جديد القرن... بورصات وبنوك... للمياه!!

  جديد القرن... بورصات وبنوك... للمياه!!
        

لم تثر ضجة حول مجال من المجالات, أو تعقد من أجله المؤتمرات والندواتوالحلقات الدراسية في جميع الأرجاء, مثلما حدث ويحدث حول المياه.

           ولما كانت المياه تحتل مكاناً بارزاً في أجندة العمل العربية نظراً لظروف المنطقة الطبيعية والسياسية والاقتصادية, كان لابد من الاهتمام والبحث عن أفضل الحلول التي تتسق وتناسب المنطقة العربية.

          "خصخصة المياه", أو بالأحرى خصخصة مؤسسات المياه, من إحدى البدائل المطروحة على الساحة العالمية, وهي فكرة لم تطرح إلا حديثاً, لذلك لم تنل القدر الكافي من البحث والدراسة, ما قد يفسره البعض باعتباره رفضاً للفكرة من أساسها, كما أن الخبرة العملية في هذا الصدد تعتبر محدودة ومقصورة على دولة أو اثنتين بدأتا منذ سنوات قليلة في خصخصة مؤسساتهما المائية, ولذلك فمازال الحكم على نجاح التجربة أو فشلها محل شك, غير أن التأمل الدقيق لتطبيق الفكرة في بلدان المنطقة العربية من الأهمية بمكان, حيث تشير العديد من الدراسات إلى الأزمة المتوقعة في المنطقة والحروب المنتظرة بسبب المياه, وعلى خط متواز تقوم بعض المؤسسات المالية الدولية بالترويج لبعض المفاهيم الجديدة في محاولة للضغط على دول المنطقة لانتهاجها, مثل تسعير المياه, وإنشاء بنك للمياه, وبورصة للمياه, كحلول وبدائل لأزمة ندرة المياه.

أسئلة قبل الخصخصة

          يقصد بالخصخصة الحصول على التمويل اللازم من القطاع غير الحكومي (القطاع الخاص) بغرض تطوير وتنمية الصناعة, عن طريق القيام بمشروعات استثمارية بعيداً عن التعقيدات الحكومية, فإذا نجحت الخصخصة في ذلك, أمكن - بالتأكيد - الحصول على فعاليات محسّنة كنتيجة طبيعية لما توفره الخصخصة من ميزات وحوافز, فإذا كانت الخصخصة قد نجحت حتى الآن في اختراق أسواق معينة, صناعية وتجارية, فإلى أي مدى يمكنها أن تخترق سوق المياه, إن جاز التعبير? وما المنافع التي يمكن أن تتبعها لاحتواء الأزمة المائية المرتقبة? وهل المقصود بالخصخصة هو اعتبارها أداة لتحسين الفعالية الإنتاجية أم استخدامها لمواجهة سوء إدارة واستخدام الموارد المائية?

          إن المياه - وهي عنصر أساسي لحياة الشعوب - يجب توفيرها دون مقابل, وهذا يقع على عاتق الحكومات, فإذا كانت فرضية اعتبار المياه سلعة اقتصادية قد باتت فكرة عالمية, فلابد أن يتذكر المروّجون لتلك الفكرة أن المياه سلعة ذات دلالة خاصة, سواء بالنسبة للحكومات أو للشعوب, ليس فقط لاستخدامها التقليدي في الشرب والزراعة, ولكن لاعتبارها عنصراً أساسياً في كثير من الصناعات, بالإضافة إلى استعمالها كمصدر للطاقة.

          وإلى جانب ذلك, هناك البعد السياسي للمياه, فمصادر المياه ليست  فقط  الموجودة عبر الحدود الدولية, ولكنها تلك التي تجري عبر إقليم الدولة وتحته, تلك الشبكة المائية لابد من التفكير مراراً قبل تطبيق أيّ سياسات عليها, وإلا فعلينا أن نواجه حروب المياه بأسرع مما نتوقع.

          إذن لإتمام الخصخصة, المطلوب تحقيق معادلة شديدة التعقيد, حيث يجب أن ننظر للمياه نظرة شديدة الخصوصية وليس باعتبارها منتجا تجاريا بالمعنى التقليدي, وفي الوقت نفسه, يتم إشراك الاستثمارات الخاصة في إدارة ذلك المرفق الخطير, مع تطبيق ما ينادي به أنصار الفكرة من ضرورة وضع التشريعات وإنشاء جهات خاصة لحماية مصادر المياه جديّاً, وإلا فقد تصبح الشركات الخاصة العدو الأول, وقد يحصل بعض المستثمرين على أفضلية لا يستحقونها, مما قد يهدد في النهاية بتقديم المصالح الخاصة على المصلحة القومية وإهدار حقوق الجماهير في الحصول على مياه جيدة, فهل تنجح التشريعات في ذلك?

تجارب خصخصة

          سبق أن أشرنا إلى محدودية التجارب الفعلية في هذا الصدد, ولذلك فإن التجربتين اللتين قامت بهما المملكة المتحدة وفرنسا تعتبران أشهر النماذج التي يمكن من خلالها التعرّف على أطروحة خصخصة المياه, وبالطبع, لكل من المثالين محاسنه وسلبياته, بحيث لا يمكن الحسم بأن أحدهما صالح للتطبيق نمطياً في مكان آخر على الدرجة نفسها من الكفاءة.

          الحكومة البريطانية انتهجت سياسة خصخصة المؤسسات المائية منذ ما يقرب من ثمانية أعوام بأسلوب البيع الكلي عن طريق التعويم العام, في بداية الأمر, عانت الحكومة كثيراً للإبقاء على أعمال معينة تحت إشراف وسيطرة القطاع العام, بجانب تحديث بعض الإدارات الجديدة, في حين كانت تبيع فقط للشركات الخاصة خدمات محددة, كخدمة تصريف المياه العامة للمنازل, أو مصلحة تأمين التزويد بالاحتياج المائي, إذن كانت الحكومة حريصة منذ البداية - وبوضوح - على إبقاء السيطرة على مصادر حوض النهر وتوزيعها لسلطة الأنهار الوطنية, خاصة أن الصفقة هي المياه, فربما تتولد نزعات احتكارية لدى المستثمرين بعد تحقيق نجاحات من المشروع, ويكون لابد من التصدي لهم. ولكن إذا استطاعت الحكومة أن تتدخل في البداية لكبح جماح المستثمرين وأطماعهم, فهل يمكنها الاستمرار في ذلك? إن التجربة تقول: لا, فالضجة التي أثيرت حول توقف صناعة الفحم الحجري في إنجلترا, بالإضافة إلى المرتبات الخيالية التي يتمتع بها مسئولو المياه تُظهر تعقّد الموقف.

          وفي فرنسا, تمت عملية الخصخصة لتأمين الاحتياج والتوزيع المائي بصيغة أخرى تقوم على أساس نقل مسئولية إدارة المشروع إلى القطاع الخاص لفترة محددة - تتراوح ما بين عشر سنوات وعشرين سنة - بحيث لا يتملك القطاع الخاص أصول المشروع, ولكن تبقى ملكيتها لسلطات الدولة, وهو شكل أقرب إلى العلاقة الإيجارية في القانون الخاص, فالقطاع الخاص يتسلم إدارة المشروع لفترة محددة دون أن يتملك أصول المشروع التي تبقى تحت يد سلطات الدولة, وهذا النموذج وإن كان يفتح طريقاً للمنافسة كل عشرة أو عشرين عاماً,فإن عيبا خطيرا يشوبه , يتمثل في أن الضوابط الاقتصادية التي تحددها الدولة إن لم تصغ بدقة ضمن شروط العقود المبرمة مع القطاع الخاص, فإن شروط العقد تحل محل تلك الضوابط وتكون هي الملزمة للطرفين, ومن المؤكد أنه سواء أدرجت الدولة تلك الضوابط أم لا, فسيكون هناك مجال للشركات والمسئولين الحكوميين للالتفاف حول تلك الضوابط بشكل أو بآخر.

          وهناك دول أخرى تحاول الاقتراب بحذر من تجربة خصخصة المياه - كإيطاليا وماليزيا - ولكن تقابلها عقبة رئيسية متمثلة في صعوبة الحصول على التمويل الكافي لإتمام الخصخصة.

          وهناك دول تتناول الفكرة جزئياً كالأرجنتين التي سمحت بإعطاء حق استثمار طويل الأجل لإدارة مصلحة مياه العاصمة "بيونس آيريس".

          إن التجربة وإن كانت موضع نظر في أماكن مختلفة, فمازال يحيط بها الحذر, فالنشاط الاقتصادي الفردي متمثلاً في القطاع الخاص لا يمكن أن يضع على رأس أولوياته وأهدافه إلا تحقيق الربح, ولذلك كان التوجه العالمي نحو الخصخصة يضع نصب عينيه آلية محددة للقطاع الخاص في ظل الخصخصة, بحيث يتم تضييق مجالات عمل القطاع الحكومي, ويتم قصرها على القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية, في حين يترك المجالات الأخرى الأقل أهمية للقطاع الخاص, ووفقاً للنظرية الاقتصادية ليس من الممكن اجتذاب الاستثمارات الخاصة مالم تعرف وتحدد مسبقاً المخاطر التي قد يتعرض لها المشروع, فإذا كان الخطر جسيماً فلن يجد القطاع الخاص فائدة من المشاركة, فإن تحددت المخاطر وارتأت دراسات الجدوى فائدة المشاركة يكون معنى ذلك وفقاً لقواعد الخصخصة (الحد من سيطرة الدولة وتدخّلها في توجيه النشاط الاقتصادي) وبالتالي سينطلق القطاع الخاص ليستثمر أمواله ويحقق الأرباح من سلعته الجديدة والنادرة, وخاصة في البلدان التي تعاني الجفاف وندرة المصادر المائية.

خصخصة عربية!

          إن المنطقة العربية - ولاشك - حديثة العهد بنظام الخصخصة على عمومه, ورغم أن الاتجاه نحو الخصخصة بدأ يتوسع بشكل ملحوظ في قطاعات أقل أهمية يمكن للاستثمارات الخاصة أن تحقق فيها نجاحاً إلا أن المياه - باعتبارها قطاعاً حيوياً ذا أهمية استراتيجية - يصعب التكهّن بنتائج دمجها ضمن برنامج الخصخصة.

          إن المتوقع من خصخصة المياه في المنطقة العربية هو توفير التمويل اللازم لإقامة المشروعات, مع تنظيم استخدامات المياه عن طريق الاستعانة بالخبرات اللازمة في هذا المجال, وذلك كله بهدف تنمية موارد المياه العربية التي تستخدم بسرعة تفوق قدرتها على التجدد. والواقع يؤكد أن الموارد المائية المتجددة في المنطقة العربية تعتبر محدودة, بل ونادرة نسبياً, فالمنطقة العربية معظمها يقع في مناطق يسودها المناخ الجاف أو المناخ الصحراوي وذلك لوقوعها في منطقة تشمل الصحراء الكبرى والصحراء العربية, وتمثل المياه السطحية الجانب الأكبر من مصادر المياه في كثير من دول العالم العربي, حيث تتمثل أساساً في الأنهار والبحيرات ومياه الينابيع بالإضافة إلى مياه الأمطار التي يتراوح معدلها ما بين 20 - 2000مم/سنة وتصل كمية الأمطار التي تهطل عليها إجمالاً إلى حوالي 2.3 ألف مليار م3 /سنوياً, ورغم ضخامة الكمية, فإنها تسقط على مساحة صغيرة من الوطن العربي تتمثل أساساً في المرتفعات وسلاسل الجبال الواقعة في أقصى الشمال وأقصى الجنوب, وهي رغم ذلك تعتبر المصدر الرئيسي للتغذية الطبيعية للعديد من الأحواض المائية والجوفية بالمنطقة العربية, تلك الأمطار لا يستغل حالياً سوى 15% منها.

          أما مصادر المياه الجوفية بالمنطقة, فمازالت تحتاج إلى مزيد من الاستكشافات للتأكد من كميتها, حيث إن الأحواض تتقاسمها بلدان عدة مما يوجب ضرورة التعاون حتى يمكن استغلالها, وهكذا يبدو الموقف حرجاً بحيث تعد تجربة الخصخصة في الوقت الحالي مغامرة شديدة الخطورة, ورهاناً على حياة الملايين من أبناء الوطن العربي الذين يهدّدهم شبح ندرة المياه.

          ويكفي أن نعلم أن لجنة الأمم المتحدة لتقييم الموارد المائية العذبة المتاحة قد أشارت إلى تناقص نصيب الفرد من المياه في المنطقة العربية من 2400م3 عام1970 إلى 1200م3  عام 1996.

          وهكذا تبدو فكرة خصخصة المياه مستحيلة على المدى القريب, واحتمال ضعيف جداً على المدى البعيد, فالمياه - وهي تمثل عنصراً أساسياً للحياة بالإضافة إلى أبعادها الاستراتيجية - توجب التعامل معها بخصوصية شديدة, أضف إلى ذلك أن أنهار الوطن العربي تنبع جميعها من خارج أراضيه, وتمثل 60% من الموارد السطحية في البلاد العربية, بل وتشاركها فيها دول أخرى بناء على حقوق تاريخية مكتسبة, وأحياناً بناء على سياسة وضع اليد أو الأمر الواقع! في ظل تلك التعقيدات, تعتبر المخاطرة أو المغامرة بالمياه العربية غير مقبولة تماماً, بل لا يجوز أن يترك الموضوع لرؤى متخبّطة أو ترف فكري, لأن المناداة بتسعير المياه من شأنه أن يشعل الحروب بين البلدان العربية النهرية, وهي دول مصب, وبين دول المنبع التي يتوقع - حتماً - أن تطالب بثمن المياه التي تذهب للدول الأخرى.

مخاطر واضحة

          وإذا كان الهدف من الخصخصة أساساً هو توفير التمويل اللازم لإنشاء وتطوير مشروعات المياه, فلابد أن نعلم - وهو أمر من الوضوح بمكان - أن اللجوء إلى القطاع الخاص للحصول على التمويل له مخاطره غير المحمودة العواقب, خاصة في قطاع شديد الخصوصية كالمياه, وأيضاً لا نعتقد أن اللجوء إلى تطبيق سياسات المؤسسات المالية الدولية له جدوى في ظل هيمنة الدول الكبرى على مقاليد تلك المؤسسات, مما يثير الريبة والشك حول نواياها, ويكفينا حالياً أن تستجيب تلك المؤسسات للنداءات المتتالية لها بالتوقف عن تمويل ودعم مشاريع في أراضي دول غير عربية على مياه مشتركة, إلا بعد الوصول إلى اتفاقات للتقاسم المائي مع الدول العربية.فلابد إذن أن تكون الجهود المالية جهوداً عربية! وهذا يقتضي إرساء أجندة للعمل يكون على رأس أولوياتها إنشاء صندوق لتنمية الموارد المائية العربية يتم دعمه وتمويله عربياً, بحيث يؤدي دوره لخدمة المنطقة وفقاً لأوضاع كل قطر وظروفه.

          أخيراً نؤكد إن السيطرة على المياه تمنح للمسيطر قوة كبيرة خاصة في بلدان جافة كبلدان المنطقة العربية, تلك السيطرة تقود حتماً إلى خطر عدم الاستقرار الاجتماعي.

 

حسام الإمام   

 
 




صورة عامة لمحطة تحلية المياه بمنطقة الدوحة بالكويت