التراث المسروق

التراث المسروق

المؤلف: جورج جي. إم . جيمس
ترجمة: شوقي جلال

الكتاب صدر عن المشروع القومي للترجمة الذي يتبناه المجلس الأعلى للثقافة في مصر. ومنذ صدور الكتاب وهو شاغل مؤرق لكل من تهمه الحقيقة! وهو كتاب صدمة بتعبير د. شوقي جلال! لأنه يطيح بإحدى البديهيات التي ترسخت في الأذهان وأضحت إطاراً فكرياً حاكماً ننطلق منه وننظر إلى الأحداث على هديه فإن خالفته الوقائع كذبنا الوقائع وعدنا إلى بديهيتنا إماماً مطلقاً له الحاكمية!! الكتاب صدمة إذ يكشف لنا أسطورة كبرى ومؤامرة حكمت التاريخ واستبدت بفكر الإنسانية.

يقول المؤلف في مقدمته: "عليك أن تعرف الحقيقة وسوف تجعلك الحقيقة حراً"! إن أول درس في الإنسانيات هو أن نجعل الناس يدركون دورهم وإسهامهم في الحضارة. والدرس الثاني هو تعليمهم أمور حضارات الآخرين! وعن طريق معرفة الحقائق بشأن حضارات كل شعب على حدة سوف يتولد بالتالي فهم أفضل فيما بينهم وتقدير صائب سديد من بعضهم للبعض الآخر.

قسم جورج جيمس كتابه إلى مقدمة وجزأين! يشمل الجزء الأول ثمانية فصول والجزء الثاني فصلاً واحداً.

وقدم خلال فصول الجزء الأول حججه وأسانيده على أسبقية الحضارة المصرية والفلسفة المصرية متمثلة في نظام الأسرار المصري على الفلسفة اليونانية.

يقول المؤلف في فصل بعنوان "الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة": "كان اليونانيون يسمون تعاليم نظام الأسرار المصري "صوفيا" وتعني تعليم الحكمة".

وقد انتقلت هذه التعاليم إلى جزيرة ساموس ومنها إلى كروتون وإيليا في إيطاليا وأخيراً من إيطاليا إلى أثينا في اليونان وذلك عن طريق فيثاغورس والإيليين وفلاسفة أيونيا! ومن المعروف أن أيونيا كانت قلعة من قلاع نظم الأسرار المصرية كما يجب عدم إغفال أن الفترة الممتدة من حياة طاليس إلى حياة أرسطو "640 ق.م ـ 322 ق.م" كان فيها الأيونيون رعايا مصريين ضمن الإمبراطورية التي حكمت شمال آسيا وبحر إيجة كله.

ومما يؤكد خلو التراث اليوناني من الفلسفة أن التاريخ يعرض الحياة والتعليم في القرون الأولى لفلاسفة اليونان باعتبارها صفحة بيضاء خالية من أي معالم أو إشارات! كما يعرض أحداث التاريخ باعتبارها ضرباً من التخمين مما أعطى العالم فكرة أن فلاسفة اليونان باستثناء الثلاثة الأثينيين "سقراط ـ أفلاطون ـ أرسطو" ربما لم يكن لهم وجود البتة! وربما لم يعلموا أبداً المبادىء المنسوبة إليهم!

فترة الحروب الأهلية

ويدلل المؤلف على أن الفلسفة كانت غريبة على اليونانيين فيقول: إن الفترة من طاليس إلى أرسطو كانت فترة حروب داخلية بين الدول / المدن ذاتها وفيما بينها وبين عدوهم المشترك الفرس! فكيف يتسنى بين هذه المخاوف والفتن والحروب أن تنشأ الفلسفة التي تحتاج أكثر من غيرها إلى الهدوء والسلام كما تحتاج إلى طبقة من ذوي الثراء والفراغ?. لم تكن العقبات التي حالت دون نشأة وتطور الفلسفة تتمثل في الحروب الأهلية المتكررة فقط "حرب البليبونيز "460 ـ 445 ق.م" و "431 ـ 421 ق.م" والدفاع المستمر ضد الغزو الفارسي بل وأيضا تعمد حكومة أثينا إبادة الفلسفة باعتبارها العدو الألد!!

يورد المؤلف شهادة ايزوكرات التي يقول فيها.. "على الرغم من كثرة الشرور الطبيعية التي تحدق بالبشرية فإننا أضفنا إليها الحروب والصراعات الأهلية ضد بعضنا البعض حتى بلغ الأمر حد إعدام البعض في مدنهم دون مبرر عادل فضلاً عن نفي آخرين مع زوجاتهم وأطفالهم! واضطر كثيرون بسبب البحث عن طعامهم اليومي إلى الموت وهم يقاتلون ضد شعوبهم من أجل خاطر العدو".

أليس من الغريب أن يكون موت أرسطو! الذي ورث كمية هائلة من الكتب بفضل صداقته للإسكندر! موتا للفلسفة اليونانية أيضاً! إذ سرعان ما تحللت بعد موته وتحولت إلى نظام من الأفكار المستعارة والملفقة. الحقيقة أن الإغريق رفضوا الفلسفة واضطهدوها بسبب أنها وافدة من الخارج وتشتمل على أفكار غريبة لا دراية لهم بها. لهذا حوكم "أنا كسوجراس" وهرب من السجن وحوكم "سقراط" وأعدم! ولاذ "أفلاطون" بالفرار إلى ميجارا ملاذ "إقليدس"! وحوكم "أرسطو" وهرب إلى منفى اختاره لنفسه. مثل هذه السياسة ستكون بغير معنى ولاهدف إذا لم تكن تشير إلى أن الفلسفة كانت غريبة على العقلية اليونانية.

نظام الأسرار المصري

أهم أهداف نظم الأسرار المصرية هو تأليه الإنسان! أي التشبه بالإله! وقد علمت الناس أن نفس الإنسان إذا ماتحررت من قيود البدن يمكن للمرء أن يصبح شبيها بالله! ويتصل بالأرواح الخالدة! ويعرف أفلوطين هذه التجربة بأنها تحرر العقل من وعيه المتناهي عندما يغدو متوحداً مع اللا متناهي! هذا التحرر ليس فقط حرية النفس من عوائق البدن بل وحرية النفس أيضاً من عجلة التناسخ أو إعادة الميلاد.

وقد اشتملت هذه التجربة على عملية متصلة من المجاهدات والرياضات لتطهير كل من الجسد والنفس.

ويرى بيتشمان أن نظام الأسرار المصري كانت له ثلاث مراتب "البشر الفانون" وهم الطلاب الذين يخضعون لفترة الاختبار ويجري تلقينهم العلوم وإن لم يعاينوا بعد تجربة الكشف الباطني.

"الأذكياء" وهم أولئك الذين عاينوا تجربة الكشف الباطني وتلقوا العقل الكوني.

"الخالقون أو أبناء النور" وهم الذين توحدوا أو اتحدوا مع الضوء أي تحقق لهم الوحي الروحي الحق.

وهذه المراتب يسميها "و. مارشال آدمز" في كتابه "كتاب السيد" بمراحل: التلقين ـ الكشف ـ الكمال.

لم يكن تعليم الطلاب يتألف فقط من تثقيفهم بالفضائل العشر بل يتألف أيضا من تلقينهم الفنون العقلية السبعة! كما كان هناك إذن خاص للالتحاق بنظام الأسرار الأعظم حيث يتعلم المريدون الذين أثبتوا كفاءة "فلسفة الخاصة"! وبذا يتم تثقيف المريد ليصبح شاهداً حياً للعقل الإلهي القدسي أو الليجوسي.

هذه هي النظرية المصرية عن الخلاص والتي تجعل المرء شبيهاً بالرب وهو على الأرض ومؤهلاً في الوقت نفسه للسعادة الأبدية. انتشرت مدارس تلقي الأسرار أو المحافل الصغرى في الأقطار الأخرى خارج مصر! وكانت تؤدي دورها وفقاً لتعليمات "الأوزير ياكا" أي المعبدأو المحفل الأعظم "معبد الأقصر في طيبة القديمة"! وكان كثيرا مايشار إلى هذه المدارس باعتبارها مذاهب خاصة أو فلسفية أو طقوسا دينية سرية! مؤسسوها من مريدي نظم الأسرار المصرية. كان المعبد الأيوني في ديديما ومحفل إقليدس في ميجارا ومحفل فيثاغورس في كروتونا والمعبد الأورفي في دلفي علاوة على مدارس أفلاطون وأرسطو! كل هذه كانت محافل صغرى يتولى المحفل الأعظم إدارة وتوجيه نظم الأسرار فيها كما يسمح بتبادل الزيارات بين المحافل لضمان تقدم الأخوة الأعضاء في العلوم السرية.

يقول أفلاطون في محاورة طيماوس: "إن الطامحين إلى المعرفة الصوفية قد زاروا مصر ليبدأوا حياة المريدين! وهناك قال لهم كهنة معبدسايس "إنكم أيها اليونانيون لستم سوى أطفال في نظام الأسرار" ولكنهم سمحوا لهم بالالتحاق بغية تحصيل معارف تؤهلهم للارتقاء في سعيهم للتقدم الروحي".

ومما له مغزى في هذا المقام أن اليونانيين اعتادوا النظر إلى معبددلفي باعتباره مؤسسة أجنبية! فلم يتعاطفوا معه بل وعمدوا إلى تدميره مما يعني أنه كان شعبة تتبع نظام الأسرار المصري. والجدير بالذكر أنه بعد احتراقه في 548 ق.م فإن مريديه لجأوا إلى المعلم الأكبر أحمس ملك مصر طالبين عونه فقدم لهم من الأموال! لإعادة بنائه! مايزيد على الحاجة ثلاث مرات!

أساتذة وتلاميذ

في فصل بعنوان "المصريون علموا اليونانيين" يتحدث المؤلف عن زيارات طلاب العلم من اليونانيين! فيروى أن طاليس زار مصر وتتلمذ على أيدي الكهنة الذين قبلوه مريداً مبتدئاً لتعلم الفلك ومساحة الأراضي وفن القياس والهندسة وفقه الإلهيات المصري! كما أن فيثاغورس سافر عدة مرات إلى مصر وقدمه الملك أحمس ـ بناء على توصية من صديق مشترك ـ إلى الكهنة! أولاً إلى كاهن هليوبوليس ثم إلى كاهن ممفيس وأخيراً إلى كاهن طيبة. وبعد أن أدى اختبارات عديدة من بينها "الختان" أجيز له الانضمام إلى جميع أسرارهم! وتعلم مذهب التقمص الروحي الذي لامثيل له في اليونان وعلم أسرار الموسيقى وقدم فدية إلى ربات الفنون عندما شرح له الكهنة خصائص المثلث قائم الزوايا!

وسافر ديمقريطس إلى مصر وقضى فيها خمس سنوات تتلمذ خلالها على أيدي الكهنة وخضع للشعيرة ذاتها "فلا أحد من المصريين سواء درس الهندسة أو بحث في أسرار الفلك تأتى له هذا مالم يجر عملية الختان" كما يقول "أوريجين" المصري!

هكذا كان حال التلاميذ اليونانيين إلى أن جاء غزو الإسكندر لمصر فاستولوا على مكتبة الإسكندرية ونهبوا ما فيها من كتب! ومن المعتقد أن هذه هي الطريقة التي حصل بها أرسطو صديق الإسكندر على كميات الكتب الهائلة التي زعموا فيما بعد أنه صاحبها ومؤلفها. لقد حول تلامذة أرسطو المكتبة إلى مركز أبحاث وجامعة مفتوحة لتعليم اليونانيين مستعينين بأساتذة مصريين بسبب صعوبة اللغة. ويذكر أن بطليموس الأول أصدر أمره إلى كبير الكهنة المصريين "مانيتو" ليدون تاريخ الديانة والفلسفة والعلوم عند المصريين! وأنجز مانيتو المهمة وأصبحت مؤلفاته هي المراجع الأساسية في جامعة الإسكندرية.

وبخصوص المنهج التعليمي في نظام الأسرار المصري يوضح المؤلف أنه كانت هناك ست مراتب للكهنة! كل مرتبة يتوجب على من فيها امتلاك عدد معين من كتب هرمس الـ 42! ويتعين على المراتب السابقة على مرتبة "المتنبىء" أن تعرف 36 من هذه الكتب وتشتمل على كل الفلسفة المصرية! أما الكتب الستة الباقية فيجب أن يعرفها إخوة مرتبة الباستوفوري.

كان المنهج التعليمي يشتمل على:
1 - الفنون العقلية السبعة التي تشكل أساس التثقيف لجميع المبتدئين وتشمل قواعد النحو والصرف والحساب والخطابة والجدل "أي العلوم الرباعية عند أرسطو!!" والهندسة والفلك والموسيقي "أي العلوم الثلاثية عند أرسطو أيضا".

2 - علوم كتب هرمس الـ 42

3 - علوم الآثار "الأهرامات ـ المسلات ـ العمارة ـ النجارة ـ الهندسة ـ المعادن إلخ".

4 - العلوم السرية "الرموز العددية ـ الرمزية الهندسية ـ السحر ـ كتاب الموتى ـ الأساطير ـ الحكم والأمثال"

5 - النظام الاجتماعي وحمايته "فقد كان الكهنة علاوة على هذا محامين وقضاة وموظفي دولة ورجال أعمال وتجارة".

وأي منصف إذا ماقارن بين هذا المنهج وبين الموضوعات الواردة في قائمة أرسطو أو أفلاطون فسيتضح له أسبقية هذا المنهج المصري فضلاً عن احتوائه على كل ماورد عند كل منهما.

البداية من هنا

يقول المؤلف أن فقه إلهيات ممفيس أساس جميع المبادىء المهمة في الفلسفة اليونانية.

وفقه إلهيات مدرسة ممفيس هو نقش على حجر محفوظ الآن في المتحف البريطاني ويحتوي على آراء المصريين القدماء بشأن الإلهيات والكوزمولوجيا والفلسفة! ويرجع تاريخه إلى عام 700 ق.م ويحمل اسم فرعون مصري يقرر فيه أنه استنسخ نقشاَ لأسلافه وقد أمكن التحقق من التاريخ الأصلي لفقه إلهيات ممفيس والذي يقع مابين 4000 ـ 3500 ق.م.

يتألف النص من ثلاثة أجزاء متكاملة! يستنتج من الجزء الأول أن:
أ - الماء مصدر كل شيء حي.

ب - الخلق إنجاز تحقق بفضل وحدة مبدأين خالقين بتاح وآتوم أي وحدة العقل "نوس" مع كلمة الخلق "لوجوس".

جـ - آتوم هو الصانع الأول أو الإله الوسيط في عملية الخلق.

د - المبادىء المتضادة تحكم حياة الكون.

هـ - عناصر الخلق هي النار "آتوم" والماء "نون" والتراب "بتاح" والهواء "تاتيجين".
وبذا يعتبر الجزء الأول من فقه إلهيات ممفيس المصدر الأول للفلسفيات اليونانية.

كما يستنتج من الجزء الثاني أن عملية الخلق هذه أسفرت عن:
أ - التاسوع أو وحدة الأرباب التسع في ربوبية واحدة.

ب - مبدأ الصانع البارىء

جـ - مبدأ الأرباب المخلوقة

د - مبدأ المحرك غير المتحرك

هـ - مبدأ الأضداد

و - الحضور في الكل والمعرفة المحيطة بالكل

ومن هذا يتضح من أين جاء "مبدأ خلق الأرباب" عند أفلاطون ومبدأ المحرك غير المتحرك عند أرسطو! وكذلك مبدأ العلة العاقلة أو العقل المفكر والمدبر المسئول عن حياة العالم الذي نسبته الفلسفة اليونانية إلى أناكساجوراس وسقراط وأفلاطون.

ويقرر المؤلف بشكل قاطع أن مذاهب الفلاسفة اليونانيين! كل على حدة! إنما هي أجزاء من تعاليم ذلك الفقه وهو مصدرها جميعاً.

ويذهب إلى أن الفروض العلمية الجديدة مثل الفرض السديمي عند لابلاس! والقول بوجود تسعة كواكب رئيسية حول الشمس منشؤهما آتوم الإله الشمسي المصري أو إله النار الذي يتطابق مع مفهوم الذرة في العلم الحديث! مما يتوجب معه طرح فقه إلهيات ممفيس للبحث العلمي الجاد! واعتبار السحر القديم مفتاحاً للتفسير والتأويل! ففي هذا الفقه أول نظرية تقول بمركزية الشمس للكون.

وفي الجزء الثاني من الكتاب والذي اقتصر على فصل واحد بعنوان "الإصلاح الاجتماعي من خلال فلسفة جديدة لتحرير إفريقيا"! يفصح المؤلف عن هدفه من الكتاب! وهو إرساء دعامة علاقات أفضل بين الأعراق عن طريق بيان حقيقة إسهام القارة الإفريقية في الحضارة الإنسانية. الكتاب إذن فلسفة وفاء وتحرير يرد الحق إلى أهله مؤكداً ذلك بالوثائق والأسانيد! ويحرر الشعوب السوداء من عقدة الشعور بالدونية كما يحرر الشعوب البيضاء من عقدة استعلاء كاذبة وهمية! ثم هو دعوة إلى الشعوب السوداء لكي تنهض تأسيساً على حقيقة تاريخها العريق واجتهاداً للحاق بركب العصر الحديث.

 

فريد أبوسعدة




غلاف الكتاب