنه "كائن تاريخي", فإن المقابل الموضوعي لهذه العبارة هو أن "التاريخ علم إنساني": بمعنى أن التاريخ هو العلم الذي يرتبط بالإنسان ويجري وراءه عبر عصور الزمان, محاولاً أن يفهمه وأن يُفهمه حقيقة الوجود الإنساني في الكون, كما أن التاريخ لا يسجل رحلة الإنسان في الزمان وحسب, ولكنه يحاول البحث عن تفسير يشرح الماضي وينير الحاضر, ويستشرف آفاق المستقبل. هذا التلازم بين الإنسان والتاريخ كشف عن نفسه في جوانب كثيرة: فمنذ البداية, اهتم الإنسان بتسجيل قصته في العالم. وما رسوم الكهوف التي تركها الإنسان الأول إلا محاولة باكرة في هذا السبيل. كذلك لجأ الإنسان إلى التاريخ لكي يحكي له عن ماضيه وعن أصول الأشياء والأفكار والنظم, ولما كان التاريخ لايزال يحبو في حجر الأسطورة, فقد جاءت الروايات التاريخية الأولى مثقلة بالأسطورة حتى قال بعض الباحثين إن الكتابات التاريخية الأولى هي أجرأ الأساطير.

خطوات ثابتة

          وانتقل الإنسان في مدارج المدنية والحضارة من عصر إلى عصر, فعرف الكلمة المكتوبة والنار والعجلة, واستأنس النبات والحيوان, وبنى القرى والمدن, وأقام المجتمعات, وشرع القوانين, واهتدى إلى الحكومة والدولة, وتنوّع نشاطه في الكون وازدهر, إعماراً وحرباً, فنّاً وأدباً وعلماً, ديناً ولغة, بناء وزراعة وصناعة, وابتكر وجدّد, وثار وتمرّد, وأحرق ودمّر, ثم عاد ليخطو صوب الحرية والتقدم. وفي هذا كله طوّر الإنسان أدواته ونظمه المعرفية, وتطوّرت معه. وتخلص العلم رويداً رويداً من الأوهام والانحيازات, وتقدم صوب المعرفة الحقّة بخطوات أكثر ثباتاً. وتطوّرت علوم الإنسان ومعارفه حتى ملكه وهم "المعرفة اليقينية", في القرن التاسع عشر, ثم عاد ليراجع علومه ويطوّرها ويتطوّر معها حتى ظن الإنسان أنه, بالعلم, على كل شيء قدير.

          ولم يكن التاريخ, بطبيعة الحال, استثناء من ذلك التطوّر الطويل والمثير الذي خضعت له سائر علوم البشر, ومن رحم الأسطورة خرج التاريخ إلى رحاب العلم. ومن دائرة الحكاية والسرد, خرج إلى عالم السببية باحثاً ومنقّباً وطامحاً إلى الاهتداء لقوانين تفسّر سر الإنسان في الكون. هذه الرحلة الطويلة التي قطعتها المعرفة التاريخية, منذ نشأتها في رحم الأسطورة حتى تطوّرها العلمي المثير في العقود الأخيرة, كان هدفه معرفة الإنسان في حياته الاجتماعية, وداخل الإطار العام لثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه. ولم يكن ممكناً أن تتطور المعرفة التاريخية في جانب واحد معـين دون أن تتطور في سائر جوانبها. ومن ثم, فإن فلسفة التاريخ التي تبحث في اتجاه حركة التاريخ, والقوى الفاعلة في هذه الحركة, ومضمون التاريخ ومغزاه كانت تتطوّر بشكل يوازي تطوّر مناهج البحث في الدراسات التاريخية, والتي كانت تهدف إلى تطوير كيفية الحصول على المعلومات من المصادر المتاحة وتحليلها, وعرضها, ثم محاولة كشف العلاقة السببية داخلها, وصولاً إلى استنتاجات قد تفيد في تحقيق الهدف النهائي مـن الدراسة التاريخية.

          وفي الوقت نفسه, كانت النقلة النوعية في مناهج البحث مصحوبة باتساع مدى المصادر التي يعتمد عليها المؤرخ في استرداد الحدث التاريخي من ذمة الماضي. وفي هذا الصدد, ظهرت الآثار لتسد الفجوة المعرفية بين بداية الوجود الإنسان في الكون, وبداية التسجيل المكتوب لقصة هذا الوجود. وصار مصطلح "ما قبل التاريخ" لا يعني شيئاً أكثر من "ما قبل التاريخ المكتوب" بل إن الاهتداء بالآثار في رواية الأحداث التاريخية صاحب الكتابات التاريخية منذ فترة طويلة, وقبل ظهور علم الآثار باعتباره علماً منظّماً في العصر الحديث.

          فقد كتب مؤرخون كثيرون عن المباني الأثرية التي خلفها السابقون. وصارت جهود علماء الآثار وكشوفاتهم بديلاً مناسباً عن التسجيلات التاريخية المكتوبة, بل إنها في أحيان كثيرة كانت تمدّنا بمعلومات غفلت, أو تغافلت عنها, المصادر الأدبية التقليدية, وتنوّعت مصادر المعرفة التاريخية وصارت أكثر ثراء بفضل ما وفّره علم الآثار من معلومات تاريخية. ومن ناحية أخرى, حدثت نقلة كمية في مجال التراكم المعرفي داخل علم التاريخ نفسه. وقد أدى هذا الوضع إلى فرض نمط من التخصص في الدراسات التاريخية بحيث انقسمت إلى فروع يهتم كل منها ببحث أنماط التطوّر الإنساني عبر التاريخ على مستوى بعينه, فظهر التاريخ الاجتماعي, والتاريخ الاقتصادي والتاريخ السياسي, والتاريخ العسكري, والتاريخ الفني, والتاريخ الثقافي, وما إلى ذلك.

          ومع هذه التطورات, كان على المشتغلين بالدراسات التاريخية أن يطوّروا مناهجهم وأدواتهم البحثية, وكان كل تطوّر على هذا المستوى يدفع بالدراسات التاريخية إلى تطوّر جديد. وهكذا كانت مناهج البحث, ومصادر الدراسة التاريخية في علاقة جدلية بعلم التاريخ نفسه. ودخلت هذه الخطوات العقلية والاستدلالية التي اصطلح على تسميتها بـ "المنهج" في بنية العلم الأساسية, ولم تكن مجرد ممارسة عقلية منفصلة عن علم التاريخ الذي حمل تجربة الحضارة الإنسانية وقصة الإنسان على الأرض - والحاصل أن أركان المعرفة التاريخية جميعها قد خضعت لنوع من التفاعل الداخلي يحتّم علينا رصد مظاهره, أو رصد بعضه على الأقل.

          وربما يكون مناسباً أن نتخذ من آثار عصر سلاطين المماليك في مصر دليلاً على أهمية الآثار في إثراء مصادر البحث التاريخي.

زاوية الرؤية

          لقد مدّت الاكتشافات المهمة التي توصل إليها علم الآثار نطاق معرفتنا التاريخية بالنشاط الإنساني إلى أغوار سحيقة في الماضي لم يكن ممكناً معرفة شيء عنها اعتماداً على المصادر المكتوبة وحدها. وعلى أي حال, فإن علم الآثار, وعلم الأنثروبولوجي, قد أمدّنا بقدر من المعلومات عن سائر جوانب حياة الإنسان قبل الكتابة يفوق كثيراً ذلك القدر الذي وفّرته المصادر المكتوبة عن فترات أكثر حداثة, ومن ثم لم يعد مقبولاً أن نستخدم الاصطلاح المضلل "ما قبل التاريخ", إلا إذا كان المرء يقيّد مفهومه للتاريخ في إطار كونه فرعاً من فروع الأدب, والأهم من ذلك أن دور علم الآثار في إثراء المعرفة التاريخية لم يتوقف عند حدود فترة ما قبل الكتابة, ولكنه امتد إلى كل الفترات التاريخية ليمثّل مصدراً رئيسياً من مصادر المعرفة التاريخية.

          ولست أتصوّر أن الباحث في تاريخ مجتمع ما يمكن أن يعتمد على المصادر التاريخية المكتوبة وحدها لفهم هذا المجتمع, فالكتابات التقليدية التي كتبها المؤرخون كتبت بقصد أن تكون "تاريخاً" أي لكي تسجّل للأجيال القادمة شهادة كتابها على عصرهم, ومن ثم فإنها مشوبة بكل عيوب "القصد" و"التعمّد", فضلاً عن أنها كتبت بعد وقوع الأحداث وتلوّنت بوجهة نظر كاتبها, أو على الأقل بزاوية الرؤية التي ينظر فيها إلى الأحداث, وهذا ما يجعل من كتابات المؤرخين مجرّد شهادات, أو رؤى جزئية, تكشف عن جانب ولكنها لا توضح الجوانب كلها. ولذلك فإن الباحث في كتابات المؤرخين لابد أن يعمد إلى المقابلة والتدقيق والتحقيق في محاولة لإعادة بناء صورة الماضي.

          بيد أن التطوّرات المهمة التي جرت في مجال الدراسات التاريخية جعلت مصادر المؤرخ تمتد لتشمل التراث الشعبي, والفن, والأدب, والشفاهيات, فضلاً عن الآثار بكل أشكالها ومستوياتها, وربما امتازت هذه المصادر بميزة أساسية هي أنها لم تكن موجودة بقصد أن تكون تاريخاً, ولكنها في معظم الأحيان جاءت نتاجاً تلقائياً عفوياً مثل الموروثات الشعبية القولية والتشكيلية - بشتى صنوفها - أو كان الهدف منها اجتماعياً, أو ثقافياً, أو دينياً مثل المنشآت الأثرية "الأسواق والخانات والقياسر والأسبلة والمساجد والمكاتب".

          صحيح أن بعض الآثار قصد بها أن تكون نوعاً من التاريخ, أو إعطاء انطباع ما للأجيال القادمة عمّن شادها. ولكن أنماطاً أخرى كثيرة من الأعمال الفنية ذات الاستخدام المنزلي, أو الحرفي, أو المهني تكون ذات دلالات مهمة بالنسبة للمؤرخ العامل في حقل التاريخ الاجتماعي.

          إن الناظر في تراث عصر سلاطين المماليك والعصر العثماني من وجهة نظر الآثار, لابد أن يخرج بانطباع أولي مؤداه أن هذا العصر من عصور التديّن الشديد من ناحية, والعظمة والرفاهية من ناحية أخرى. بيد أن النظرة المتأنية سوف تكشف عن حقائق مناقضة تماماً للانطباع الأولي, ذلك أن كثرة المنشآت والعمائر التي خلفها عصر سلاطين المماليك كانت قناعاً سياسياً وواجهة دينية لحكم قام على أساس أن "الحكم لمن غلب" ومقارنة المصادر التاريخية بالآثار التي بقيت من ذلك العصر تكشف عن أن الواجهة الدينية كانت ضرورة سياسية في بداية العصر لتبرير حكم أولئك المجلوبين عبيداً في طفولتهم, ثم باتت "عادة" سياسية لا تعني شيئاً, بل إن الكثير من هذه العمائر بُنيت بالمصادرة, وباستخدام السخرة, والاستيلاء على ممتلكات الناس "انظر إلى ذلك المسجد الذي بناه أحد السلاطين على أرض مغتصبة, واستولى على الأبواب والأعمدة من مساجد أخرى, ثم سخر الناس بالقوة في العمل لبنائه, فأسماه الناس في القاهرة, على سبيل التورية والسخرية, المسجد الحرام".

عظمة أم انهيار?

          إن المصادر الأخرى تحدّثنا عن الحياة الاجتماعية في مصر زمن سلاطين المماليك لتكشف عن حقيقتين مهمتين: أولاهما أن التديّن لم يكن من شيم حكّام ذلك الزمان بشكل عام, وثانيتهما أن الرفاهية والفخامة والأبّهة كانت وقفا على الحكام ولم تكن من نصيب المحكومين في ذلك الزمان أيضاً.

          هكذا, إذن, يمكن للآثار أن تكون مصدراً مهماً من مصادر البحث التاريخي بشرط ألا نأخذها كما هي, وأن نحاول "قراءتها" في ضوء المصادر الأخرى. ومن جهة ثانية, فإن الملابس وأدوات الزينة, والأدوات المنزلية, وأدوات الكتابة, وجلود الكتب, والسيوف, والأدوات المعدنية, والبيوت, والأثاث... وما إلى ذلك يمكن أن يقدم صوراً حيّة وصادقة عن المجتمع الذي نهتم بدراسته, والآثار الكثيرة التي تمتلئ بها مصر من العصر المملوكي والعصر العثماني تقدم لنا زاداً مهماً لدراسة الفن, والحرف, والثقافة, والبناء الاجتماعي وأحوال الأسرة, والدور الاجتماعي للفرد والطائفة, ومكانة المرأة وأحوالها, فضلاً عن الذوق العام ومدى رفاهية, أو عدم رفاهية المجتمع.

          واللافت للنظر حقاً أن الآثار المتعلقة بالناس في حياتهم اليومية عادة ما تشكّل مصدراً مباشراً وسلساً للمؤرخ يستقي منه معلومات كثيرة عن المجتمع الذي يدرسه, فالمنازل تكشف الكثير عن حياة الأسرة والعادات الاجتماعية, ومكانة المرأة, وعلاقة الأسرة بالمجتمع من حولها, كما أن المصنوعات الخشبية تكشف عن جوانب أخرى. وينسحب هذا القول على كل الآثار المتعلقة بالجوانب الاجتماعية, فإذا ما ارتبطت الآثار بالحاكم, كان فيها قدر كبير من الاصطناع المراوغ, والرغبة الكاذبة في إعطاء انطباعات تخالف الحقيقة, فكم من آثار عظيمة نسبت لحكّام أذاقوا شعوبهم مرارة الحرمان والذل وكرّسوا كل الموارد العامة لذواتهم. وعلى المؤرخ الذي يتعامل مع مثل هذا النمط من الآثار أن يقارن ما تقدمه من معلومات بما هو متوافر في المصادر التاريخية الأخرى.

          وربما يكون من المناسب أن نقترح دراسة آثار السلطان الناصر حسن بن قلاوون, والسلطان قنصوة الغوري لتبيان مدى التناقض بين العظمة الظاهرة في مدرسة السلطان حسن, والوباء الذي تعرّضت له البلاد على مدى عامين في حكمه نزل بالبنية السكانية إلى درك مخيف, كما أدى على المدى الطويل - مع أسباب أخرى - إلى انهيار الدولة المملوكية, كما أن مجموعة الغوري لا تنسجم أبداً مع حقيقة أن حكمه كان قد انتهى بالفعل قبل معركتي مرج دابق والريدانية. بسبب خراب موارد البلاد الاقتصادية, وتدهور المجتمع, وتداعي البناء السياسي للدولة المملوكية.

          أما ما يتعلق بالمجتمع نفسه, فإننا نقترح دراسة عدد من الآثار المتعلقة ببعض الحرف, مثل تكفيت النحاس بالذهب والفضة, وتطعيم الأخشاب, وتزيين الأثاث المنزلي وغيرها من حرف الرفاهية لكي نرى أن عدداً كبيراً من هذه الحرف كان قد اختفى قبل الغزو العثماني لمصر بثمانين عاماً على الأقل, ولكي نضع أيدينا على حقائق التطوّر التاريخي للمجتمع المصري طوال عصر سلاطين المماليك.

 

قاسم عبده قاسم