أوراق أدبية: وظيفة الشاعر الإحيائي

 أوراق أدبية: وظيفة الشاعر الإحيائي
        

كانت صور الشاعر الإحيائي تتعدد بتعدد مهامه, فمرة نراه أشبه بالخطيب السياسي, وثانية أشبه بالمعلم الذي يعلّم تلاميذه ويشرح لهم, وثالثة أقرب إلى الواعظ الأخلاقي, وأخيراً أقرب إلى المصلح الاجتماعي.

           كانت الوظيفة العامة للشاعر الإحيائي (مثل محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وغيرهم) هي الوظيفة الغالبة على شعرهم بالقياس إلى الوظيفة الخاصة التي توارت تحت ضغط الوظيفة العامة وسطوتها. وما أقصد إليه بعبارة الوظيفة العامة هو غلبة المهام الاجتماعية والسياسية والأخلاقية على الشاعر الذي يتصور نفسه زعيماً للأمة, ومصلحاً لأخلاق الجماعة, ومعلماً يشيع فيما حوله القيم التي يريد تأكيدها بينهم, وكانت هذه الوظيفة العامة تجعل الشاعر الإحيائي منشغلاً بغيره أكثر مما كان منشغلاً بنفسه, ولم يكن الشعر عنده, في الأغلب الأعم, تعبيراً عن خلجات النفس, أو إعادة لتشكيل العالم. أو تجسيداً لرؤية تسعى إلى الإسهام في تغيير العالم, وإنما صياغة للأفكار والمشاعر التي تهم الجماهير والتي تحقق وظيفة التعليم بأوسع معانيها, ولذلك وصف بعض الدارسين المحدثين الشعر الإحيائي بأنه شعر (غيري). الشاعر يتحدث فيه عن الغير أكثر مما يتحدث عن نفسه, فهو ليس شاعراً ذاتياً بالمعنى الذي عرفناه, في المرحلة اللاحقة, وإنما شاعر جمعي, يتحدث عن الجماعة أو يخاطب الجماعة بشيء من مثل ما قاله شوقي:

إلام الخلف بينكم إلاما

وهذي الضجة الكبرى علاما

          وقد ترتب على ذلك أن غلب ضمير المتكلم وضمير المخاطب على لغة الشاعر الإحيائي, فنراه يستخدم أفعال الأمر والنهي, كما يستخدم من أساليب الإنشاء ما يتوجه بها إلى جموع القرّاء الذين كان يقرأ عليهم قصيدته في محفل يضم المئات أو العشرات, فالمؤكد أن الشاعر الإحيائي لم يكن يكتب لنفسه, أو يكتب لقارئ مفرد يخاطبه في توحّده, وإنما يكتب للجماعة التي يشعر بمسئوليته عنها, ويؤمن بأدواره التي تؤثر في حياتها, فكتابته موجهة إلى الجموع التي تعود أن يلقاها في المحافل العامة. وطبيعي أن يؤثر ذلك في لغة هذا الشعر وبنائه. ابتداء من استخدام الضمائر التي تحفز القارئ والمستمع إلى فعل شيء أو الانفعال به, وانتهاء بالتداخل بين صوت الشاعر وصوت الخطيب, ومن ثم التداخل بين أساليب الخطابة وأساليب الشعر. وفعل الأمر الذي ينطوي على ضمير المخاطب له دلالته المهمة في هذا الجانب, خصوصاً من حيث توجهه إلى المستمع بما يدفعه إلى اتخاذ وقفة سلوكية بعينها, وذلك على نحو ما نرى في أبيات تبدأ بهذا الفعل من قبيل:

قف بتلك القصور في اليم غرقى

ممسكاً بعضها من الذعر بعضا

          ولا أريد أن أستفيض في وصف الخصائص اللغوية التي انبنت عليها قصيدة الشاعر الإحيائي نتيجة الوظيفة العامة التي صاغت القصيدة الإحيائية على مثالها. وإنما أريد تأكيد هذه الوظيفة بالدرجة الأولى, وتأكيد إيمان الشاعر الإحيائي بها إلى الدرجة التي جعلت منها إطاراً مرجعياً يحدد به هذا الشاعر مثله الأعلى في الشعر, كما يجعل منها أساس الحكم بالقيمة على القصيدة التي كان ينبغي أن تهتم بالغير أكثر من اهتمامها بالأنا, وكان ذلك إلى الدرجة التي جعلت خطاب الذات خطاباً شاحباً عند الشاعر الإحيائي, الأمر الذي يجعل قارئ الشعر الإحيائي لا يلمح التعبير الوجداني الخالص لهذا الشاعر إلا فيما ندر.

          ولم يكن من قبيل المصادفة, والأمر كذلك, أن يتحدث الشاعر الإحيائي شعراً عن فهمه لوظيفة الشعر, فيقول شيئاً من مثل ما قاله البارودي الذي تحدث عن نفسه قائلاً:

وما كلفي بالشعر إلا لأنه

منار لسار أو نكال لأحمق

          وعندما نضع إلى جانب هذا البيت ما قاله البارودي من قبل من أن الشعر (ديوان أخلاق) فإننا نستطيع أن نكون فكرة واضحة عن الوظيفة الاجتماعية للشعر عند ذلك الشاعر. فنقول إن البارودي كان يؤمن بأن الوظيفة الاجتماعية للشعر تتحدد في ضوء اعتبارين, أولهما: أن الشعر وعاء يحفظ مفاخر العرب وفضائلهم الأخلاقية. وثانيهما: أن للشعر قدرة خاصة على تعليم القراء القيم الخلقية الصالحة التي تدفعهم إلى العمل الصالح وتجنّبهم العمل الطالح. فالشعر - فيما يقول في مقدمة ديوانه - (ينفث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك ويهتدي بدليلها السالك) و (لو لم يكن من حسنات الشعر الحكيم إلا تهذيب النفوس وتدريب الأفهام وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق, لكان قد بلغ الغابة التي ليس وراءها لذي رغبة مسرح), فما بالك وهو (معرض الصفات ومشجر الكمالات). فمن آتاه الله منه حظاً وكان كريم الشمائل, طاهر النفس (فقد ملك أعنّة القلوب ونال مودّة النفوس, وصار بين قومه كالغرة في الجواد الأدهم والبدر في الظلام الأبهم).

          ويعني ذلك أن الوظيفة الاجتماعية للشعر عند البارودي تتحدد في ضوء نظرة أخلاقية عملية, ولكن عندما نأتي إلى شوقي وحافظ, نجد أن هذا الأساس الوظيفي يتسع ليشمل إلى جانب الأخلاق القيم السياسية والقومية. وقد كان هذا الاتساع نتيجة لتزايد التناقض والصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة في مصر, خصوصاً بعد مجيء الحملة البريطانية, إذ لم يعد الخديو كما كان عليه من قبل سنة 2881. أعني لم يعد القوة الوحيدة المسيطرة التي تتجمع في يدها كل مظاهر السلطة والنفوذ. وإنما ظهرت إلى جانبه قوى أخرى عملت على منافسته أو على الاستئثار بالسلطة من دونه. وكان من أظهر هذه القوى سلطة الاحتلال, إلى جانب نفوذ الطبقات المصرية الوليدة التي أخذت تتكتل في الدفاع عن حقوقها, مثل طبقة كبار الملاك والطبقة المثقفة بجناحيها من مصلحين اجتماعيين وسياسيين, هذا بالإضافة إلى النفوذ الديني للسلطان العثماني خليفة المسلمين. وكان طبيعياً أن تكون هذه القوى المتنافسة في حاجة إلى من يقوم بالدفاع عنها والدعاية لصالحها. فاستغلت لذلك كل الوسائل الممكنة ومنها الصحافة,ونظرت إلى الشعر على اعتبار أنه وسيلة من الوسائل الصالحة للتبشير بالأفكار والمصالح, فتنافست القوى المختلفة فيما بينها على التقرّب إلى الشعراء ومحاولة كسبهم إلى صفوفها.

غياب الذات

          وقد توقف المرحوم الدكتور عبدالمحسن بدر على الآثار المترتبة على الوظيفة الاجتماعية للشعر على نحو ما فهمها شعراء الإحياء, وكان ذلك في أطروحته عن (التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث). وانتهى إلى أن شعراء الإحياء لم ينظروا إلى الأحداث السياسية أو الاجتماعية التي كتبوا عنها من خلال ذواتهم, وبوحي من شعورهم, وإنما نظروا إليها من خلال القوى التي يمثلونها, ويضرب عبدالمحسن بدر على ذلك مثلاً بحافظ إبراهيم الذي لم يكن يتحمس في المطالبة بالاستقلال والجلاء عندما يكون مرتبطاً بالإمام محمد عبده الذي كان يؤمن بالإصلاح التدريجي, أما عندما كان يرتبط بالحزب الوطني, فإن نوبة الحماسة كانت تنتابه, فينظر إلى القضايا السياسية والاجتماعية النظرة الحماسية نفسها للحزب الذي يتصل به. ويرجع عبدالمحسن بدر المواقف السياسية المتناقضة لشعراء الإحياء إلى هذا الموقف, مؤكداً دور القوة الاجتماعية السياسية التي كان يتقدم إليها الشاعر بقصيدته من ناحية, وظروف الشاعر من ناحية موازية.

براعة معترف بها

          ويتصل بذلك ما نعرفه عن شعراء الإحياء الذين كانوا ينظمون قصائدهم بدوافع خارجية في الأغلب, أعني أنهم ما كانوا ينظمون القصائد بدافع من أنفسهم أو نتيجة لحاجة داخلية تدفع إلى قول الشعر, وإنما كانوا ينظمونه بناء على طلب يقدم إليهم, وفي مناسبات يشعرون أنه من الضروري أن يسهموا فيها بكتابة قصائد, ولذلك أصبح الكثير من شعرهم داخلاً في تسمية أدب المناسبات, وكانت مهارة الشاعر تظهر في محاولة التوفيق بين المناسبة ومصالح الحزب أو مصالح القوى التي يعتمد عليها, كما لاحظ عبدالمحسن بدر بحق, وكانت النتيجة أن أصبح عمل الشاعر, أحياناً, أشبه بعمل الحواة, خصوصاً حين كان الشاعر يحاول التخلص من المآزق التي قد تدفعه مناسبة القصيدة إليها, ومثال ذلك رثاء شوقي للزعيم مصطفى كامل. حيث اعتمد الرثاء على فضائل مصطفى كامل الشخصية, ولم يتحدث عن مواقفه السياسية كي لا يتعارض الشاعر مع ولائه للقصر, وكانت هذه البراعة معترفاً بها في أعراف العصر الأدبية. بل كان الشاعر يمتدح على هذه البراعة, وذلك على نحو ما جاء في المقدمة النثرية التي كتبها الناشر لإحدى قصائد الشاعر أحمد نسيم في ديوانه (وطنيات) حيث تقول المقدمة: (دفعت الأريحية والنخوة العربية حضرة الشاعر المجيد والأديب البارع أحمد أفندي نسيم إلى أن ينظم قصيدة من أبلغ الشعر وأجوده وأرقه طبعاً وأمتنه جزالة في رثاء المرحوم الفقيد عطوفة بطرس غالي باشا, وتهنئة صاحب السعادة محمد باشا سعيد وزيرنا الأكبر, وهو موقف من أشد المواقف حرجاً على أرباب الأقلام, ولكن صاحبنا مرق منه مروق السهم, فياله من سحر البيان).

شعر الاجتماعات

          ويضيف عبدالمحسن بدر في كتابه أن هذا الموقف الذي انتهى إليه شعراء الإحياء في علاقتهم بالقوى السياسية والاجتماعية التي أخذوا يستمدون منها الحماية قد أفضى إلى نتيجتين. تتعلق الأولى بالاجتماعات السياسية التي كانت تعقدها الأحزاب المختلفة في المناسبات السياسية, وكان أبرز هذه الاجتماعات اجتماعات الحزب الوطني التي كان لها تأثير كبير في الشعراء في هذه الفترة. ولا نعجب لذلك إذا وجدنا للكثير من الشعراء قصائد في الاحتفال بعيد رأس السنة الهجرية. فقد كان الحزب الوطني يحتفل احتفالاً سنوياً دورياً بهذه المناسبة, وكانت هذه القصائد تلقى في مثل هذا الاحتفال, كما أن الإنسان قد يعجب من شدة اهتمام حافظ باليابان وحديثه عن نهضتها في الكثير من قصائده, ولكن هذا العجب يزول إذا عرفنا أن الحزب الوطني كان يعتمد في إثارة حماسة المصريين على ضرب الأمثلة لهم بهذه الدولة الشرقية الناهضة, حتى أن مصطفى كامل نفسه ألف عن نهضة اليابان كتاباً أسماه (الشمس المشرقة), وكما كانت هذه الاجتماعات تفرض على الشاعر موضوع قصيدته, فإنها كانت تفرض عليه أيضاً طريقة تناول هذا الموضوع. ولكي تظهر هذه الحقيقة بوضوح, يعقد عبدالمحسن بدر مقارنة بين ما قاله (محمد فريد) في إحدى خطبه في رثاء (مصطفى كامل) وما قاله حافظ في المناسبة نفسها, منتهياً - أي عبدالمحسن طه بدر - إلى أن المعاني توشك أن تكون مكررة فيما قاله الخطيب والشاعر, بل إن الصور نفسها تتكرر, فمصر تبكي دماً في خطبة محمد فريد, والنيل هو الذي يبكي دماً عند حافظ. وقد يقال إن المناسبة أو طبيعة الأدب العربي القديم في الرثاء هي التي فرضت هذا التشابه, ولكن التشابه هنا من القوة والوضوح بحيث لا يمكن أن يكون مصدره الشعر العربي القديم أو طبيعة الموضوع وحدهما.

          أما النتيجة الثانية التي يوضحها عبدالمحسن بدر, فتتمثل في المناسبات الصحفية, وذلك لأن الصحافة كانت من ناحية تمثل وسائل الدعاية للأحزاب والقوى المختلفة, ولأنها من ناحية أخرى, كانت قد أصبحت أداة للنشر قوية النفوذ يخطب ودّها الشعراء, ويحاول كل منهم بقدر إمكانه أن يتفوق على الآخرين في التجاوب معها, وكانت المناسبات الصحفية ذات مظهرين يتصل أحدهما بالسياسة الداخلية للبلاد مثل المناسبات السياسية المختلفة والصراع الحزبي بين الأحزاب والمشاكل السياسية التي تتعرض لها البلاد بوجه عام, وكان من السهل على الشعراء أن يساهموا مساهمة فعّالة في هذه الناحية في حدود ما سبق أن قدمناه من المحافظة على مصالح القوى التي ينتمون إليها, وحسب ظروفهم الخاصة, كما كان من المناسبات التي تتصل بحالة البلاد الداخلية المشاكل الاجتماعية وعلاجها كمشكلة اللغة أو المرأة أو التعليم وما يتصل بها جميعاً من مناقشات ومجادلات. ولكن الصحافة لم يقتصر ميدان جهودها على هذه الناحية وحدها, بل تعدت جهودها الميدان الداخلي إلى الميدان الخارجي. وقد حاول الشعراء المساهمة في هذا الميدان الأخير الذي كان متعدد الجوانب, فأخذ بعضهم يتحدث عن بعض مشاكل السياسة العالمية, وخاصة ما يتصل منها بمصر أو الشرق بصلات قريبة أو بعيدة من مثل الحرب الروسية ـ اليابانية أو حرب البوير. أو محاولات الغربيين استعمار الشرق في طرابلس وغيرها, أو حروبهم مع الدولة العثمانية, كما شملت جهود الصحافة في الميدان الخارجي الحديث عن بعض الأدباء الأجانب مثل (شكسبير) أو (تولستوي) والاحتفال بذكراهم, وحين حاول الشعراء المساهمة في الميدان الأخير, وقعوا في كثير من أوجه الخطأ, وذلك لجهلهم ببعض الأمور التي فرضوا على أنفسهم الحديث عنها, ويظهر هذا إذا تأملنا حديث حافظ عن الشعراء الأجانب مثل (فيكتور هيجو) أو (تولستوي) حيث نجده يشبههم بشعراء العرب, وغاية ما يقوله عن أحدهم أنه أصبح قريباً من مستوى أبي العلاء أو المتنبي في الشعر. وهذه الملاحظة الأخيرة لاحظها طه حسين حين تحدث عن قصيدتي شوقي وحافظ اللتين نظمتا بمناسبة ترجمة لطفي السيد لكتاب (الأخلاق) لأرسطو. فبين - في كتابه عن حافظ وشوقي - أن الشاعرين خلطا بين أفكار أرسطو وأفكار أفلاطون, وذلك على نحو يكشف عن ضعف ثقافتهما من ناحية, وعن أن المناسبات الصحفية فرضت عليهما موضوعات لم يكن يدخل في حدود طاقتهما التعبير عنها من ناحية أخرى.

شعر أم صحيفة?!

          وقد اشتد تأثر الشعراء بالمناسبات الصحفية, حتى أننا إذا تأملنا - على سبيل المثال - قصائد الجزء الثاني من ديوان (الكاشف) وجدنا عناوين هذه القصائد أشبه بالعناوين الرئيسية لصحيفة سياسية, فتجد قصيدة في الحرب الروسية اليابانية, وقصيدة عن مصر في مجلس النواب الإنجليزي, وقصيدة عن المسألة الشرقية, وقصيدة عن مقدونيا, وقصيدة عن فرنسا في مراكش, وقصيدة عن الحرب التركية ـ الإيطالية, وقصيدة عن حرب البلقان.. إلخ. ولكن لا ينبغي أن يفوتنا أن ظاهرة تأثر الشعراء بالصحافة تأخرت نسبياً نتيجة لأن نشاط الصحافة ظهر متأخراً. وبعد ظهور النزعات السياسية من جديد وتمثيل الصحافة لهذه الاتجاهات السياسية وما يتصل بها من اتجاهات فكرية.

المعلم الخطيب

          وقد ترتب على ذلك كله اتساع الأساس الأخلاقي العملي المحدود للوظيفة التي خص بها محمود سامي البارودي الشعر. فأصبح هذا الأساس مندرجاً في تصوّر اجتماعي سياسي أوسع. نتيجة المتغيرات الاجتماعية والسياسية, خصوصاً بعد أن أصبح الشعر مرتبطاً أوثق الارتباط بالدفاع عن مصالح القوة التي انضم إليها الشاعر وأخذ على عاتقه عبء الدعوة إلى مبادئها والدفاع عن مصالحها, ولذلك لم يعد الشعر كما كان عند البارودي (ديوان أخلاق) فحسب, بل أصبح في جانب كبير منه تعبيراً دعائياً, ولم يعد الشاعر معلماً للفضيلة فحسب, بل أصبح خطيباً وطنياً وداعية سياسياً, ودليل ذلك شعر أحمد شوقي, على سبيل المثال, ذلك الشعر الذي نقرأ فيه قوله:

والشعر إنجيل إذا استعملته

في نشر مكرمة وستر عوار

          لكن إلى جانب أقوال أخرى من مثل:

لم تثر أمة إلى الحق إلا

بهدى الشعر أو خطا شيطانه

          أو يقول لمصطفى كامل:

أتذكر قبل هذا الجيل جيلا

سهرنا عن معلمهم وناما?

مهار الحق بغضنا إليهم

شكيم القيصرية واللجاما

لواؤك كان يسقيهم بجام

وكان الشعر بين يدي جاما

من الوطنية استبقوا رحيقا

فضضنا عن معتقها الختاما

          وأتصوّر أنه رغم الفارق في هذا الجانب بين البارودي وشوقي, فإن خيطا قوياً يصل بين الاثنين من منظور وظيفة الشعر وتأثيرها في بنيته. قد يقتصر البارودي على الأخلاق ويتعدى شوقي ذلك إلى السياسة والتربية القومية, لكن كليهما يظل يمارس دور المعلم والخطيب. والسؤال الآن: ما تأثير ذلك في شعر الشاعرين معاً? إن المعلم والخطيب بحكم وظيفة كل منهما لا يهتمان عادة بذاتهما أو مشاعرهما الخاصة إزاء الأفكار والقيم التي ينقلانها أو يريدان أن يقنعا بها, بقدر ما يهتمان بتوصيل هذه الأفكار بأكبر قدر من الوضوح, وبطريقة حجاجية خاصة تدفع المستمع أو المتلقي إلى الاقتناع بصوابها أو عدم صوابها, حسب ما هو مطلوب منهما. وهذا ما حدث لكل من شوقي وحافظ, أو ما حدث للشاعر الإحيائي بشكل عام. لقد دفع به فهمه لوظيفته الاجتماعية إلى تقمص شخصية المعلم والخطيب والواعظ, فكانت النتيجة تقلص حديثه عن ذاته إلى حد كبير, ولم يعد ضمير المتكلم - عنده - هو الأساس بقدر ما أصبح هو ضمير الخطاب, ويمكن للقارئ أن يتصفح دواوين الإحيائيين ليرى أن أغلب القصائد توجه دائماً إلى مخاطب أو مخاطبين, وتلح عادة على أفعال الأمر والنهي.

الرجوع إلى النفس

          ولعله من المفيد أن نقول في هذا المقام إن إحدى عشرة قصيدة لشوقي مثلا, في الشوقيات, تبدأ بفعل الأمر (قم) أو (قف) وهذا أمر طبيعي, فالشاعر مطالب - في ظل ارتباطاته الاجتماعية - بالحديث إلى الناس لا عن ذاته, وإنما عن آراء وأفكار ممثلي القوة الاجتماعية التي ينتمي إليها, حتى اختياره لموضوعه لم يعد الأساس فيه هو إحساسه الذاتي بضرورة التعبير عن هذا الموضوع بالذات, بل أصبح الأساس هو الواجب الاجتماعي وما يهم الجماعة ويثيرها ويعلمها. فضلاً عن أن طريقة المعالجة نفسها قد أصبحت خاضعة لحكم الظروف والمناسبات. فإذا أضفنا إلى ذلك تأثير حركة مدرسة (الديوان) في مرحلة لاحقة. تلك المدرسة التي هاجم ممثلوها (عباس العقاد وإبراهيم المازني وعبدالرحمن شكري) عدم صدق الشعر عند علمي الإحياء - حافظ وشوقي - فإننا نفهم لماذا ربط الشاعران شعرهما بالمناسبة الاجتماعية, وكأنهما أرادا بذلك أن يخلصا من نقد عدم الصدق إلى مهرب أيسر من الرجوع إلى النفس. وهو الالتصاق بقضايا تهم الجماهير التي يوجّهان إليها شعرهما, ليحققا بذلك التعاطف الذي زعم نقاد الديوان - بحق - أنه لا يوجد بينهما وبين كل من يستمع لشعرهما.

شعر غير عميق

          والواقع أن وظيفة الشاعر الاجتماعية, على النحو الذي فهمت به في عصر الإحياء, كان لابد أن تترك تأثيرها في طبيعة الصور الشعرية ذاتها وكيفية معالجتها, إذ لم تكن الصور وسيلة يستكشف بها الشاعر تجربته الخاصة في الشعر. فضلاً عن أنها لن تنبع من حاجة الشاعر الداخلية للتعبير الملائم عن مشاعره وانفعالاته الخاصة, بل أصبحت من الوسائل التي يقنع بها الشاعر جماهيره التي تستمع إليه ويدفعها نحو الفعل أو الانفعال الذي يتناسب والغاية الاجتماعية أو السياسية أو حتى الأخلاقية لقصيدته. ولما كان شاعر الإحياء يخاطب, عادة, جماهير غفيرة, ونحن نعرف أن أكثر من نصف الشعر الإحيائي قد ألقي في محافل جماهيرية, فلم يكن الشاعر في حاجة إلى التعمّق أو تقديم صور تحتاج إلى تأمل ذاتي طويل, ذلك أن المقام الجماهيري يستلزم, عادة, أن تكون الصور ذات طبيعة توضيحية تناسب ضجة المحفل وشعوره الجمعي.

          وعندما تصبح الصور وسيلة من وسائل الإقناع, فإنها تفقد الكثير الذي يمكن أن تتيحه للقارئ من ثراء عاطفي وتعدد في الدلالة وتنمية للتجربة التي تقدمها القصيدة, فضلاً عن أنها لن تصبح الوسيط الأساسي الذي تصل إلينا التجربة عن طريقه, بل تصبح ثانوية القيمة إزاء الفكرة التي يريد الشاعر إقناعنا بها, لأن الفكرة هي الأساس, أما الصور فهي مجرد وسيلة ثانوية مضافة.

 

جابر عصفور