فتحي رضوان.. أو السياسة كأخلاق

   فتحي رضوان.. أو السياسة كأخلاق
        

فتحي رضوان .. رجل من عصر مختلف حيث الأخلاق سلوك
وأسلوب حياة, وحيث مصلحة الوطن مبدأ لا حياد عنه.

           كلما حل موعد ذكرى هذا الرجل الفذ, السياسي والكاتب المصري الكبير فتحي رضوان, قلت لنفسي: "ما أحوجنا إلى المواظبة على الاحتفال بذكرى رجال من نوع فتحي رضوان, ليس بالضبط من باب الاعتراف بالجميل, ولكن أملاً في صيانة بعض القيم المهددة بالزوال".

          ذلك أني أخشى بالفعل, أن يكون كثير مما كان يلتزم به فتحي رضوان من مبادئ آخذاً في الانحسار, ليس فقط من حياتنا السياسية, بل ومن ذاكرتنا أيضا.

          وهناك خوف حقيقي من أن يأتي اليوم الذي نروي فيه للجيل الأصغر سنا بعض المواقف النبيلة التي اتخذها هذا الرجل, فيفغرون أفواههم, ليس إعجابا أو احتراماً, ولكن من الدهشة وعدم الفهم.

          بل إن فتحي رضوان يروي هو نفسه في كتابه "72 شهراً مع عبدالناصر" كيف أنه كان أحيانا يتخذ موقفا معينا, مدفوعاً بفطرته السليمة, ودون تفكير أو تقليب نظر فيما هو الموقف الصحيح الواجب الاتباع, فإذا ببعض زملائه من أعضاء مجلس الوزراء يهنئونه على شجاعته, وهو الذي كان يظن أن الموقف الذي اتخذه لا يحتاج إلى شجاعة على الإطلاق, بل لم يكن يتصور أي موقف غيره.

          أما الآن, فهناك خوف حقيقي من أن يأتي اليوم الذي نجد فيه من يصف هذه المواقف لا بالشجاعة, بل بالسذاجة, بل وقد يكون هذا اليوم قد حل بالفعل. فما أجدرنا إذن أن نعيد ونزيد الكلام عن مآثر فتحي رضوان وأفضاله, أملاً في حماية ذلك الجزء الشريف من ذاكرتنا من الضياع.

          من بين خصال فتحي رضوان العظيمة, والآخذة في الزوال مع الأسف, دأبه على التعامل مع السياسة من موقف أخلاقي, والنظر إلى المشكلات السياسية التي تدور حوله وكأنها مشكلات أخلاقية.

          إن الفكرة التي تزداد شيوعا, يوما بعد يوم, من ضرورة التعامل مع السياسة بـ "نظرة نسبية", أو ما يسمى أحيانا بـ "بالمرونة" أو بضرورة "التأقلم", أو "مجاراة روح العصر", ومزايا التغير في عالم لا نمل من تسميته بـ "العالم المتغير", وضرورة نبذ "التحجز والتزمت".. الخ, إن كل هذه النعوت كان لابد أن تبدو غريبة كل الغرابة لرجل مثل فتحي رضوان, الذي لم يكن ليدور بخلده قط أي شك في أن المبادئ الاخلاقية الصحيحة صحة مطلقة, لا تحتمل مرونة, ولا يعني التمسك بها تحجراً أو تزمتا, ولا تتطلب تغيرا مهما كان العالم متغيرا, ولا تحتمل الاستثناء, بل هي تموت بالاستثناء, وتقتل بالمرونة, والقول بغير ذلك ما كان يستحق من شخص كفتحي رضوان إلا الاحتقار.

الكرامة الشخصية

          من المبادئ المطلقة التي تطالعنا باستمرار من مطالعة كتبه في سيرته الذاتية, أو مما نعرف من مواقفه السياسية عضوا في حزب, أو وزيراً في عهد عبدالناصر, أو كاتباً في الصحف في عهد السادات أو مبارك, فإن الكرامة الشخصية أهم من المنصب ومن المال, وأن الإهانة لا يمكن قبولها, أيا كان الشخص الذي يوجه الإهانة إليك, وأيا كان الثمن الذي سوف يكلفك رفضها, ومنها أن العدل في معاملة الناس ضروري  ولو أدى إلى الإضرار بشخص قريب إليك أو عزيز عليك, ومنها أن النفاق رذيلة, مهما كان الدافع إليه والعائد منه, وأن الثناء إذا كان من باب النفاق أمر كريه وغير محتمل حتى إذا كان هو نفسه الذي يوجه إليه الثناء, وأن رضاك عن نفسك أهم من رضا الناس عنك, وأن الحق يجب أن يقال حتى لو ترتب على قوله ضرر لقائله, وأن الحق يستمد قوته من ذاته وليس من شخصية قائلة, ومن ثم فإنه يجب أن يحترم ولو أتى على لسان شخص بسيط غير ذي نفوذ, وأن الظلم يجب أن يعترض عليه ولو أتى من صاحب السلطة.

          من هذه المبادئ أيضا, أن الكرامة الوطنية أهم من المعونات الاقتصادية, وأن مصلحة الوطن يجب أن تقدم على المصلحة الشخصية.

          هذه كلها ليست أقوالا مأثورة قالها فتحي رضوان, بل هي بعض ما يستشف من مواقفه وفكره.

          وهذه المبادئ الأخلاقية وأمثالها, هي في نظر فتحي رضوان مبادئ لا تفقد صحتها مع تغير الوقت, ولا تكون صحيحة في مناسبة دون أخرى, بل هي صحيحة في كل زمان ومكان, وواجبة الالتزام في كل العصور وكل البلاد.

          والمؤمنون بهذه المبادئ الأخلاقية يفهم بعضهم بعضا دون أن يحتاج أحدهم إلى أن يقدم للآخرين حججاً لإثبات صحتها, ذلك أنها دخلت في تكوينهم النفسي فأصبحت بديهية واضحة بذاتها, شأنها في ذلك شأن حب الإنسان لأمه أو أبيه, لا يحتاج المرء فيه إلى من يذكره به أو يدلل على صحته.

          الأمر هنا لا يدور في الحقيقة حول صحة الموقف أو خطئه, نفعه أو ضرره, بل هو أشبه بالفرق بين الرائحة الطيبة والرائحة الخبيثة, بين المنظر الجميل والمنظر القبيح.

          فكما أنه يكاد أن يكون من المستحيل أن يقدم المرء دليلاً أو أسبابا لكون هذه الرائحة أطيب أو أخبث من تلك, أو لكون هذا المنظر أجمل أو أقبح من ذلك, فإن الموقف الأخلاقي كذلك, لا يستند إلى أدلة منطقية, بقدر ما يستند إلى إحساس داخلي.

          والسؤال الذي أريد أن أطرحه هنا هو: لماذا يبدو التمسك بهذه المبادئ الأخلاقية في ميدان السياسة آخذا في الانحسار, ليس في بلادنا وحدها بل وفي العالم ككل?

          لماذا تبدو المواقف الأخلاقية وكأنها تفقد بديهيتها, أكثر فأكثر? ولماذا يبدو الالتزام بها مدهشا وباهرا وكأن الأصل هو غير ذلك, والتمسك بها هو الاستثناء?

          لدي في الحقيقة سببان, لا ينفصل أحدهما عن الآخر, والأرجح أنهما نابعان من مصدر واحد, أحدهما يتعلق بالتطور الذي لحق بالسلطة, والآخر يتعلق بالتطور الذي لحق بجمهور الناس.

          أما عن التطور الذي لحق بالسلطة, فأظن أن من الواجب الاعتراف بأنه على الرغم من الاعتقاد الشائع بأن العالم يعيش في مرحلة تتسم بانتصار الديمقراطية وازدياد احترام حقوق الإنسان, فإن الحقيقة هي عكس هذا بالضبط.

          إن العالم قد شهد, طوال القرن الماضي على الأقل, اتجاها مستمرا نحو ازدياد جبروت السلطة, واتساع ما تملكه من أساليب القهر وفرض إرادتها على الناس, بل وازدياد ميلها إلى استخدام هذه الأساليب.

          كان الفرد في مطلع حياة فتحي رضوان, أكثر قدرة على الاستقلال عن السلطة, وأكثر جرأة على تحديها والوقوف في وجهها, دون أن يفقد الأمل في نجاحه في هذا التحدي.

          كان أصغر تجمع للناس أو أبسط مظاهرة تسبب الرعب للحكومة, وكان من الممكن لهذه المظاهرة أن تسقط حكومة ظالمة وتأتي بأخرى.

          كانت الأسلحة التي تملكها السلطة ولا يملك الناس مثلها قليلة, وكانت قدرة السلطة على جمع المعلومات وملء الملفات عن هذا الفرد المعارض أو ذاك محدودة جدا, كما كانت قدرتها على غسيل مخ الناس محدودة جدا أيضا.

          ومن ثم لم يفقد أصحاب الحق الأمل في الانتصار على سلطة ظالمة, مما منحهم شجاعة إضافية, تزيد على شجاعتهم الطبيعية.

          وأما عن التطور الذي لحق بجمهور الناس, فإننا الآن نعيش عصراً سمي بحق "عصر الجماهير" ولكني استسمحكم في تسمية أخرى, إذا غفر لي المخدوعون بالديمقراطية الشكلية والمظهرية, وهي تسمية بـ "عصر صغار الناس".

          إن صغار الناس اليوم لا يفرضون فقط نوع ما ينتج من سلع, ونوع ما نراه من مسلسلات, وما نشجعه من أغاني, وما نقرأه من صحف, وما يصدر من كتب, بل إنهم يفرضون أيضا نوع الأخلاق السائدة.

          نحن الآن, بفضل صغار الناس نعيش في عصر "العلاقات العامة", وتحليل العائد والنفقات ودراسات الجدوى, عصراً أصبح فيه "التسويق" علما يُدرس في الجامعات, بصرف النظر عما يجري تسويقه, وأصبح فيه الحاصلون على أعلى الدخول والثروات هم أكثر الناس كفاءة في الترويج للسلع أو الأشخاص.

          كان المصلحون في الماضي, قبل أن يأتي عصر صغار الناس, يدعون إلى "إصلاح المجتمع" أو إلى "النهضة", فأصبحوا الآن يدعون إلى "التنمية", وهي كلمة لا تشير إلا إلى الحجم والعدد.

          نحن نعيش في عصر كادت تختفي فيه من الاستعمال اليومي كلمات مثل الفضيلة والرذيلة, والخير والشر, وحل محلها كلمات المصلحة والمنفعة, المكسب والخسارة, العمل المنتج وغير المنتج.. إلخ.

          هناك بالطبع علاقة وثيقة بين زيادة جبروت السلطة, وزيادة جبروت صغار الناس, فوراء كل منهما التقدم التكنولوجي.

          إن التقدم التكنولوجي أشبه بوابور الزلط الثقيل, الذي يسوي بين الناس حقا, أو على الأقل, يقلل بشدة من مظاهر التفاوت بينهم, ولكنه أيضا يسحق الجميع سحقا.

          زادت قدرة الجميع على التمتع بثمرات النمو الاقتصادي والتعليمي, ولكن الجميع أيضا يخضعون الآن أكثر من أي وقت مضى, لقهر السلطة: سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

          العلاقة وثيقة إذن بين الظاهرتين: نمو قوة السلطة ونفوذ صغار الناس, وكأن الإنسان قد عرضت عليه صفقة لم يكن بمقدوره أن يرفضها:

          سأمنحك متعة الاستهلاك والمعرفة, ولكني سأسلبك حريتك.

          سأعطيك الخبز والسيرك, ولكني سأنفرد بتقرير مصيرك.

          سأعطيك كل مظاهر الحرية الاقتصادية والسياسية والثقافية ولكني سأسلبك مضمونها الحقيقي.

          إن لك حرية الاختيار بين آلاف السلع, وعشرات الألوان والأصناف, وبين أحزاب سياسية عدة, وبين قنوات تلفزيونية وفضائية لا حد لها, ولكن لا فرق حقيقيا بين صنف وآخر من هذه السلع, ولا بين حزب وآخر, أو بين قناة تلفزيونية أو فضائية وأخرى, كلها تشبع نفس الأغراض الدنيا, وكلها تستجيب لأدنى الغرائز.

          ذلك أنه من غير الممكن أن يلبي الإنتاج, سواء كان إنتاجاً مادياً أو سياسياً أو ثقافياً, طلب الجماهير الغفيرة دون أن ينحط هذا الإنتاج إلى مستوى القاسم المشترك الأعظم.

          وهذا هو بالفعل مستوى الذوق السائد في معظم السلع المنتجة, ومحتوى البرامج السياسية لأغلب الأحزاب, والمستوى الثقافي والمعرفي للغالبية العظمى من القنوات التلفزيونية.

استنارة وإخلاص

          كيف يمكن أن نتصور مع مثل هذا النمو في قوة السلطة, وفي تأثير صغار الناس, أن تستمر النظرة إلى السياسة كأخلاق?

          إن هذه النظرة إلى السياسة ليس مما يعجب السلطة ولا مما يعجب صغار الناس, إنها لا تعجب السلطة لأن أصحاب هذا الموقف يرفضون الانحناء لرغبات السلطة وأوامرها ونواهيها, ولا تعجب صغار الناس لأنها تفضحهم وتشعرهم بمدى تدني طموحاتهم.

          في كتاب "72 شهرا مع عبدالناصر" وليبين فتحي رضوان هذين الأمرين بمنتهى الوضوح, بل لعل في هذا تكمن القيمة الأساسية للكتاب.

          أن السلطة مهما كانت مستنيرة ومخلصة في سعيها لتحقيق الصالح العام, كما كانت بالفعل سلطة عبدالناصر, لا يمكن أن تصبر طويلا على هذه الأرستقراطية الأخلاقية التي كان يمثلها فتحي رضوان أفضل تمثيل.

          وصغار الناس, المتعلقون بأهداب السلطة والطامعون دائما في التقاط الفتات المتساقط من موائدها, لا يمكن لهم العيش بالقرب من رجل أرستقراطي الأخلاق, مثل فتحي رضوان, دائم التذكير لهم بنقائضهم, وكذلك ـ وهذا هو الأهم في نظرهم ـ دائم التذكير للسلطة بمدى وضاعتهم.

          كانت فكرة التكوين الحاسمة لفتحي رضوان, في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن, فترة رحيمة جدا وخفيفة الوطأة جدا, من الناحيتين: جبروت السلطة, ونفوذ صغار الناس.

          كانت حفنة من تلاميذ المدارس والجامعات قادرة على أن تبعث الخوف في قلب السلطة في ذلك الوقت.

          ولم تكن الدولة تحتكر مصادر الرزق مثلما أصبحت تحتكره فيما بعد, فكان من الممكن أن يجد المفصول أو المعزول بسبب مواقفه الاستقلالية, مصدراً يتكسب منه ويعينه على مواجهة الحياة هو وأسرته.

          وكان الناس يعرفون مواقف البطولة ويسمعون بها ويعوضون أصحابها عن أي عقاب قد تلحقه السلطة بهم.

          لم يعد الأمر كذلك في أواخر حياة فتحي رضوان, ولكنه كان قد قوي عوده وثبتت قدماه, فلم تكن أي ريح قادرة على اقتلاعه.

          كذلك لم يكن لصغار الناس في العشرينيات والثلاثينيات ما يتمتعون به اليوم من نفوذ وتأثير, كان تأثيرهم في نوع الإنتاج الثقافي الذي تخرجه المطابع أو تنشره الصحف أو تبثه الإذاعة تأثيرا محدوداً للغاية, وكذلك كان تأثيرهم ضعيفا في القرارات السياسية والإدارية, بما في ذلك تأثيرهم في البرلمان نفسه.

          لم يكن الأمر كذلك أيضا في أواخر حياة فتحي رضوان, حيث شهد في أواخر حياته عصر الجماهير الغفيرة, كبيرة الجسم وصغيرة العقل, ولكنه كان قد أصبح محصناً ضد أي أذى يمكن أن يصيبه به هؤلاء.

          وقد يقال بحق إن من حسن حظ فتحي رضوان أنه لم يشهد من هذا العصر أكثر مما شهد, لم يشهد من جبروت السلطة أكثر مما شهد, ولم يحط به من صغار الناس أكثر ممن أحاط به.

          لم يكن فتحي رضوان من أنصار انسحاب الروح من الحياة الاجتماعية والاقتصادية, بل كان على العكس من أنصار التأميم والقطاع العام وتدخل الدولة تدخلا صارما لتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية.

          ولكنه كان يعتقد أن هذا ممكن في ظل احترام آدمية الإنسان وكرامته, وفي ظل الاحترام الكامل لمبادئ الأخلاق.

          ولكن ها نحن الآن نعيش في عالم تنسحب فيه الدولة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية, ويلغى التأميم والقطاع العام, دون احترام لآدمية الإنسان وكرامته, أي ها نحن نعيش في دولة رخوة, إذا تعلق الأمر بحماية حقوق الإنسان وكرامته, ودولة صلبة إذا تعلق الأمر بعكس ذلك بالضبط.

          كذلك كان فتحي رضوان من أكثر الناس انتصارا لحقوق الفقراء وبسطاء الناس, ومن أشد الناس إخلاصاً للديمقراطية السياسية, ولكنه كان أرستقراطي الأخلاق والذوق.

          كان يظن أن من الممكن احترام حقوق بسطاء الناس وتلبية حاجاتهم الأساسية والبيولوجية, دون أن تتحكم هذه الحاجات البيولوجية نفسها في تشكيل مستوى الثقافة والتعليم والإعلام.

          ولكن ها نحن نرى صغار الناس يفرضون نوع الثقافة والتعليم والإعلام الذي يتلاءم مع أدنى التطلعات والغرائز, دون أن ننجح حتى في إشباع الحاجات الإنسانية لشرائح واسعة منهم.

          كان فتحي رضوان يظن أنه من الممكن أن تصبح السياسة أخلاقاً ولكن ها قد عشنا لنرى الأخلاق وقد كادت تتحول إلى سياسة, فما أجدرنا بتذكر فتحي رضوان من حين لآخر, والتأمل في تاريخه وسيرته, أملاً في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

 

جلال أمين   

 
 




فتحي رضوان