وقـت التجلي

   وقـت التجلي
        

شعر

(1)

          عَلاني سحابٌ لهُ شكل وجهكِ, قلتُ المعاد أَتَى, وركضتُ مع الراكضينَ,

          ولكنما الغيثُ أبطأ دهراَ ـ طويلاً مريراً ـ إلى أن تصايحت الناسُ: رُحكماك بالظامئينَ,

          لقد جهدوا وعيونهمو لمْ تزلْ بالسماءِ معلقةً, وهمو يرتجونَ, ألا فاعلمي أنهمْ ـ بعد حين ـ إذا ألفوا طعم هذا الظما واستكانوا له, سوف ينسون وجهكِ, مهما أذكرُهم بملامِحِهِ سوف لا يذكرونْ.

(2)

          سألتكَ بالله يا نيلُ إلا تجليتَ, يا طول ما قد تخفيتَ, بل قد تخذْتَ حجاباً من الماءِ, لا الماء أنتَ, ولا مِن حجابٍ سيستركَ الدهرَ عن أعين العاشقينْ.

(3)

          يسالُ النيلُ عما جرى, فاسألوهُ, أنا أتقلبُ في ظمئي, بينما فَرُتَ الماءُ للشاربينَ, هو النيلُ كان يسوغه وهو يسقيهِ للواردينَ, فإن صدروا عنه حنوا, ولم يلبثوا أن يكروا له راجعينَ. وإني حننتُ, فعدتُ, ولكنني لم أجد منه غير الذي يجدُ العابرون.

(4)

          إلى أين صِرْنا?

          أراكَ كما أنتَ: في النخلِ أو في عيون الصبايا, وفيما تسجله صـور السائحين, وأما أنا فلقد صرتُ خارج كل الجهاتِ, ونهباً لأهون ريحٍ, إذا ما تهبُّ يرفرفُ قلبـي, كأني تعلقت وسط الفضاء, دوار "تخطفني فانخطفتُ, تناثرت الروحُ مني شـتاتا, فلم أدرِ كيف ألملمُ أشلاءَ ذكرى.

          ظللتُ أجاهد طيلة عمري لكيلا تضيع, إلى أنْ تيقنتُ أن هي ضاعتْ, وإن الضياعَ يقينُ الضياعِ (وأى فتى قد أضاعوا", تبين لي ـ الآن ـ أني انتهيتُ إلى موقفٍ بين بين, فلا أنا أهبطُ, أو أنا أرقى, وليس لقلبي به مستقر, وكيف يقر بحال, إذا كانت الحالُ ليستْ من الحال حقاً, إذا هو حل بها, صار لاشيءَ يمسكهُ, راح ينسى مواعيدهُ ووجوهَ الأحبةِ, يحتارُ من أين يبدأ. إن ابتداء الخطى ـ مثلما أنتَ تعرفُ ـ ينبى بآخرها, هذه وقفة قد تطولُ, وقد لا تطولُ, ولكنها في النهاية حالك, وهي التي كل ما تملكُ الان في زمنٍ لم تعد فيهِ معجزةٌ, غير هذا الفضاء اللعين.

(5)

          يقولُ لي النيل: لما يحن ـ بعد ـ وقتُ التجلي

          فأدركتُ أني سأبقى طويلا, وحالي هي الحالُ

          إلا إذا شاء أن يعتق الروحَ

          من أسرِ هذا الدوارِ

          ويطلق هذا السجينْ

 

فتحي فرغلي