ظلام الضياء.. البردوني في قراءة نصية

ظلام الضياء.. البردوني في قراءة نصية

«..كما يرى بالسمع قلب الكفيف» «البردوني»

إذا كانت المناهج النقدية الحديثة ترفض البدء من حياة الكاتب أو الشاعر لتصل إلى نصه، فإنها ترى بحكم إعلائها للنص كفاعلية لغوية خاصة أن تعكس الفرضية لتبدأ من نصه وصولا إلى مؤشرات حياته وما يكتنفها من ظواهر وسمات ينبغي أن تظهر في النص صريحة أو مرمزة إذا كانت لها قوة المؤثر أو الموجّه النصي.

هذا ما حصل في قراءة شعراء مثل المعري وبشار وغيرهما ممن عانوا كالبردوني العمى منذ طفولتهم المبكرة، وانعكس ذلك في رؤيتهم الشعرية دون إعلان صريح أو شكوى مباشرة عالية النبرة، وصار شعرهم مجالا لفحص الانعكاسات اللاشعورية وغير المباشرة للعمى في نصوصهم كما تجسّدها اللغة والصور والتشبيهات والأفكار المتضمنة في النصوص. لكن ثمة بطاقات تعريفية تعين المحلل والقارئ في تأمل التعامل مع حالة العمى إذ لم يكن الشاعر اليمني عبدالله البردوني يحجب عماه بنظّارة شأن الكفيفين، مُظهراً بذلك استخفافه بالعمى بإعلانه مباشرةً، فهو بعدم وضع النظارة على عينيه يرفض الاختفاء وراء زجاج لايبصر به أو يضاعف قدرة عينيه على النظر،بل يقوم بمنع الناظرين إليه من رؤية مآقي عينيه المطفأتين فحسب.

وعلى مستوى ممارسة التحليل النصي والتطبيقات على النصوص كثيراً ما يتهم التحليل النصي بأنه انغلاق داخل النص لأنه يتجاوز المعلومات والأخبار القادمة من خارج النصوص، لكنه في حالة شاعر كالبردوني ضاج السيرة لعوامل عدة (عماه- الظرف الذي عاشه - شعبيته - بساطة أسلوبه..) في حالة كهذه يؤكد التحليل النصي أو القراءة كثيراً مما شاع..ولكن بأدلة لسانية ومستندات نصية.

الثنائية المهيمنة: ضياء/ظلام

سنجد مستبقين، التحليل سيادة مهيمنة الضياء والظلام المنبثقة عن عماه والمتخذة صوراً وتلاوين مقصودة أو غير مقصودة في نصوصه.. وهي تتمدد على متن النص وتختفي وراء صوره وتشبيهاته ولغته وتناصاته.

ومن تعامل البردوني مع العالم ككون محيط له أعرافه وثقافته وتقاليده فيتصل به عبر حاسة مفقودة ويقيم اتصالا بديلا هو الشعر وما تتيحه مجازاته وفسحة الخيال فيه من إمكانات الاستبدال والتعويض، والإخفاء والتعبير معا.

من هذا الكون اختار البردوني (العيد) لدلالته القوية على الفرح الجمعي موهما بأن العيد مناسبة للتعبير عن مشاعره التي يتوقعها المتلقي انعكاسا للفرح ومشاركة في البهجة التي تتخذ مظاهر خارجية يظهرها الفرد بحس المشاركة مع الجماعة في ذلك الفرح الذي تتطلبه العادات الاجتماعية وارتباط العيد بالتدين وطقوس العبادة أيضاً.

لكن قارئ شعر البردوني سيرى شدة عمل الثنائية الأزلية( ضياء/ ظلام) في شعره وحضورها في قصائده بقوة لافتة، متجاوزا مفردة النور مثلا لأنها ذات توسع دلالي روحي مرتبط بالإشراق والنورانية والفيض على الخارج بقوة الروح نفسها، أما الضياء فهو من المصادر المصطنعة التي ابتكرها الإنسان ليبدد الظلام ويرى ما حوله عيانيا، وليس للكشف والتعرف الروحي الذي يتيحه مصطلح النور.

وبذا يستفيض البردوني في مقابلة الضياء والظلام ويهبها وجودا رمزيا فنجد عنده كل تخلف ظلمة يرمز لها بالديجور والعتمة،مشبها بمقابل ذلك قيام الجمهورية مثلا بطلوع الفجر وإشراقة الضوء، ولكن ليس كل ضياء نورا، ففي الكون زيف وبهرجة تساوي أضواءه مع العتمات، وقد حضرني استبداله النظر لدى الكفيف بسمع القلب وهو الشطر الذي مهدت به لتحليلي هذا, لأنه تأكيد للاستبدال الدلالي لديه فقد جعل للقلب مهمة الرؤية العيانية وفي غياب النظر المطلوب للرؤية يورد الشاعر بديلا لذلك هو السمع بقوله (في قصيدة الرصيف ج):

كما يرى بالسمع قلبُ الكفيف
فقد زاوج الحواسَ سمعاً وبصرا

وأسندها للكفيف الذي صار قلبه عوضا عن عينيه وسيلة البصر، فأوكل للعاطفة مهمة الرؤية، ليكون ما يختاره منبثقا من قلبه لا من العينين اللتين شأن الحواس تكذبان، وربما تنخدعان كما في ظاهرة السراب الذي يتراءى ماء - مثلا، أو قياس برودة السائل بيدين غمستا بماء حار. بل زعمت في تحليلي أن الضياء مظلم لدى البردوني لا لأنه أعمى بل لأن الكون مختل. وسمع القلب البديل للرؤية لدى البردوني يذكرني بقول الشاعر الكفيف ابن العلاف: عيناي كفاي، وقول بشار معللا حالة أذنه العاشقة: الأذن تعشق قبل العين أحيانا، وها أنا أستعيد لقراءة البردوني تحليل نصه (في حضرة العيد) لاستجلاء تلك الدلالات المركزية في نصوصه.

في موقد النص

يتيح التحليل النصي ملء فراغات النصوص المحلّلة، وكشف مولّدات النص، وموجّهات قراءته و بذلك يمنح القراءة طاقة فاعلة وذخيرة ويهب القارئ فرصة إيقاظ ذاكرته عبر ذاكرة النص نفسه.

وستكون في مقدمة موجّهات قراءة قصيدة البردوني (في حضرة العيد) عتبة العنوان الذي يعلو الديوان حيث اندرج نص القصيدة، وهو (رواغ المصابيح) الذي أخذه الشاعر من إحدى قصائد الديوان.. فصار لوجود المصابيح المراوغة والضياء الكاذب سياقان:خارجي هو عنوان الديوان نفسه، وداخلي هو عنوان القصيدة.. فهل كان اختيار البردوني لعنوان هذه القصيدة عنواناً للديوان كله، تلخيصاً لرؤيته للبصر الأعمى، والمبصرين العميان، عبر استحضار المصابيح وهي أكثر رموز البصر إثارةً وأشدها إضاءة على مستوى الصنع؟

يعلو اسم البردوني عنوان ديوانه ليشير إلى شاعر شُهر بعماه، ولم يكن بإمكان أية قراءة تجاوز تلك العتبة، فعبر عيني الشاعر تصل المصابيح المراوغة، وكأن الشاعر أراد أن يخلق هذا التناظر المثير بين العمى والضياء عبر وضع المصابيح على غلاف ديوانه.

أما عنوان نصنا المحلل نفسه فيشير إلى سخرية مبطنة ومفارقة مدوية تخفيها عن القراءة لفظة (حضرة) المرتبطة بالتبجيل والاحترام وربما الهيبة لاقترانها بالمقدس والعالي.. وتعني الحضرة أيضاً الحضور بعد غيبة وهو ما يعززه الشطر الأول في النص: يقولون: جئتَ. لكننا سنكتشف أن هذه الحضرة زائفة وأن حضور العيد لا قيمة له، ولاجديد فيه.

لقد كانت مأساة عمى البردوني تتصاعد مع تصاعد وعيه بالأشياء من حوله، واصطدامه بنظام العالم وسلوك البشر، مما حّول شعوره ذاك مناسبة لمضاعفة غلاف العمى الذي يفقده قدرة التواصل البصري مع هذا العالم، فصار رفضه له واعتراضه عليه مزدوجاً، وصارت لدى القارئ مهيمنة كما هي لدى الشاعر وفي نصه.

المصابيح إذاً تراوغ المبصر، في أول النص وآخره، داخله وخارجه وتصبح أشد ظلمة من الظلام نفسه في تشبيه يضاعف ظلام القناديل، وكأنه ينقم منها أو يتشفى؛ لأنه يستخدم لفظ (أدجى) وهو أفعل تفضيل من الفعل دجى نفسه الذي يشتق منه الدجى كمرادف للظلام:

القناديلُ يادُجى منك أدجى

وفي خاتمة النص يقول:

راوغتْ أعينُ المصابيح، خوفاً
أو رجاءً، وهل رأتْ مَنْ يُرجّى؟

فبعد أن جعل للمصابيح عيونا قام بإطفائها فهي لا ترى، وإذا رأت فلن تجد رجاء أو أملا فهي يائسة، كما كانت القناديل مطفأة و أكثر ظلاماً من الدجى نفسه.. مع ملاحظة دلالة المصابيح والقناديل على الرؤية المجتلبة صناعيا وبالواسطة.

ويستمر البردوني في التوسيع فيجسد غياب البهجة الحقيقية ليشمل مفردات كثيرة: البرق يفر من الرعد قبل المطر، والنجم حائر لايدري ما طوى، والإضاءات لا تهتدي، والقناديل داجية، والشروق لاجديد فيه.

ولكن أكثر التمثيلات للخواء قوة قوله مخاطبا العيد:

إذا لم تشاهدْ ظلامَ الضياءِ
زريّا.. فأيكما المزدرى؟

فقد أضاف الظلام للضياء وسلب منه الميزة.فماذا سيظل من سبيل سوى القلب للرؤية بالمعنى المتسع المتجاوز فعل النظر كحيوية أو آلية بيولوجية؟

يقلب البردوني معادلة المعري القائل:

ربّ ليلٍ كأنَّه الصبحُ في الحسنِ
وإن كان أسودَ الطيلسانِ

لكنه يرى خلاف ذلك مبتدئا من الصبح الذي لا يرى له ساخرا متلاعبا بالألفاظ- أيَّ وجه صبيح:

لا للَّيالي سكرات الكرى
ولا لصحوِ الصبح وجهٌ صبيح

وفي القصيدة ذاتها من ديوانه (ترجمة رملية لأعراس الغبار) يجعل عناءه في الضحى، ولملمة روحه في الظلام:

تشت أنقاضي رياح الضحى
تلمني ريحُ الدجى كالضريح

ويتكرر ذلك في الديوان نفسه كقوله:

كان الدَّجَى يمتطي وجهي ويرتحلُ
وكنتُ في أغنيات الصمت أغتسلُ

وحيث أدار فكره حوله لن يجد إلا هذا الإحساس بالبرودة المقترنة بالظلام:

البردُ أبرد ما يكون
والليلُ أسهدُ ما يكون
ماذا هنا غيرُ الدجى الـ
مشبوه وحشيّ السكون؟

التناص-جذور النص ومشغّلاته

على المستوى التناصي والبحث عن مشغّلات النص ومحركاته الأساسية ونقاط التقائه بمصادره المؤثرة في لحظة كتابته وانبثاقها يمكن لنص كـ(في حضرة العيد) أن يستدعي قصيدة المتنبي الشهيرة:

عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟
بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ؟

نظرا للحالة السياقية المتشابهة في إطارها الحدثي: مجيء العيد وما يقتضيه من فرح وبهجة تناسب احتفاء الناس به وفرحهم بقدومه، بمقابل حزن الشاعر ويأسه من الفرح لأن العيد لم يعد بجديد، فلا أحد حول الشاعر يقاسمه الفرح كما يصرح في البيت التالي للمطلع:

أمَّا الأحبَّة فالبيداءُ دونهمُ
فليتَ دونك بيداً دونها بيدُ

ولكن البردوني يخاطب العيد بما يقال عنه على لسان الجماعة وهي تحتفل به:

يقولونَ:جئتَ. فماذا جرى؟
وماذا تجلَّى؟ وماذا اعترى؟

أما المتنبي فيبدأ من التساؤل: عيدٌ؟ دون إسناده لقائل، ربما ازدراء لناقل خبر مجيء عيد لن يعترف به الشاعر لأسباب و قناعات سيبينها في تضاعيف النص.فتتوالى بنية السؤال المهيمنة على استهلال نص المتنبي:

1 -عيد؟
2- بأية حال عدت؟
3- بما مضى؟
4- أم لأمر فيك تجديد؟

هذه الأسئلة الأربعة المتلاحقة في بيت المطلع لدى المتنبي ستناظرها أسئلة البردوني في مستهل نصه:

1- فماذا جرى؟
2- وماذا تجلى؟
3- وماذا اعترى؟

ولولا الجملة الخبرية التي حلت محل سؤال المتنبي: عيد؟ لكانت الأسئلة أربعة في النصين.

وبجانب الشبه في التساؤلات مطلع النصين نجد تمدد أسئلة البردوني ملحاحةً متتابعة من البيت الثاني وحتى نهاية النص.

إذاً فقد سرت عدوى السؤال الإنكاري من نص المتنبي إلى نص البردوني، وصار التناص سياقيا = مناسبة العيد، وبنائيا - هيمنة الاستفهام على النصين.

وفي نصنا المعروض للتحليل (في حضرة العيد) تستلم الذاكرة ما يوحيه ذلك الطقس الشعري المماثل وهو ما يشيعه نص المتنبي (عيد بأية حال عدتَ يا عيد) إذ سرعان ما تسيطر المهيمنة التناصية في هذا المجال فقد غدا الفعل (عدت) في قصيدة المتنبي: (جئت) لدى البردوني:

يقولون: جئتَ.فماذا جرى؟
وماذا تجلّى؟ وماذا اعترى؟

وذلك يعكس ضيقا وجوديا مستمرا لدى المتنبي من عودة لعيد خبر الشاعر زيفه ولاجدواه بينما هو إيقاظ وتذكير لدى البردوني يعبر عنه الفعل: جئت.

كما أن المولّد الشعوري للنصين واحد، فكلاهما يخاطب (العيد) ويجسّد منه (شخصاً) (عاد)، أو (جاء) فيتوجهان إليه بالسؤال:

- بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ؟ - المتنبي
- فماذا جرى وماذا تجلّى وماذا اعترى؟- البردوني

لكن الفارق أن المتنبي يرتد إلى نفسه ليعلن مفارقة العيد/ الحزن بينما يوسع البردوني المفارقة لتغدو عنده شاملة لخواء عام وظلام يعم ليشمل حتى الضياء:

العيد/ الحزن
الضياء/ الظلام

وهما دالاّن يتلازمان مع بعضهما، ويوسّع البردوني المفارقة لتشمل ماضي العالم (الزمن) وحاضره (الواقع) ومستقبله (الأمل).

مفردات الفراغ

وإذا تركنا المفارقة التناصية ومهيمنتها فسنجد توسيعات البردوني لخواء العيد وإفراغه من مدلوله، ومرادفة أي إفراغ الضياء من نوره..

فسنجد مرادفات ومفردات وصوراً أخرى، توقفت من بينها خصوصاً لدى ثيمة العقم حيث يخاطب البردوني العيد متسائلاً:

أما تجتلي كل برقٍ يفرّ
من الرعد من قبل أن يمطرا

لقد باعد البردوني معنى العقم ثلاث خطوات، فالمطر غائب لأن الرعد عقيم يفر منه برقه.

ويتلازم مع العقم إسناد العمى للعيد نفسه فيغدو ظلام الضياء مضاعفاً:

إذا لم تشاهدْ ظلامَ الضياءِ
زريّاً، فأيّكما المزدرا؟

وتحفل القصيدة بعمى العيد وخواء الضياء في تبادل إشاري مهم:

فالنجم حائر لا يدري ما طوى..
والسنى يجهل الضحايا
والعيد لا يدري من عبّأ الضوء موتاً
والإضاءات لا تهتدي
والقناديل داجية
والشروق لا جديد فيه
ورعاة النجوم لا تدريه

وهي كلها تجسد الحيرة وتلاطم المصائر في تيه من العتمة لا تبدده الإضاءات التي وضعها البشر تعلة وفرحا مجانيا لا يصدر من عمق القلوب؛ لذا يكون بلا ضوء إن انطفأ وسادت العتمة لتشمل كل شيء: النجوم ورعاتها، الضوء بأسمائه المتعددة: السنى /الشروق/ القناديل/ الإضاءات/ وهي كما نرى تشمل الضوء الطبيعي ومصادره: النجوم /السنى/ الشروق.كما تشمل الضوء المقتبس صناعيا: القناديل/ المصابيح /الإضاءات. ونلاحظ أن لا ذِكر للشمس إلا بعملها الفائض على الأرض: الشروق وهو عمل لا يستغرق كثيرا من الزمن، وهي حيلة لاشعورية يطرد فيها الشاعر لغويا وجودها من النص لتغدو مكملة للرؤية الظلامية المهيمنة على النص.

والعيد الخاوي المظلم سيتضاعف بؤسه ويأس الشاعر منه حين يظهر عجزه عن أن يعيد ما قالت:

لماذا تعود ولا ينثني
إلى العمر أمواتُ هذا الورى

ثم يعدّ شعراء العالم وأبطال أساطيره ومدنه المخربة والتي لا يملك العيد من أمرها شيئاً. ويصل اتهام العيد بالعمى ذروته في قول الشاعر:

لماذا ترى وجهَ هذا الزمانِ
كما يقرأ الأعمشُ الدفترا

وهي مصادرة لرؤية المبصر كما صادر الشاعر إضاءات القناديل والمصابيح ورأى أنها لا نور فيها.

نظرة أسلوبية

في الجانب الأسلوبي تتميز القصيدة بما امتاز به شعر البردوني:

- اختيار بحر قريب التفعيلات: فعولن فعولن (المتقارب) المتميز بقرب حركاته وسكناته ما يشيع جوا نغميا خاصا يتميز بالاختزال والسرعة ويناسب توالي الأسئلة وإلحاح الشاعر عليها في نصه.

- ويعزز هذا القرب في إيقاع التفعيلة القافية المقصورة الخالية من الحركة (اعترى/ ترى...) وهي ظاهرة تعم شعر البردوني وجديرة بدراسة منفصلة، فالقافية المقيدة لديه أي المستغنية عن الحركات في كثير من نصوصه لا سيما المتاخرة منها زمنيا تعكس رغبته في خلق إيقاع شعبي. فالمعروف أن العامة تميل في قراءتها للتسكين.وهي جزء من شعبوية طاغية في شعره تتمثل إضافة إلى القوافي الساكنة إكثاره من التسميات المحلية والمفردات الشعبية والأمثال والسخرية المقصودة.

- ونلاحظ أن القافية المنتهية بحروف التاء والراء والألف المقصورة(ترى) في كثير من الأبيات توحي بالرؤية لأنها يمكن أن تُقرأ: ترى إذا حذفنا سوابقها:

اعترى
افترى
ترى
امترى
اجترا
الدفترا

- ويمتزج السرد بالصورة الشعرية في موقف الشاعر مخاطباً العيد في حوارية واضحة منذ عنوانها واستهلالها وحتى خاتمتها. وهو بهذه الحوارية يسند السرد في نصه وتشخيصه للعيد في هيئة عاقل يخاطبه ويسائله، بل يضع على لسانه الإجابة التي يريدها هو في نهاية النص. فينتصر الشاعر في محاورته للعيد فيقول له:

سكتّ لماذا؟

وهي ربط سردي بالمقدمة: يقولون: جئت فماذا جرى، وفي عدد الأسئلة تتساوى هذه النهاية مع أسئلة المطلع تماما.

ولا نسمع للعيد صوتاً أو جواباً لأن الشاعر هو السارد أولاً ولأنه ثانياً يقصيه ويلغي وجوده فلا مكان له في النص إذاً.

وبين المجيء والسؤال، والسكوت والسؤال تنتهي القصيدة وتنتهي حوارية الشاعر والعيد.. رمز الفرح والسعادة كما هو مفترض.

لقد كان البردوني رائياً فريداً، سخر من هزال الحياة بهزل ذكي، ومن خداع ضوضائها وفراغ صخبها وظلام ضيائها بعرض مظالمها، والبحث عن عدل إنساني مفقود، واقتراب من الأرض وما عليها ومَن عليها من تعساء بالفقر، وفقدان الحقوق في مكان أبصره قلبه واسعا يتخطى الحدود ليلامس هموم الإنسان عامة.وهذا سر تجدد شعره بوعاء التجديد، وحداثة أفكاره بحداثة الرؤية.

ملحق: أبيات من القصيدة
في حضرة العيد
من ديوان (رواغ المصابيح)

يقولون: جئتَ. فماذا جرى؟
وماذا تجلى؟ وماذا اعترى؟
تراك الأغاني جديد الشروق
فأي جديد مفيد ترى؟
تزيد البيوت السجون القبور
فهل زاد شبرا أديم الثرى؟
وهذي البهارج، هل بينها
وبين المسرات أدنى العرى؟
فيا عيد ! أين هلال الشعوب؟
لماذا انطفى قبل أن يقمرا؟
أخلتَ زمان الغزاة انقضى؟
فهذا الهشيم الذي أثمرا
وهذي القناديل، هل تستبيك؟
أليس دجاها عليها افترى؟
وهذي الإضاءات لا تهتدي
وتهدي المسدس والخنجرا
أما تجتلي كل برق يفر
من الرعد من قبل أن يمطرا؟
إذا لم تشاهد ظلام الضياء
زرياً، فأيكما المزدرا؟
هل الأرض غير التي زرت أمس
أطارت بحور وماجت ذرى؟
وهل أنت غيرك في كل عامٍ
أبدلت في السير أو في السرى؟
لماذا تعود ولا ينثني
إلى العمر أموات هذا الورى؟
لماذا ترى وجه هذا الزمان
كما يقرأ الأعمش الدفترا؟
سكتَّ؟ لماذا؟ لسقم الكلام؟
أو انَّ السؤال عليك اجترا؟
لعلمي بأن الخطيرَ المخيف
يحث على نفسه الأخطرا

 

 

 

حاتم الصَّكر