الحكمة والصلاح والفن الجميل.. التصوّف والسّماع بالغرب الإسلامي

الحكمة والصلاح والفن الجميل.. التصوّف والسّماع بالغرب الإسلامي

عبر حفلات السّماع ومجالس الذّكر والإنشاد الصّوفي والمديح النّبوي التّي تشهدها بلدان المغرب العربي أو بلاد الغرب الإسلامي بحسب تسمية المؤرخين الأوائل يمكن أن نرصد الجزئي والهامشي، عبر جوانب من فنون القول تجسّمت باعتبارها احتفاليات سماع روحانية، ومناسبات للتسامي وتطهير القلوب والنّفس.

نحاول هنا أن نعود بالقارئ إلى شيء من تاريخ الأعلام من الزّهاد والأولياء والصوفيّة، أولئك الذّين تأثّر بهم الواقع الاجتماعي وأثّروا فيه دون أن يقصدوا ذلك لكونهم آثروا قيم المحبّة والرّحمة والتّآخي فنالوا محبّة النّاس، وذكر سيرهم ومآثرهم، تلك التّي عبّر عنها «أدب المناقب»، ومخطوطات أخبار الأولياء والعباد أحسن تعبير. ومن أولئك الأولياء الصّلحاء من سُمّيت بأسمائهم أمكنة ومدن وقرى (سيدي بوسعيد في تونس وسيدي عبدالرحمن في المغرب وسيدي بلعباس في الجزائر...)، وانتسب إليهم أفراد وجماعات، إمّا من جهة الصّلة الدمويّة أو عبر الانتماء الرّوحاني والتّآخي في محبّة الله وأنبيائه وأوليائه الصّالحين. فيكون الفرد إمّا مريدا محبّا أو فقيرا سالكا طريق التصوّف والزّهد عبر الذّكر بعد الإخلاص في العبادة أو عبر السّماع والمديح لمن غلب الشّوق والهيام أنفسهم، ورقّت قلوبهم في محبّة الله وخاتم أنبيائه فاتّخذوا من «الحضرة» أي الاجتماع للذّكر، ثمّ الإنشاد والمديح بالآلات أو دون آلات مسلكا ترقى به النّفوس إلى حضرة المحبوب علاّم الغيوب وتوجد في محبّته ثمّ التأمّل في جلال قدرته وجمال صنعته.

هكذا إذن ومنذ العهد الموحّدي (ق 5 هـ/11م) تقريبا تشكّلت ملامح مجالس الذّكر والسّماع والمديح الصّوفي ببلاد الغرب الإسلامي يتعانق فيها جمال الكلام وصدق المعاني التّي تُنشد وفق التوقيعات الشعريّة والإيقاعات اللّحنية فتتواجد النّفوس، وتنتشي القلوب، فتصبح تلك المجالس بمنزلة طقوس أخرى للتعبّد، وتستحيل طرقا نيّرة للنسك وتحصيل أسرار المعرفة ذوقا وإشراقا، فينجم عنها لاحقا ألوان وأنماط من الذّكر والمديح والإنشاد، وجميعها يؤلّف ما يمكن أن نصطلح عليه بمجالس السّماع، إذ «السّماع» مصطلح جامع أوّلا وأساسا لسماع الذّكر الحكيم عبر التّلاوة والتّرتيل وشامل أيضا لسماع أختام قراءة مدوّنات الحديث، وسرد قصّة مولد النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) من خلال كتيّب «مولد البرزنجي» أو مدحه عبر «البردة» أو «الهمزيّة»، وتشمل مجالس السّماع كذلك مديح الأولياء، وقصّ كراماتهم ومناقبهم وبيان رفيع درجتهم، من جهة القربى المعنوية والروحيّة من الله عزّ وجلّ، إذ من معاني «الولاية» كما جاء ذلك في الذّكر الحكيم القربى والنّصرة والعناية بالرحمة والإحاطة والحفظ من الوقوع في المعاصي والمكاره، فيمسي الوليّ ذا مكانة مهمة في الوجدان الجمعي سواء بالنّسبة للمجموعة المندرجة ضمن الطريق الصوفيّة المسمّاة باسمه أو لدى عموم النّاس وحتّى لدى أغلب المثقّفين ثقافة عصريّة الذّين يمثّل الإرث الصّوفي لديهم مدوّنة ثقافيّة غنيّة بقيم جماليّة، وكثيرا ما تغدو مجالس الإنشاد والسّماع، وما يرافقها من لوحات تعبير جسدي وتواجد وانجذاب روحي بمنزلة العروض المشهديّة الفرجويّة التّي تستجيب لآفاق انتظار ملكات التلقّي والتذوّق، نظرا إلى القيمة الجماليّة العالية التّي تستبطنها النّصوص الشعريّة الصوفيّة وأزجال التّوشيح الصّوفي، إذ لمعت أسماء كبرى في هذا المجال وحسبي أن أذكر هنا أبا مدين (ت594 هـ/1197م). والششتري (ت668 هـ/1229 م) والعفيف التلمساني (ت696 هـ/1296 م) ومحمد بن عيسى (ت933 هـ/1026م) وعبدالسلام الأسمر (ت 981 هـ /1573م) ومحمد الحرّاق (ت 1261 هـ/1845م) وغيرهم، سيأتي بيان ذلك بأكثر دقّة لاحقا.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ مصنّفات كثيرة تحكي قصص الصوفيّة والأولياء، بالغرب الإسلامي وبعضها نادر يصعب العثور عليه، منها كتب في التّاريخ، ومصادر في التراجم للأعلام، أو مجموع مناقب، من هذه الكتب «التشوّف إلى رجال التصوّف» للتادلي، و«المقصد الشّريف والمنزع اللّطيف في التّعريف بصلحاء الرّيف» لعبدالحق الباديسي، و«الرّوض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس» لابن عيشون، و«معالم الإيمان في معرفة صلحاء القيروان» للدّباغ القيرواني، ومجموع «مناقب أولياء تونس» لابن الصبّاغ الحميري و«أنسُ الفقير وعزّ الحقير» لابن قنفد القسنطيني وغير ذلك من كتب أخرى مازالت لم تحقق بعد أو اختصّت بمناقب وليّ واحد.

ظهور التصوّف والسّماع ببلاد الغرب العربي

وأنت نازل من شمال بلاد المغرب الأقصى باتّجاه الوسط والجنوب أو شمال غرب بلاد الجزائر، تشهد آثار مجالس قديمة للذّكر والسّماع، وتسمع حكايات، لها في كتب المؤرخين والإخباريين ومصنفات أدب المناقب صدى، فهناك بضاحية مدينة شفشاون بجبل العلم أو جبل قبيلة ابن عروس مرقد سيدي عبدالسلام بن مشيش (ت622 هـ/1224م) شيخ الإمام أبي الحسن الشاذلي (ت 656 هـ/1258م) الذّي امتدّت مدرسته شرقا وغربا ثمّة مجالس للإنشاد والسّماع، يردّد بها اسم الله ويُصلّى على نبيّه. وقد مرّ بذاك الجبل رجال علم وصلاح وحفظة للذّكر الحكيم والسّنن النبويّة، ورابط به رجال بررة يذكرون اسم الجلالة، ويكثرون من الصّلاة على النبيّ المصطفى، يحسنون لعابري السّبيل، يكرمون ضيافتهم ويقونهم من أخطار الطّريق وأهواله.والظّاهرة نفسها وجدت من قبل في الأندلس وشمال بلاد إفريقيّة بجبال جزيرة شريك خاصّة، حيث يذكر البكري في كتابه «المسالك والممالك» قائلا: «...وفي هذا الجبل (جبل آذار شمال الوطن القبلي بالبلاد التونسيّة) قوم متعبّدون، تخلّوا عن الدّنيا وسكنوا في هذا الجبل مع الوحوش، لباسهم البردي، وعيشهم من نبات البردي، ومن صيد البحر يتناولون من ذلك ما يكون بلغة لهم، إذا جاعوا، والدّعوة من أكثرهم مستجابة، وهذا الجبل معروف بالتزام هؤلاء منذ فتحت إفريقيّة».

كذلك الشّأن بالنّسبة إلى مدينة فاس، فقد أخذ الزّهاد والنسّاك منذ أمد بعيد في التحلّق حول مقام مولاي إدريس، فسنّت منذ أواخر القرن الثاني للهجرة عادة الاجتماع للذّكر وتلاوة القرآن، لتظهر بعد تقاليد مجالس السّماع والإنشاد وينتشر صيتها خاصّة بعد أن ظهر بها ابن حرزهم (ت 559هـ/1164 م) أحد أبرز الذين تبنّوا نظرة الغزالي في «إحياء علوم الدّين» للتصوّف. وقد لعبت حواضر جنوب المغرب الأقصى: مرّاكش والصويرة وطاطا وأورزازات وسائر قرى بلاد تونس ومدنها الدور البارز في انتشار الذّكر والإنشاد وعقد مجالس السّماع، لا سيّما أنّ أغلبها اعتنق الإسلام وعرف العربيّة عن طريق انتشار التصوّف والولاء الصّالح لدى عبّاد وزهّاد أرادوا أن يرتفعوا بتديّنهم وممارستهم للشّعائر إلى مستوى من التّعالي والتّروحن يغدو معه الإخلاص في أداء الطّقس الدّيني والسّموّ بالنّفس وسيلة كشف ومعرفة، تنحت عبرها الذّات معنى لوجودها، رغبة في بلوغ أعلى مراتب السّعادة القصوى.

وفي القيروان وجدت بالجامع الكبير (جامع عقبة بن نافع) (منذ القرن الثاني للهجرة) مجالس للذّكر، لتنتشر بعد في مساجد أخرى صغيرة هي مسجد ابن خيرون ومسجد السبت ومسجد الخميس، وأمثلتها وجدت ببجاية من بلاد الجزائر التي كانت زمن الحفصيين إلى حدود ق 10 هـ/16م ولاية تابعة إلى إفريقية وحاضرة غربية من حواضرها، بهذه المدينة (بجاية) -التّي خصّها الغبريني بكتاب «عنوان الدراية في تراجم علماء بجاية» - وجدت مجالس للذّكر والعبادة وطلب العلم، أسهم فيها كلّ من نزل بهذه المدينة المغاربية ذات التّاريخ العريق.

وقد انتشرت بالحواضر السّاحليّة لبلاد المغرب العربي وطرابلس الغرب الرّباطات التّي كان يقيم بها أهل العلم والصّلاح لأجل الإخلاص في العبادة ومغالبة أهواء النّفس كذلك، وابتغاء مواجهة الأخطار الخارجيّة متمثّلة في حملات التّنصير والتّبشير أو بوادر المدّ الاستعماري الذّي كانت له باستمرار أطماع تجاه بلدان المغرب العربي، وحوض المتوسط لمحوريّة موقعها واستراتيجيّة الدّور الذّي يمكن أن تلعبه.

وهكذا عبر المساجد والرّباطات، وإلى حدود أوائل القرن الثالث للهجرة انتشرت مجالس العباد والزّهاد، فظهر صلحاء ونساك وفقهاء في الدّين أكبر همّهم الإخلاص في العبادة وإدامة تلاوة القرآن وترديد الذّكر رغبة في التّقوى والتّسامي وصقل الرّوح.

وكان من أبرز هؤلاء يزيد بن رباح (ت 172هـ/798 م) الذّي قال عنه أبو العرب التميمي في «طبقات علماء إفريقيّة» إنّه رجل صالح مبرّز، لا يُشكّ في أنّه مستجاب (الدّعاء) وقال الدّباغ القيرواني عنه في «معالم الإيمان» إنّه كان من الأبدال صالحا فاضلا، وعلى نهجه سار ابن غلبون الشاعر الزّاهد كذلك البهلول، بن راشد (ت 186 هـ/802 م) وكذا الشّأن بالنّسبة إلى العابد الزّاهد شقران بن علي (ت 186هـ/802 م) الذّي تكلّم في أخلاق الزّهد وأدب مجاهدة النّفس وتقواها،?وكان يكثر من الخلوات ابتغاء الإخلاص في ذكر الله وعبادته، وقد قصده ذو النون المصري (ت255 هـ/868م).

في الفترة نفسها (القرن الثاني والقرن الثالث للهجرة ق 8 م) ظهر زهّاد وعبّاد ببلاد المغرب الأقصى والأندلس ونشأت رباطات وثغور، استحال بعضها إلى زوايا ومساجد. وقد ترجم ابن الفرضي في كتابه «تاريخ علماء الأندلس» لعدد مهم من هؤلاء مثل أبي الحسن الزّاهد، وزياد بن عبدالرحمن اللّخمي وعفّان بن محمد، وعيسى بن محمد دينار بن واقد (ت 212 هـ/827م) وهو ممّن جمع بين الفقه والزّهد والورع، إذ تولّى نشر المذهب المالكي في فقه الشّريعة، وكان يقضي اللّيل كلّه في العبادة والتهجّد، وغير هؤلاء ممّن رابط في ثغري سرقسطة وفلندرية لجهاد النّفس والتصدّي للعدوّ.

ولم تكن ظاهرة الرّباطات حكرا على الرّجال، بل وُجد بها نساء صوفيات أخلصن في عبادة الله وجهاد النّفس، لقد أورد البكري نقلا عن محمّد الورّاق عند وصف رباط المنستير وقصر هرثمة بالسّاحل التونسي، أنّه في قبلة هذا القصر «صحن فسيح فيه قباب عاليّة ينزل حولها النّساء المرابطات».

وقد برز في المائة الرّابعة للهجرة صلحاء وعبّاد ارتقوا بالحياة الروحيّة إلى مستوى من العمق الفكري والتّعالي وبادروا إلى كتابة الشّعر والكلام في آداب التصوّف وفضائله من هؤلاء محرز بن خلف (ت413هـ/1022م) دفين باب السويقة بعاصمة تونس وأبوإسحاق الجبنياني دفين مدينة جبنيانة شرق صفاقس (الساحل الجنوبي لتونس، وعبدالرحمن الصقلي.

وظهر بالأندلس عبدالله القرطبي وابن مسرّة الجبلي (ت 319هـ/931م) الذّي عرف بآرائه العميقة ذات المنحى الحكمي. وقد ذاع صيته مشرقا ومغربا.

وهكذا، مثّل القرن الرّابع للهجرة (10م) بامتياز الإطار الزّماني الأمثل لتبلور معالم الخطاب الصّوفي ببلاد الغرب الإسلامي، كان ذلك على إثر ظهور تجارب روحيّة ومنازع نحو النّسك، ظهرت بعد أن سبق المشارقة المغاربة إلى الكتابة في التصوّف وتدوين ثمرات تجاربهم الرّوحيّة وحكمتهم في الوجود وفلسفتهم في الحياة التي استقوا عناصرها الأساسيّة من القرآن.

أمّا في القرنين الخامس والسادس للهجرة فقد ازدهرت الحياة الروحيّة واتّسعت دائرة الصوفيّة والزّهاد الباحثين عن إشراقات الرّوح وتجلّي نور الحقائق والمعارف، فأصبح التصوّف تيّارا فكريّا وجوديّا قائم الذّات طبع الحياة العلميّة والثقافيّة بالغرب الإسلامي، وأثّر في الأوضاع الاجتماعيّة العامّة، لا سيّما بعد أن نهج الموحّدون نهجا مخالفا لسياسة أسلافهم من المرابطين بخصوص الموقف من التصوّف والصوفيّة.

شخصيات محوريّة في الحياة الرّوحيّة

لقد تجلّت عناية أمراء الدّولة الموحّديّة لاحقا بالتصوّف من خلال المكانة التّي حظي بها الشّيخ أبو مدين شعيب الأب الرّوحي للتصوّف والحياة الروحيّة ببلاد الغرب الإسلامي وإفريقيّة، إذ أخذ أوّلا عن شيوخ بلاد المغرب وفي مقدّمتهم الصّوفي العارف أبو يعزى يلنوّر، وابن حرزهم (559هـ/1164م) بفاس، وعند أداء فريضة الحجّ ألبس القطب سيدي عبدالقادر الجيلاني (ت561 هـ/1167 م) أبا مدين الخرقة، وأذن له أن ينشر الطّريق الصّوفي إلى الله في بلاد الغرب، وكما تذكر المصادر فقد تتلمذ إليه ألف مريد، صاروا كلّهم من شيوخ العلم والدّين والصّلاح، وتوزّعوا على كامل أرجاء الغرب الإسلامي يدعون النّاس إلى ذكر الله والصّلاة على نبيّه ومحبّة عباده، لا سيّما الصّالحين منهم. وعند عودته من الحجّ ومكوثه بإفريقيّة التقى به صلحاء وأولياء من كبار صوفيّة تلك الدّيار كأبي علي النفطي (ت 610 هـ/1215م) الملقّب بسلطان الجريد لمحبّة أهل الجريد بتونس ووادي سوف بالجزائر له رغبة في بركتـه وعظيم خصاله، كذلك عبدالعزيز المهدوي (ت621هـ/1224 م) وأبي يوسف الدّهماني (ت 621 هـ/1224م) دفين القيروان وأبي سعيد الباجي (ت628هـ/1231م) ومحمّد الدبّاغ والد عبدالرحمن الدباغ مؤلف «معالم الإيمان»، وهي الطّبقة التّي أخذ عنها الإمام أبو الحسن الشاذلي إثر حلوله بتونس أسرار الطّريق الصّوفي بعد أن تلقّى بجبل العلم (شمال المغرب) عن ابن مشيش الأسس الأولى للتّصوف.

وعند رحيله إلى بجاية بعد سنوات تسع قضّاها أبو مدين بمسجد سوق السكّاجين بعاصمة إفريقيّة (تونس)، صار شيخا لزاوية ورباط ببجايه، فقصده هناك مريدون ورجال علم وصلاح منهم ابن سيّد بونة الذّي جاءه من الأندلس، وقد ذكر نتفا من أخباره وأقواله في كتابه «الشهاب». ولمّا ذاع صيت أبي مدين وتناقل النّاس أخبار صلاحه، وفضائل كراماته، طلب الخليفة الموحّدي أبو يعقوب المنصور رؤيته، والنّظر في أمره موصيا به خيرا ورفقة عند مقدمه إليه لكبر سنّه وعظيم صلاحه، وعندما قصد إليه في جمع من مريديه يصحبهم وفد الأمير الموحّدي، قال الشيخ أبو مدين: إنّ السلطان لن يراني ولن أراه، فاستغرب من سمع ذلك، إذ مرض الشيخ أبو مدين لمّا وصل تلمسان، فنظر إلى مقبرة الزّهاد وقال ما أحلى الرّقاد بمقبرة الزّهاد والعباد، فكأنّه بذلك أخبر عن موته، إذ توفّي في تلك اللّيلة، ودفن بتلك المقبرة إلى جانب محمد بن عبدالسلام التونسي أحد أهمّ صلحاء تلك الدّيار وأصله من بلاد إفريقيّة، فأصبح ضريحه مزارا ثمّ زاوية، فجامعا للصّلاة وتعليم القرآن تقام فيه - في أوقات معلومة - حلقات للذّكر والعبادة واحتفالات بذكرى المولد النبوي الشّريف وليالي شهر رمضان المعظّم.

الشّخصية الثانيّة التّي طبعت الحياة الروحيّة ببلاد الغرب الإسلامي في الفترة الموحّدية هي شخصيّة أبي العبّاس السبتي (ت601هـ/1204م) أصيل مدينة سبتة الواقعة بالشرق الشّمالي من بلاد المغرب الأقصى، ونزيل حاضرة مراكش مدينة، السبعة من الأولياء العلماء ذوي البركة والصّلاح، وهم إضافة إلى أبي العباس السبتي، محمد بن سليمان الجزولي (ت 872 هـ/1426م) والقاضي عياض اليحصبي (ت544هـ/1149م) الفقيه الرجل الصّالح مؤلّف «ترتيب المدارك» في تراجم فقهاء المالكيّة وإبراهيم الأمغاري ويوسف بن علي الصنهاجي (ت593هـ/116م) وعبدالعزيز التّباع (ت914هـ1508م) وعبدالله الغزواني وعبدالرحمن بن عبدالله السهيلي، وهنا نلاحظ أنّه لا يخفى على أحد الدّلالة الإسراريّة القدسيّة للرّقم سبعة في الدّيانة الإسلاميّة والثّقافات الشرقيّة ذات الصّبغة الروحانيّة.

وقد امتاز أبو العباس السّبتي بحرصه الدّائم على الالتزام بأخلاق الفضيلة والتّقوى والإحسان للضّعفاء والمساكين وإيثارهم حتّى على نفسه، كما عرف بالإكثار من الصدقة والإحسان، معتبرا ذلك شرطا لاستجابة الدّعاء، كان يقول: «تصدّق يكون لك ما تريـد» و«أحسن لمن أساء إليـك»، وقد اتّفق أن أرسـل الفيلسـوف ابن رشـد ( ت595هـ/1198م) في معرفة مذهبه، فلمّا وصف له الرّسول حياة الولي المخلص (السبتي) في الذّكر والعبادة، وحرصه على تقديم الصّدقات والإحسان إلى كلّ ذي حاجة، علّق ابن رشد قائلا: «هذا رجل ينفعل عنده الوجود بالجود»، ولعلّه من كرامات هذا الوليّ ومنن الله عليه، أن ظلّ مقامه بباب تاغزوت (التسمية بربريّة) من حاضرة مرّاكش القديمة عامرا بقرّاء القرآن الكريم من العميان -خاصّة- أولئك الذّين حفظوه سماعا وأتقنوا تلاوته مشافهة، كذلك تنتظم في الأماسي بمقامه مجالس للذّكر وإنشاد القصائد والرّقائق (ما كتب في محبّة الله ورسوله) وغالبا ما تشفع بأدعية كتبها السبتي...، وعن بعد - وأنت داخل إلى مقام السبتي - ترى أولئك الفقراء والسّائلين من المحرومين يستجدون الزوّار الذين يتذكّرون بدورهم نصيحة الشّيخ السّبتي بشأن إدامة الصدقات فيستأنفون تلك السنّة الحميدة، فيجزلون العطاء كلّ بحسب استطاعته. وهنا تجدر الإشارة إلى بعد طريف في مذهب السبتي يجسّم فرادته، وهو أنّه أوجب الصدقة على كلّ أنثى ذات جمال فائق وحسن، لكون ذلك نعمة من الله. وحتّى لا تكون فتنة للرّجال والشّباب منهم على الأخصّ.

الشخصيّة الصوفيّة الثالثة البارزة التّي أثّرت في تصوّف الغرب الإسلامي وبلاد المشرق على السّواء هي شخصيّة المولى عبدالسّلام بن مشيش. وقد سبقت الإشارة إليه أعلاه، لقد ذاع صيت هذا الشيخ ساكن جبل العلم بشفشاون (شمال المغرب) من خلال تلميذه الإمام أبي الحسن الشاذلي، ذاك الصّوفي الرّحالة الذّي امتدّت طريقته في تونس ومصر والشّام والمغرب وحتى تركيا والبلاد الأوربيّة، حيث تردّد «الصّلاة المشيشيّة» على النبيّ المصطفى بالصيّغة التّي وضعها ابن مشيش، تضاف إليها أدعية الإمام الشاذلي وتسابيحه في التّوحيد وذكر اسم الجلالة، ثمّ سرد فضائل النبيّ المصطفى.

لقد انطلقت رحلة الشاذلي أوّلا من شمال المغرب إلى بلاد المشرق بحثا عن القطب (أي شيخ مشائخ الصوفيّة علما وفضلا وتقوى)، فلمّا وصل هناك أجابه الشّيخ عبدالله الواسطي بقوله: «إرجع إلى بلدك تجده»، فرجع وصعد إلى جبل العلم حيث وجد الإمام ابن مشيش بمغارة (خلوة) بأعلى جبل العلم، فاغتسل الشّاذلي وصعد إليه فألبسه خرقة الصوفيّة، وأعطاه نصوص أدعية وأذكار وصلوات.

كانت رحلة الإمام الشّاذلي عبارة عن سياحة روحيّة اكتشف عبرها أسرار الطّريق الصّوفي وأدرك بالبصر والبصيرة تجلّيات القدرة الإلهيّة في الكون والإنسان، لقد نزل الشاذلي أوّلا تونس مكانا بها يسمّى شاذلة يقع بالضاحية الغربية لمدينة تونس، ومنه اكتسب لقبه (اسمه الأصلي علي)، وبتونس تعرّف إلى عدد مهم من رجال التصوّف والصّلاح منهم علي الحطّاب وحسين السيجومي وعلي القرجاني وعبدالله الحبيبي وعبدالرحمن السبتي ذو الأصل المغربي، وأخذ هناك عن الباجي (أبو سعيد)، ورابط ذاكرا عابدا بجبل زغوان شرق مدينة تونس أين حصل له الفتح الإلهي بالمعارف الدّينيّة والعلوم النورانية، كان ذلك بعد أن أتمّ حفظ القرآن ودوام التعبّد بتلاوته، ثمّ شدّ الرّحال إلى المشرق صحبة ماضي بن سلطان فنزل أرض مصر. وكان أكثر مقامه بالإسكندرية مستقرّ تلميذه الشيخ أبي العبّاس المرسي لاحقا، ذاك الذّي يكثر أشقاؤنا في مصر ترديد اسمه على أفواههم تبرّكا به، وهو بدوره شيخ للإمام ابن عطاء الله السّكندري (ت709 هـ) الصّوفي والعالم الفقيه الذّي وضع مؤلّفات كثيرة في التصوّف والأخلاق والسّنن وتوفي الإمام الشاذلي عند عودته من أداء فريضة الحجّ. وقد جسّم بحقّ معالم الوصل بين المشرق والمغرب في مجال الحياة الرّوحيّة، ودفن بصحراء عيذاب جنوب شرق بلاد مصر، وضريحه مزار ومعلم منذ ذاك العهد إلى يوم الناس هذا، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ علما بارزا آخر في التصوّف قدم المشرق من أرض فاس (المغرب)، واستقرّ بمصر ونعني السيّد البدوي دفين مدينة طنطا، وله هو الآخر حظوة لدى أهل مصر، وفي صحراء مصر كذلك يرقد الصّوفي والزّجال الكبير أبو الحسن علي النّميري الششتري الذّي سيأتي الكلام عنه لاحقا باعتبار مركزيّة دوره في صياغة ديوان أشعار الذّكر والمديح الصّوفي وقصائد السّماع.

وتجدر الإشارة كذلك إلى أنّ القرن العشرين قد شهد ظهور أحد العلماء البارزين من أهل التّقوى والصّلاح ساهم في إحياء سنّة التّواصل المشار إليها أعلاه، وهذا العلم هو شيخ الأزهر عبدالحليم محمود (ت 1978م) الذّي وضع تآليف ودراسات في الغرض تتّصل بالإمام الشاذلي و«المدرسة الشاذليّة» وحياة «عبدالسلام بن مشيش» شيخ الإمام الشاذلي، وحقّق نماذج من مؤلّفات ابن عطاء الله السكندري تلميذ أبي العباس المرسي، وكتب عن المحاسبي باعتباره أوّل من نظّر لآداب الطّريق الصّوفي، بل إنّ الشّيخ عبدالحليم محمود سافر إلى بلاد المغرب العربي فجر السبعينيات، فعقد زيارة إلى زاوية ابن مشيش بجبل العلم شمال المغرب، وأدّى زيارات أخرى إلى مقام الإمام الشاذلي بجبل التوبة بحاضرة تونس، وفي كلا المقامين رابط بغرض إدامة الذّكر والعبادة والسّمو بالنّفس في مدارج العرفان والصّلاح.

وهكذا، مثّلت الطّريقة الشاذليّة التّي انصهرت فيها فروع من الطّريقة القادريّة شجرة تفرّعت عنها أغلب التّجارب الصّوفيّة الكبرى اللاّحقة: الجزوليّة والعيساويّة، الزروقيّة والسلاميّة والدرقاويّة.

لقد تواصل نسيج الطّريقة الشاذليّة التّي تقوم مبادئها الأساسيّة على التمسّك بالكتاب والسنّة وإدامة التّلاوة، وذكر اسم الله الأعظم ومناجاته في بلاد المشرق من خلال الأعلام الذّين تقدّمت الإشارة إليهم في بلاد إفريقيّة من خلال ماضي بن سلطان ومحمد الظريف وأحمد بن عروس (ت 868 هـ/1463 م) وأبو الغيث القشاش وفي المغرب من خلال محمّد الجزولي (ت876هـ/1471 م) صاحب كتاب «دلائل الخيرات في الصّلاة على أفضل السّادات» وسيدي عبدالرحمن الثّعالبي دفين الجزائر العاصمة صاحب تفسير القرآن وأحمد زرّوق البرنسي الفاسي (ت899 هـ/1492م) أصيل مدينة فاس ذاك الذّي وضع شروحا على مؤلّفات الإمام الشاذلي وقصائد الششتري وحكم السّكندري، وله مؤلّفات كثيرة في التصوّف والفقه من أبرزها شرحه على رسالة ابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي، وكتاب «قواعد التصوف».

وتواصل مدد الطّريقة الشاذليّة بمهادها (شمال المغرب) من خلال أعلام بارزين في الصّلاح وعلوم الدّين مثل العربي الدرقاوي (ت1239هـ/1823م)، وسيدي محمد البوزيدي (ت1229هـ/1813م) وتلميذهما أحمد بن عجيبة (ت1224هـ /1809م) صاحب المؤلّفات الغزيرة، منها كتابه المتعلّق بتفسير القرآن الكريم وعنوانه «البحر المديد»، كذلك العارف الذّائق والشّاعر الصّوفي صاحب الدّيوان سيدي محمّد الحرّاق (ت1261هـ/1845م) وهو الذّي خصّه الباحث الألماني فيشر بفصل، فرأى فيه نموذجا للأدب المغاربي المعاصر في اللّون الصّوفي خاصّة كذلك الشيخ ماء العنين (ق 19هـ) وأحمد العلاّوي الملقّب بابن عليوة (ت1930م) أصيل مدينة مستغانم بشرق الجزائر، وهو أحد أبرز المجدّدين في طرائق الذّكر والسّماع، وهو الذّي وضع شرحا على حكم أبي مدين في المعرفة والأخلاق، وهنا يحسن بنا أن نشير إلى مدى اهتمام صوفيّة الغرب الإسلامي بالحكمة ذات المنحى الإشراقي الذّوقي فمن أبي مدين إلى الشاذلي وابن عربي مؤلف كتاب «فصوص الحكم» وصولا إلى ابن عطاء الله السكندري بمصر الذّي وضع كتابه «الحكم» تأثّرا بالشاذلي وأبي مدين.

نساء صالحات مغربيات

لعلّك إذا نظرت في مصادر تاريخ المغرب، وبحثت في كتب المناقب وتراجم الأولياء المشار إليها أعلاه، لمست حضورا مكثّفا للنّساء الصّالحات العابدات، وألفيت ذكرا لإخبارهنّ وتصويرا دقيقا لمناقبهنّ وكراماتهنّ، وأغلبهنّ سائرات على نهج رابعة العدويّة (ت186هـ/ 803م) رائدة شعر الحبّ الإلهي. وقد تحقّقن بدورهنّ بمقامات عالية في العرفان والصّلاح والولاية، تماما كما هو الأمر بالنّسبة إلى أقطاب العارفين من الرّجال، بل إنّك قد تعجب، ويسترعي انتباهك ما سارت عليه حياة صالحات بلاد المغرب العربي، من ذلك مثلا أنّ العارفة بالله السيّدة عائشة المنوبيّة (ت665هـ1267م) دفينة منطقة منوبة الكائنة غرب مدينة تونس كانت تقول: «لا خير في ذكر باللّسان ما لم يكن القلب حاضرا»، وهو ما يرفعها إلى أعلى منازل العرفان الصّوفي. وقد رُوي عنها أنّها إذا بات لديها شيء من المال ولم تتصدّق به قالت: «عبادتي الليلة ناقصة»، معنى هذا أنّها بلغت تحقّقا بمقاصد الطّريق الصّوفي المندرجة ضمن «الإحسان» بمعناه الإيماني التعبّدي والاجتماعي التّكافلي، تماما كما هو الأمر لدى أبي العبّاس السبتي نزيل مرّاكش الذّي تقدّم الكلام عنه. ومقام المنوبيّة إلى اليوم مزار يُجتمع فيه للذّكر والعبادة والمديح وتقديم الصّدقات إلى المساكين. كذلك ظهرت ببلاد إفريقيّة المرابطة مريم أمّ يحيى (ق 7هـ/13م) وأمّ سلامة زينب الحضرميّة. وكان للقرابة الدمويّة والمصاهرة أثر في بروز شخصيات صوفيّة نسائيّة متميّزة وفاعلة من ذلك مثلا الصّالحة أخت عبدالعزيز التونسي كانت ولادتها بإفريقيّة وارتحلت ليكون مقامها بتلمسان ترجم لها التادلي في «التشوّف»، كذلك الشّأن بالنّسبة إلى زوجة أبي سعيد الباجي وابنته والسيّدة مريم الهنتاتية والصّالحة رقيّة الهنتاتيّة، وكلتاهما تتحدر من سلالة الأسرة الموحّديّة المغربيّة التّي وفدت تونس وأقامت صرح الدّولة الحفصيّة، منتصف القرن السابع للهجرة (634هـ/1236م). وقد ظهر بالسّاحل التونسي عدد مهم من النّساء الصالحات اللاّتي ذاع صيتهنّ، وتشدّ إلى يوم النّاس هذا الرّحال إليهنّ للزّيارة وإقامة حفلات الذّكر والسّماع مثل أم الزّين الجماليّة وللاّ الخضراء (ولفظة للاّ تعني في اللّهجة المغاربيّة سيّدتي ومولاتي) وللاّ الكحلية وللاّ عائشة الفتحيّة وللاّ السّمراء بالوردانين. بل إنّك تجد بمدينة المنستير رباط النّساء، تماما كما يوجد مقام للاّ عربيّة بجهة السّور الغربي (باب الجديد) لمدينة تونس. وكذلك الشّأن بالنّسبة إلى للاّ الهانية الحفناوي بضاحية الوسط الغربي من البلاد التونسيّة دفينة مقام الشّيخ أحمد الزّائر سليل الشيخ عبدالسلام الأسمر دفين زليتن شرق مدينة طرابلس الغرب بليبيا، علما أنّه ظهرت بطرابلس نساء صالحات منذ فترة مبكّرة، يذكر الشيخ محرز بن خلف أنّه لمّا عاد من الحجّ إلى مدينة تونس سئل من رأيت من الصّلحاء؟ فأجاب: رجلا وامرأة، أمّا الرّجل فأبو عثمان الحسّاني وأمّا المرأة، فسمدونة التّي كانت «عجوزا صالحة تسكن مسجد الشّعاب، وقد ورد هذا الخبر في «رحلة التيجاني».

وظهرت في بلاد المغرب نساء صالحات ذوات فضل وبركة عرفن بالإخلاص في العبادة، ولعبن أدوارا اجتماعيّة مهمة مثل إصلاح ذات البين بين القبائل المتخاصمة أو الإحاطة بذوي الاحتياجات الماديّة، وهذا شأن الصالحة للاّ ميمونة التلمسانيّة بفاس وللاّ عزيزة السّكسوية وكلتاهما عاشت في القرن الثامن للهجرة، وقد استرعى اهتمام جاك بيرك (ت 1996 م) المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي نوعيّة الاحتفالات الطقسية التي تقوم بها قبائل سكساوة تعظيما لهذه الوليّة الصالحة. وبالجزائر ظهرت نساء صالحات ينادونهن باللاّ ويامّة تنتشر أخبار صلاحهن وفضلهن إلى اليوم.

السّماع في الغرب الإسلامي: الظّهور والتجلّي

تنوّعت فنون السّماع ومجالس الإنشاد تنوّعا خفيّا وخلاّقا اشتمل على فنون تعبير وآداء حركي تصاحبها مسحة إسراريّة تهتزّ لها مواجد النّفوس أنسا وطربا، فتحصل سعادة روحيّة لأنفس المنشدين والحضّارة، تماما كما هو الشّأن بالنّسبة إلى المستمعين أو المشاهدين.

لقد كان لذلك التّباعد الجغرافي بين عالم الغرب الإسلامي من جهة ومركز الدّيانة ومنبع الرّسالة الخاتمة (الإسلام) من جهة أخرى أثره في تزكية نار الشّوق إلى زيارة بيت الله الحرام، وإذكاء محبّة الرّسول محمّد (صلى الله عليه وسلم). ولم ينفصل هذا وذاك عن الاستغراق في محبّة الله والعمل على الإخلاص في طاعته، فتُرجمت تلك المشاعر في ألوان من أدب الرّقائق وأشعار المديح والابتهال، ودوّنت في الغرض قصائد ومطوّلات شعريّة وموشّحات وأزجال، من ذلك مثلا المنظومة الشعريّة المطوّلة التّي كتبها الفقيه والعالم الزّاهد عبدالله الشقراطسي (ت466هـ/1073م) «في مدح خاتم النبيّين الرّسول الأعظم محمّد صلّى الله عليه وسلّم وفي ذكر مآثر صحابته» (رضوان الله عليهم) وأطلق عليها اسم «الشقراطسية». وقد عشّرها تلميذه أبو الفضل النّحوي (ت513هـ). ثمّ جاء بعد ذلك القاضي عيّاض السّبتي فوضع كتاب «الشّفاء بحقوق المصطفى» هذا الأثر الذّي انتشر بسرعة ضمن حلقات الزّهاد والصوفيّة، فأخذوا في قراءته بعد صلواتهم، رغبة منهم في الإكثار من الصّلاة على النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم)، وإظهار فضائله.

وساهم أبو مدين شعيب الأنصاري في وضع مجموعة من الأوراد والأشعار والابتهالات والحكم والأدعية، صارت متداولة بدورها لدى حلقات الصّوفيّة ومجالس الذّاكرين والزّاهدين العابدين يردّدونها، وينشدونها، وهذا ما يلمسه قارئ كتاب «الجواهر الحسان في نظم أولياء تلمسان» التّي جمعها محمد بن محمد مرابط في 1271هـ/1855م وحققها عبدالحميد حاجيات.

وهكذا، ترسّخت منذ القرن السادس للهجرة بكامل أرجاء بلاد الغرب الإسلامي عوائد الاجتماع لترتيل القرآن وإقامة الذّكر وقراءة التسابيح والأدعية وأشعار الرّقائق في الزّوايا والرّباطات، وانتشرت على نطاق واسع في سائر أرجاء البلاد المغاربيّة.

وقد اضطلع كلّ من أبي الحسن الشاذلي (656هـ/1258م)، والشّاعر الصّوفي أبي الحسن علي النميري الششتري (ت668هـ/1270م) بمهمّة الحفاظ على تقاليد الاجتماع للذّكر، وترسيخ ذلك ضمن نظام الحياة الروحيّة الذيّ عرفته الزّوايا والرّباطات بالغرب الإسلامي وفي سائر مدن وقرى الشريط الساحلي على الأخصّ (تونس، بجاية، قابس، طرابلس وطنجة). وقد اهتمّ بالترجمة له المقرّي في كتابه «نفح الطيب».

تقوم أوراد الطّريقة الشاذليّة على ترديد نصوص أحزاب الدّعاء والاستغفار والأذكار دون استعمال للآلات الموسيقيّة مع الحرص على إحكام الأداء الصوتي، وإتقان نبرات النّطق، وهو ما تجلّى خاصّة في إنشاد القصائد والأدعية بصوت رنيم مؤثّر، يتراوح بين الشدّة واللّين، إمّا فرديّا وإمّا جماعيّا على هيئة كورال يردّد البيت الطّالع، ومن الواجب سلامة النّطق وحسن الأداء وزجالة العبارة التيّ غالبا ما تكون فصيحة، ويُمهّد لكلّ هذا بتلاوة ما تيسّر من الذّكر الحكيم.

وقد تسرّبت أشعار الششتري وازجّاله إلى نوبات الطّرب الأندلسي المنتشر في أقطار المغرب العربي والمسمّى بـ«الغرناطي»، و«المالوف»، أي ما ألّف النّاس أداءه (غناءه) وينقسم إلى نوعين: «مالوف الجدّ» ويتعلّق بذكر فضل الله وصفاته الدالّة على كماله مع مناجاته طلبا لرحمته ومغفرته. ويرتبط كذلك هذا النّوع بمدح الرّسول الكريم، ووصف الشّوق إلى بيت الله الحرام «الكعبة»، وذكر أحوال من أخلصوا في محبّة الله كما هو الشّأن بالنّسبة إلى العابدة رابعة العدويّة. يقابل ذلك «مألوف الهزل» وضمنه يندرج القدر الأكبر من الغناء الأندلسي ومداره على وصف خضرة الطّبيعة ورياضها وجمال المرأة والشّوق إلى الوصال بين الأحبّة والعشّاق. وأغلب أشعار ابن الخطيب وابن زمرّك وابن سهل الإسرائيلي وابن زيدون وعبدالكريم القيسي في هذا الشّأن.

وأهمّ ما يؤثّر عن الشّشتري الذّي كان في الأصل مجوّدا مجيدا للقرآن الكريم هو إدخاله لآلة الرّق (الدفّ الصّغير ذو الصّنوج) في مجالس الإنشاد والمديح، للتّوقيع بها وضبط حركات الأداء ومساراته الزمنيّة، هو ما طوّر فنّ الإيقاع في الإنشاد. وقد انتشر هذا التّقليد حتّى صار يسمّى أولئك الذّين يستعملون الرّقّ في الإنشاد الصّوفي بـ«الششتارة» نسبة إلى الإمام الششتري الذّي أمسى لقبه (الشّشتري) دالاّ بدوره على نمط من الكتابة الشعريّة الزجليّة ذات النّفس الصّوفي المدحي. وللششتري صنعة وفنون محبكة في هذا اللّون، وهو الذّي عبّر في بعض أدبياته عن ذلك، انظر مثلا إلى قوله:

بدأت بذكر الحبيب

وقال مبديا فضل طريق الصوفيّة:

إن شئت أن ترقى
فخلّـي الأكوان
إفن وزد عشقـا
يكون لك الشـأن

التحوّلات والآلات

وقد عرف السماع الصّوفي بعد الشّشتري نقلتين بارزتين؛ مثّلت الطّفرة الأولى الطّريقة الجزوليّة العيساويّة التّي آثر أصحابها إدخال آلات إيقاع أخرى إضافة إلى الرقّ مع ميل إلى إعمال الآلات النفخيّة في بعض الأحيان مثل آلة الزّرنة ذات الأصل التّركي (شبيهة بالمزمار)، وتمّ الارتقاء بمجلس السّماع والمديح الصّوفي لديهم إلى نمط من الاحتفال الطّقسي من خلال حضور مشهدي منظّم: صفّان متقابلان جلوسا ينقرون على الدّفوف ويتوسّطهم شيخ الحلقة المسمّى «بالمقدّم» أو «شيخ الششتارة» و«العمل» أي الإنشاد، ويقف المريدون أو الدّراويش المسمّون في أدبيات الطّريقة بـ«الحضّارة» للشّطح والحركة تفاعلا مع معاني الأدبيات الشعريّة والأزجال الصوفيّة، وتناغما مع حركة الإيقاع الموسيقي بحثا عن مواجد روحيّة وحالات انجذاب نفسي (extase) تنتشي بموجبها النّفوس وتنجم عنها سعادة روحيّة قصوى يصعب رصد كلّ تفاصيلها وتمظهراتها الخارجيّة كما يتعذّر وصفها وصفا دقيقا بمفردات المعجم اللّغوي المتداول.

إنّ ما يعتري المريدين من أحوال عجيبة وأطوار غريبة تصل حدّ إتيان الخوارق كتحدّي سمّ الأفاعي وأكل الزّجاج واختراق النّار أفعال يراد منها إبراز أثر السّماع في نفس المريد وجسده على السّواء.

وفي هذا السّياق يمكن أن نفهم ذاك التّعريف البسيكولوجي الذي وضعه الفرنسي دورنيق Durning للسّماع الصّوفي في معرض حديثه عن فروع الطّريقة الشاذليّة حينما قال: «إنّ الصوفيّة المسلمين الذّين يتمركزون في شكل حلقات دينيّة روحيّة في بداية القرن الحادي عشر ميلادي وإلى عصورنا هذه يتبنّون الموسيقى باعتبارها وسيلة للتأمّل والصّفاء الرّوحي، تساعد على الوصول إلى حالات الانتشاء والمحبّة، لتغذّي الرّوح وتوقظ الجسم والقلب الغائب أو الغافل».

وهنا نلاحظ أنّ الطّريقة العيساويّة أنجز أتباعها مدوّنة إنشاد ومديح في مجال «مالوف الجدّ» اصطلحوا عليها بـ«سفينة المالوف العيساويّة»، اشتهر العمل بها خاصّة في تونس وشرق بلاد الجزائر، أمّا في غرب الجزائر (تلمسان) والمغرب الأقصى (فاس ومكناس) فتأخذ العيساويّة التّي تسمّى هناك «عيساوة» شكل غناء الطّرب الأندلسي (آلات وتريّة كمنجة وعود وآلات إيقاع مع تواجد وانتشاء دون طلب للجذب).

ومثلت الطفرة الثانية الطّريقة السّلامية نسبة إلى الشّيخ عبدالسّلام الأسمر التّي نأت بمجالس السّماع عن المسار الإسراري الخارق أو لنقل المظهر السّحري الغريب العجيب، لتتمّ العودة على نحو ما إلى تقاليد السّماع كما رسمها الششتري وتلامذته: حلقة أكثرها من حملة الدفّ إلاّ الشيخ (المقدّم) ينقر رقّا، ولا وجود «للحضّارة» (الدّراويش الشّاطحين)، وهو ما يعني أنّه ليس هناك رغبة في إيجاد أيّ نوع من الإبهار المشهدي أو فنون الفرجة، فلدى أصحاب الطريقة السّلاميّة هناك تشديد غير معلن على تأكيد متعة السّماع وبلوغ حالات الانتشاء الرّوحي، وثمّة دعوة إلى الاعتبار بمعاني الأشعار وأزجال الأمداح، غير أنّ مشهديّة الفرجة تتسلّل وتحضر بشكل أو بآخر من خلال أناقة اللّباس ومعالم الهيبة والوقار التّي تظهر على الشّيخ وبعض المنشدين، وترتسم من خلال حالات الانصهار الكلّي بين عناصر هذه الحلقة (الذّاكرين والمادحين) وعبر تملّي المعاني المستقاة من نصوص الأناشيد تلك المعاني التّي تستحيل اعتبارات ذهنيّة ومواجد نفسيّة تساعد على التلذّذ الرّوحاني، وتحقيق الحضور للذّات في الوجود، فعبر تلك القوالب الشعريّة الشعبيّة والفصيحة، ومن خلال أشكال الإنشاد المصطلح عليها بـ«سلسلة الفزوع» و«التّصلية» (الصّلاة على النبيّ). و«البحور» و«التّهليلة»، تؤسّس المجموعة السّلاميّة لاحتفاليّة سماع ذات مقاصد روحانيّة متعاليّة يكون مدارها مناجاة الله، واستعادة التّاريخ الرّوحي للعقيدة، بهدف تشكيله في المتخيّل الجمعي على صورة تبدو متناغمة مع مخزون الذّاكرة الجمعيّة، وتغدو حيّة في بنيان هذه الذّاكرة، لكونها تساهم في إيجاد صلات وروابط متينة بين افراد الجماعة، رغبة في تحقيق الاندماج والانصهار في كلّ حضاري ثقافي ديني روحي يصل الدّنيوي بالمقدّس، ويمنح للتجّربة الروحيّة معقوليّة ما، تكون عناصرها مستقاة من بنية المقدس ذاته ومن منطق الثّقافة السّائدة.

وهكذا مهما انفتحت الممارسة الطقسيّة لفنون الإنشاد والسّماع الصّوفي في الإسلام على ثقافات وتجارب روحيّة وجماليّة لأمم أخرى، فإنّها تظلّ محافظة على عناصر جوهريّة أصيلة نابعة من عمق الدّين الإسلامي وبها يستقيم استمرارها المتفرّد في التّاريخ، وتحقّق بموجبها انصهارها في الكلّ الحضاري والثّقافي الذّي به تتجسّد وحدة الجماعة، ومن خلاله يتكوّن كيانها ونسيج هويّتها.

طرق صوفيّة وألوان سماع

يضاف إلى ما تمّ التطرّق إليه أعلاه أنّ هناك طرقا صوفيّة كثيرة انتشرت منذ فترة مبكّرة ببلاد الغرب الإسلامي، وانفتحت بقوّة على أنماط إنشاد ومديح ذات شحنات روحانيّة من شأنها أن تؤثّر في المريدين، ومنها طريقة الشّيخ سيدي أبي علي النّفطي، فرغم أنّ النّفطي من العلماء وله مؤلّفات ورسائل في مسائل العقيدة، إلاّ أنّ أتباعه اتّجهوا بطريقته إلى إرساء تقاليد طقسيّة يصحبها لون من الشّطح وتنجم عنه حالات تروحن وانجذاب بالغ يصحبه وقع آلات «الدفّ والقندي» (وهو طبل صغير صنع من فخار، ويكون هرمي الشّكل).

وكذا الشّأن بالنّسبة إلى الطّريقة التّيجانيّة التّي تنسب إلى الشّيخ أحمد التّيجاني دفين فاس (ت1230هـ/1814م) وهي من أكثر الطّرق انتشارا بالغرب الإسلامي والقارّة الإفريقيّة وعددها من جهة الأتباع (المريدين) الذّين يسمّون بعضهم بعضا «الأحباب» كبير، وهي طريقة هادئة في أداء أذكارها وأناشيدها ومحافظة إلى أبعد حدّ، «لا جذب فيها ولا رقص ولا خوارق». وأورادها عبارة عن استغفار وصلوات على النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في صيغ مختلفة (صلاة الفاتح، وصلاة جوهرة الكمال) ثمّ ذكر لا إله إلا الله»، ويُسمّى مجموع تلك الأذكار والصّلوات «الوظيفة». وتؤدّى بمعدّل مرّة يوميّا في المساء. وقد أخذ الشّيخ إبراهيم الرّياحي (ت1266هـ/1850م) أحد أبرز علماء الزّيتونة مبادئ هذه الطّريقة عن الشّيخ التيجاني بفاس لينشرها في تونس. كما ألّف اتّباع هذه الطّريقة منظومات كثيرة في مدح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والشيخ أحمد التيجاني، أغلبها باللّسان الدّارج منها «السفينة التّجانيّة».

وفي الفترة نفسها ظهرت من شجرة الشاذليّة الطّريقة الحرّاقية بشمال المغرب (طنجة وتطوان) نسبة إلى سيدي محمّد الحرّاق (ت1261هـ/1840م) الشّاعر الصّوفي الذّائع الصّيت، وأغلب قصائده بالفصحى وتؤدّى على نمط الطّرب الأندلسي، بل لعلّ مريديه كغيرهم من أصحاب أغلب الطّرق الصّوفيّة الأخرى ساهموا بقدر وافر في الحفاظ على الموروث الموسيقي العربي. وظهرت في فجر القرن العشرين من فروع الشاذليّة كذلك الطّريقة العلاّوية نسبة إلى أحمد العلاوي المستغانمي بالجزائر، وهذه الطريقة تؤدّي أورادها في شكل قصائد ومديح بالآهات، فينطقون في نبرة واحدة توقيعا سريعا أه أأه، أه، أأه... في شكل وحدة إيقاعيّة يتمايل على صداها المريدون.

ويمكن أن ندرج في هذا الإطار كذلك أذكار الطّريقة الرّحمانيّة التّي تنسب إلى محمّد بن عبدالرحمن القشطولي (ت1793م) دفين الجزائر، ومدارها على ذكر اسم الله والصّلاة على نبيّه وإنشاد القصائد دون آلات.

ومن الطّرق التّي انفتحت على نماذج من فنون السّود الأفارقة في الإيقاعات والأنغام وأنماط الرّقص طريقة جماعات سيدي سعد الشوشان أو بوسعدية كما هو في تونس، أو للاّ ميمونة بالمغرب. ويسمّى مديحهم بـ«السّطمبالي»، لدى اهل تونس وبـ«قناوة» لدى أهل المغرب الأقصى. وقناوة نسبة إلى البلد الإفريقي غينيا الذي قدم منه هؤلاء السّود المسلمون ليتوزّعوا بجنوب البلاد المغاربيّة، وهم ينسبون أنفسهم من ناحية أخرى إلى بلال مؤذن الرّسول (صلى الله عليه وسلم).

وتكاد المصادر والمراجع أن تكون مفقودة تماما حول هذه الطّريقة ما عدا بعض الإشارات المتناثرة هنا وهناك أو بعض الشهادات الحيّة التّي دوّنت أخيراً عن بعض أعلام هذه الطّريقة.

لقد ارتبط فنّ «السّطمبالي» بالأحباش والسّود القادمين من الجنوب الشّرقي للقارّة السّمراء وظهر تقريبا في القرن التاسع عشر، ونسب خطأ إلى الباشا آغا السّطمبولي الذي يتحدر من مدينة إسطنبول بتركيا. وقد اندرج هذا الفنّ ضمن فكرة العلاج بالموسيقى من خلال الانتشاء الرّوحي وطلب الجذب عبر التّركيز على سماع الإيقاعات والأهازيج التّي تحدثها الآلات المستعملة في هذا النّمط الموسيقي مثل «القمبري»، وهي آلة وتريّة وإيقاعيّة في آن، تستخدم مع الطّبلة والشقاشق والقراقب باعتبارها آلات إيقاعيّة ذات جرس موسيقي نحاسي، من شأنه أن يساعد على تحصيل النّشوة وإيجاد حالات نفسانيّة ينصهر بموجبها الفرد في المفارق (المطلق) ويصطلح على ذلك في اللّهجة المغاربيّة المتداولة بـ«الجذبة» أو «التّخميرة» وفي هذه التّّسمية استعارة مجازيّة، بمعنى أنّ صاحب هذا الحال يصيبه طور من الاختمار والانتشاء النّفسي، فيكون مثله كمثل المخمور غير أنّ السّكر هنا روحي والخمرة بمنزلة الكلمة التّي ينجذب من خلالها الفرد إلى عالم مفارق، وهكذا فتذوّق معنى الكلمة والاستغراق بالكلية في معناها يفرز لدى أهل السّماع أحوالا وأطوارا من التّفريج النّفساني عمّا هو كامن في اللاّوعي الفردي أو اللاّوعي الجمعي. وهذا اللّون من السّماع الطّقسي الذّي يمكن أن نقول عنه إنّه سحري منتشر في البلاد التونسيّة وفي المغرب الأقصى بمدن الصويرة وأغادير ومرّاكش وببلاد السّوس (جنوب المغرب)، ويصطلح عليه لديهم كما سبقت الإشارة إلى ذلك بـ«قناوة»، نسبة إلى البلد الإفريقي (غينيا) الذّي تحدر منه أغلب هؤلاء، وهم يعتقدون أنّ كائنات روحانيّة كالجنّ وغيرها تحضر عند العزف والنّقر على القمبري وآلة الدّندفة المستعملة في جنوب المغرب (مرّاكش، أغادير والصّويرة).

وفي بعض الأحيان تقدّم هذه الطّريقة أناشيدها بلهجة غير عربيّة أصلا وإن تكن قريبة منها، ويسمّى ذلك بـ«العجمي»، ولا يقصد به أيّ انتساب إلى العجم أو إلى أقوام من غير العرب، وإنّما المقصود به مخاطبة قوى روحيّة من غير جنس البشر كالجنّ مثلا فتسمع ألفاظا من نوع : «قلاديمة» و«بابا جاطو» و«أمي يانا» و«يامو»... يردّدها مريدو هذه الطّريقة، وأغلبهم من الزّنوج الأفارقة ومريدي الوليّ الصّالح سيدي سعد الشوشان، ولديهم نوبة تسمّى «نوبة بوسعديّة» يتغنّون فيها بمناقب هذا الوليّ الصّالح، وغيره من الأولياء.

السّماع الصّوفي والفنّ الغنائي

لقد استلهمت عديد الفرق الموسيقيّة والمسرحيّة تراث الإنشاد والسّماع لدى الطّرق الصوفيّة، وأبرز تجربة تميّزت في هذا المجال هي مجموعة «ناس الغيوان» التي بدأت في الظّهور سنة 1970 في إطار فرقة مسرحيّة بالدّار البيضاء بالمغرب الأقصى، كان يشرف عليها المخرج والكاتب المسرحي الطيّب الصّديقي، لتبرز بعد ذلك بمنزلة المجموعة الموسيقيّة التّي تستلهم التّراث الصّوفي والشّعبي على السّواء في تركيبة معاصرة فيها تعبيرات سورياليّة ومنازع وجوديّة ومواقف من الواقع، وقد حقّقت انتشارا وشهرة واسعتين في البلاد العربيّة وفي العالم (أوربا على الأخصّ).

كما شهدت البلاد التونسيّة ميلاد عرض موسيقي مسرحي فنّي ركحي منذ فجر تسعينيات القرن العشرين، انطلق من محاولة استعادة عناصر فرجويّة وقيم جماليّة تضمّنتها مدوّنة السّماع الصّوفي بالبلاد المغاربيّة، سميّ «الحضرة» و«الحضرة» كناية على حضرة الشّهود أو حضرة التجلّي، وحضرة مقام النبوّة كما جسّمته قصّة «الإسراء والمعراج» أو مقام الولاية. وقد قام بإنجاز هذا العرض المخرج المسرحي الفاضل الجزيري الذّي عرف كيف يفجّر ذاك التدفّق الرّوحاني الإشراقي وما يشتمل عليه من حسّ وجدي استبطنته منذ قرون تجربة السّماع والإنشاد الصّوفي بالبلاد المغاربيّة، وجسّم جماليّة تلتقي فيها حبكة المشهد بمتعة السّماع الذّي تشارك في إنتاجه الجماعات (الجماهير) المتابعة بالمشاهدة لهذه الأنماط الفنيّة الفرجويّة. وفي الإطار نفسه ظهر عرض «طمبلة» الذّي أعدّه الفنّان جمال بوكراع واستلهم فيه موسيقى السطمبالي وأهازيج قناوة وسائر أنماط موسيقى الجذبة التّي عرف بها السود الأفارقة، وجمال بوكراع نجل الرّاحل الشيخ الحطاب بوكـراع (ت 2005) أحد أبرز شيوخ مقام سيدي علي الحطاب بالضاحية الغربية لمدينة تونس، وقد ترك رصيدا مهما من الأذكار والأناشيد يعمل راهنا ابنه جمال بوكراع على استثماره في عروض ركحيّة غنائيّة ذات أبعاد فرجويّة، واقتناعه أنّ الأثر الفنّي الجميل ينبغ من رصيدنا الحضاري الرّوحي ومن مدوّنة أجدادنا، وإنّما علينا أن نعرف كيف نعيد إنتاجه.

 

 

محمد الكحلاوي




جلسة سماع بالمغرب الأقصى





جلسة سماع صوفي بزاوية سيدي الحاري بتونس





الإيقاع هو الأساس في خدمة الأداء الصوتي





أثناء نشوة السماع





خرجة أبي سعيد الباجي





خرجة عيساوية





منشد وشموع وإيقاعات





كاتب المقال يحضر حفل سماع صوفي بطنجة





الشيخ الحطاب بوكرع





روعة الانشاد بالمغرب الأقصى





المخرج الفاضل الجزيري





بخور الجذبة والسماع