اعتذار للمرأة الكويتية: كان حكمنا عليها متعجلا!

إذا كان في حرب الخليج شيء إيجابي، فإن الدور الذي قامت به المرأة. الكويتية خلال أيام الاحتلال العصيبة كان هو تلك المفاجأة الإيجابية التي أثارت اهتمام الجميع وخاصة علماء الاجتماع.

          كنت أرقبها على مدى ثلاث سنوات .. أتابع حركتها واهتماماتها، فلا أراها غير جزء من مجتمع الوفرة. بمعنى أكثر دقة: كنت أرى المرأة الكويتية جزءاً من مجتمع الاستهلاك والفراغ وآخر الصيحات في عالم الأناقة والجمال، ولم أكن وحدي في ذلك..

دور استهلاكي

          في عام 1983 قامت وزارة التخطيط الكويتية بعمل بحث ميداني حول ظاهرة انتشار الخدم وآثارها على الأسرة الكويتية والمجتمع قالت فيه بالحرف الواحد، "إن دور ربة البيت الذي تقوم به المرأة الكويتية هو دور استهلاكي أكثر منه إنتاجيا، وذلك بعد أن أسلمت أمور بيتها وتربية أبنائها لأيدي الخدم. إن ما يقرب من مائة ألف من ربات البيوت الكويتيات - خارج قوة العمل - في الوقت الذي يزداد فيه الاعتماد على القوة الوافدة بصورة مطردة".

          "بالأرقام سجل البحث نفسه أن قوة العمل من الإناث الكويتيات بلغت نسبتها 13.1% من قوة العمل الكويتية، و 2.9% من إجمالي قوة العمل!!".

          أيضاً وفى العام نفسه خرج علينا دليل المؤشرات الرئيسية لأحوال المرأة العربية - اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا بالأمم المتحدة - خرج علينا بأرقام تفيد أن 13.3% من الإناث في قوة العمل أميات لا يعرفن القراءة أو الكتابة. وأن 13.9% منهن جامعيات وما فوق التعليم الجامعي.

          و.. أذكر مساجلة بين كاتب كبير وكاتبة على صفحات الجرائد تبادلاً فيها الاتهام بالإسراف. اتهم الكاتب الكاتبة بأنها تترك أولادها للعمالة الوافدة.. حيث يوجد في بيتها خمس "شغالات" و.. دافعت الكاتبة عن نفسها بأنها غير مسرفة ولا يوجد لديها سوى ثلاث فقط.

          و.. مرت الأيام - أيام ما قبل الغزو - وصورة المرأة الكويتية مازالت في وضعها الاستهلاكي. هذا رغم وجود طبيبات ومهندسات وكاتبات وصحفيات.. ورغم الأصوات الناعمة التي ارتفعت بحق المرأة في التصويت والترشيح لانتخابات مجلس  الأمة.

ثم كان الغزو

          هز الزلزال كيان الوطن، فأخرج من باطنه أحلى ما فيه: المرأة الكويتية - انتفضت بنت "الكويت تزيح عن وجهها تراب الاستهلاك وقيمه وراحت تصنع الحياة بالدم، فسمعنا قصصاً وبطولات..

          سمعنا عن سميرة التي ضبطها جنود الاغتصاب العراقي وهي توزع منشورات تدعو للصمود والمقاومة، وحاولوا انتزاع اعتراف منها عن المقاومة الكويتية أو ذكر أسمائهم لكنهم فشلوا، حاولوا، وحاولوا.. وعندما تكرر الفشل لم يسعهم إلا أن ينشروها نصفين بمنشار حديدي، نشروا الأطراف من يدين ورجلين ثم تركوها و... ساروا منتصرين!!!

          أمام هذا لم تضعف المرأة الكويتية، ولم يرهبها التعذيب أو الاغتصاب. فالشرف لم يعد شيئاً خاصاً بفرد أو عائلة ولكنه شرف الوطن كله والذي يجب أن يصان رغم كل الظروف.

          اتخذت المرأة الكويتية من المساجد أماكن لتجمعاتها ولقاءات الثائرات. كتبت المنشورات وقامت بتوزيعها، حملت الأخبار والتعليمات فكانت همزة الوصل بين الثائرين الرافضين اغتصاب الوطن.

          هذا فضلاً عن الأعمال الأخرى، الإسعافات الأولية ومداواة الجروح، نقل المصابين والجرحى.. و.. أعمال المنزل من "العجين" إلى مباشرة أعمال النظافة، وحتى تربية الدواجن بالمنزل وصولاً إلى قدر من الاكتفاء الذاتي في الحياة اليومية وتوفير الغذاء. فرضت المرأة قيماً جديدة وشكلاً جديداً للحياة.

شهادة عالم اجتماع

          و.. مرة أخرى تفرض نفسها على المؤتمرات والندوات. ففي واحدة من هذه الندوات التي عقدت عن الكويت وتحديات مرحلة إعادة البناء، قدم الدكتور سعد الدين إبراهيم ورقة حول "الخروج من الجنة والعودة في الدنيا" تحدث فيها عن مقاومة الاحتلال، وبالطبع كان عدم التعاون مع سلطات الاحتلال جزءا ملحميا من هذه المقاومة. ولكن أستاذ الاجتماع ونقيب الاجتماعيين في نقابة القاهرة يرى:

          "إن عدم التعاون ما كان له أن يكون بهذا الإبهار ما لم تتوافر بعض شروط القوة في النسيج الاجتماعي الكويتي، وهو الأمر الذي تجلى في إدارة الشئون المجتمعية الأساسية. وأهمها إشباع الحد الأدنى من حاجات المواطن الكويتي المادية والوجدانية.

          وكانت الخلايا الحيوية في هذا النسيج الاجتماعي هي الأسرة الكويتية والجمعيات التعاونية. لقد قدمت الأسرة الكويتية لأفرادها الدفء الوجداني في صقيع الاحتلال. وظهر التكافل والتماسك بين أفراد كل أسرة كويتية ظلت تحت الاحتلال كأقوى ما يكون التكافل. وقد سمعنا وقرأنا الكثير عن ذلك بما يحتاج إلى تنويه، ولكن أهمية تأكيد هذا العامل في قوة النسيج الاجتماعي الكويتي هو ما كان قد بدأ في السنوات السابقة للغزو من مظاهر عديدة للتفكك والتفسخ وضعف الانتماء في الأسرة الكويتية، تحت التأثير السلبي للطفرة النفطية، ولكن تجربة الاختلال، أثبتت إما أن مظاهر هذا التفكك كانت مجرد بثور سطحية لم تتعمق في لحمة الأسرة الكويتية أو حتى إذا كانت قد تغلغلت بالفعل في سنوات ما قبل الاحتلال، فإن محنة الاحتلال قد تولت محاصرتها والقضاء عليها بسرعة.

معدن المرأة الأصيل

          ثم ينتقل البحث بعد ذلك ليسجل بوجه خاص دور المرأة الكويتية "فرغم كل ما قيل عن هذه المرأة من دعة وكسل بسبب الطفرة النفطية فإن معدنها الأصيل قد تجلى أثناء المحنة.

          وربما أكثر من الرجل - هكذا يرى الدكتور سعد الدين - آثرت معظم النساء الكويتيات اللاتي داهمهن الاحتلال أن يبقين على أرض الكويت، وحتى بعد أن انتشرت وشاعت بشائع الاحتلال من بطش وتعذيب وتنكيل واغتصاب، رفض عدد كبير منهن أن يتركن منازلهن ووطنهن رغم إتاحة فرصة أو أكثر لهن كي يفعلن ذلك.

          ثم يبدو الدكتور سعد وكأنه يعتذر فيسجل أن معظم ما كان قد قيل سلبا في حق المرأة الكويتية قبل الاحتلال كان حكماً متعجلاً، ثم يكمل اعتذاره قائلاً:

          "لقد كان صمود ومرابطة المرأة الكويتية على أرض الوطن حافزا وتحديا لعدد كبير من رجال الكويت كي يصمدوا ويرابطوا. وقصص البطولة والثبات إلى حد الاستشهاد تحت وطأة التعذيب أو الانتقام على أيدي سلطة الاحتلال معروفة وموثقة ولا تحتاج إلى تكرار".

المرأة الكويتية والقيم الجديدة

          أما عن أهمية التنويه بدور المرأة الكويتية "فهو يمثل نموذجاً وجودياً حياً لتنشئة الأجيال الكويتية الجديدة التي لابد سيعتمل في عقلها الواعي والباطن مئات الأسئلة حول محنة وطنهم".

          وإلى جانب نماذج البطولة التي قدمتها المرأة الكويتية تحت الاحتلال فإنها "قد قدمت شيئاً لا يقل أهمية في الأجل الطويل وهو سلوكها وممارساتها في تدبير شئون الحياة اليومية أثناء المحنة والذي يمس نظام القيم في المجتمع الكويتي".

          هكذا كانت المرأة الكويتية. وهكذا أصبحت. وفي الحالتين كانت دائماً جزءا من مجتمع. وعندما تراجعت قيمة الاستهلاك - إذا كان للاستهلاك قيمة - وتقدمت قيمة العمل عندما أصبح للانتماء مفهوم آخر.. عندما أصبح للوطن معنى مختلف ظهر المعدن الحقيقي للمرأة الكويتية، معدن أغلى بكثير من النفط.





كان حكمنا عليها متعجلا!




لم تضعف المرأة الكويتية ولم يرهبها التعذيب بل خرجت في مظاهرات من أجل شرف الوطن




معدن المرأة الكويتية الأصيل تجلى أثناء المحنة