امرأة فوق الرأس

  امرأة فوق الرأس
        

بقلم: ألبرتو مورافيا

 

          بعد أن عزمت على صنع المستحيل للحصول على عمل وافقت على أن أصبح ساعيا لدى (غايتانو كروستاروزا) صاحب إحدى وكالات السفر والسياحة.

          ومكتب هذه الوكالة بسيط لا يعدو كونه غرفة ضيقة مستطيلة تصلح لأن تكون محلا لبيع مرطبات (الجيلاتي) وليس وكالة للرحلات والسفريات, ولم يكن عدد العاملين يزيد على ثلاثة أشخاص, وكنا كلنا نشغل نفس الغرفة.

          وفي أحد الأيام من بدئي العمل رن جرس الهاتف وكنت وحيدا فرفعت السماعة وتناهى إلي من الطرف الآخر للخط صوت رقيق عذب, كصوت الأطفال يسأل:

          ـ هل السيد كروستاروزا موجود?

          فاجبت حسب التعليمات المعطاة لي:

          ـ كلا فقد توجه إلى وكالة الطيران.

          ـ مع من أتكلم?

          ـ مع الساعي لويجي, ولكن المعذرة: من تكونين يا سيدتي? فلقد أوصاني السيد كروستاروزا بتسجيل أسماء جميع الذين يطلبونه على الهاتف.

          ـ إنني السيدة كروستاروزا.. لويجي ألا تشعر بالسأم?

          كان سؤالا غريبا غير متوقع أصابني بالحيرة, فأجبت مغمغما:

          ـ إيه يا سيدتي لاشك أن السأم ينتابني أحيانا إلى حد ما.

          ـ اسمع يا لويجي: ان الضجر يملؤني لحد الشعور بالاختناق ولم يعد بمقدوري التحمل أكثر.. لويجي قل للسيد كروستاروزا حين عودته إنه لا فائدة ترجى من الاتصال بي هاتفيا لأنني سأرمي بنفسي من النافذة حالا واغلقت السماعة.

          وانا الذي لم أكن قد تعودت بعد على مثل هذه "الهستيريا" هالني الخبر, إذ إنني أواجه امرأة تعتزم القاء نفسها من النافذة دون أن يكون في وسعي فعل أي شيء.

          ومر نصف ساعة وعاد كروستاروزا إلى المكتب فاندفعت نحوه أصيح متقطع الأنفاس:

          ـ أسرع, أسرع يا سيدي, فقبل قليل اخبرتني السيدة كروستاروزا بأنها سترمي بنفسها من النافذة!

          اكتفى بالنظر إلي دون أن يبدو عليه أي انزعاج ووضع في درج مكتبه بتأن البطاقات التي كان يحملها بيده, ثم رفع سماعة الهاتف وطلب رقم المنزل, وسمعته يقول لزوجته:

          ـ يا عزيزتي: لماذا قلت ذلك الشيء المقيت للويجي? إنك تسببت في إثارة فزعه الشديد! واضاف بعد فترة صمت قصيرة: كلا يا عزيزتي, يا ملاكي عليك عدم التفكير في ذلك إذا كنت تحبينني كما تقولين. فكري في طفلتنا الصغيرة يا فتاتي. اذهبي لارتشاف فنجان شاي في أحد المقاهي, أو اتصلي بصديقتك "اليتشي" لتلعبا الورق!

          واستمر الحديث بينهما على هذا النحو فترة طويلة.

          وبعدئذ تكررت مثل هذه المكالمات ومن خلالها اطلعت على أن الإجابة الوحيدة التي كانت تكررها على مسامع هذا الإنسان النبيل لا تخرج عن العبارة التالية: إنني سأرمي بنفسي من النافذة. نعم هذا ما سوف افعله: سأرمي بنفسي حالا!

          وجاء شهر يوليو وقام كروستاروزا الذي لم يكن بالميسور الحال بتضحية كبيرة, إذ أرسل زوجته مع المربية والطفلة إلى أحد الفنادق الفخمة في منتجع "كورتينا دامبيزو". ربما لن تصدقوا كلامي, ولكنها واصلت من هناك تهديداتها بنفس الطريقة والكلمات, ووجه الاختلاف الوحيد انه بدلا من شارع "كارونتشيني" في روما حيث يوجد مسكنهما شرعت تتصل به هاتفيا من كورتينا. وبطبيعة الحال كان يتعين عليه دفع رسوم المكالمات: مئات الليرات عن كل 3 دقائق, وكان العرق الغزير يتصبب من المسكين وهو يرى المال يتسرب من بين اصابعه فوق ما يعانيه من قلق,ورغم ذلك لم يعمد إلى اختصار المكالمات وإنما ظل عبر الهاتف يهدئ من روعها ويرجوها طويلا عدم تنفيذ وعيدها بإلقاء نفسها من النافذة.

          وانقضى الصيف ورجعت السيدة إلى روما لتستأنف من جديد عزفها على نفس النغم والوتيرة ولربما بمزيد من السوء أىضا, فلقد لاحظت أن كروستاروزا بات أكثر عصبية حتى عندما تتحدث إليه زوجته عبر الهاتف. وفي أحد الأيام طلبته مرة أخرى كعادتها, فاختطف الساعة ورد بسرعة واقتضاب:

          ـ انظري يا عزيزتي: لا تتوفر لدي ولا لحظة فراغ, على أي حال سأبعث إليك برسالة مع لويجي.

          وذهبت, وقد فوجئت بالمنزل الجميل الحديث الذي يقطنانه, وأقلني المصعد إلى الطابق الثاني فوق الأرضي, ووجدت نفسي في شقة الأسرة الفخمة مما جعلني أفكر رأسا: "لو أن لي مثل هذه الشقة حقا لما خطرت فكرة إلقاء نفسي من النافذة على البال مطلقا", وألفيت السيدة كروستاروزا جالسة على مقعد وثير قبالة النافذة المفتوحة.

          وفي الواقع كنت اتصور السيدة على نحو مختلف تماما, أي أن تكون رغم صوتها الرقيق امرأة قبيحة الشكل متعجرفة شعثاء الشعر مخيفة, غير أنها كانت كصوتها, سيدة شابة رقيقة الاهاب والملامح ذات ثغر كالوردة وعينين جميلتين نجلاوين, رغم نظرتهما التي تنم عن عذاب دفين. وسمعتها تقول:

          ـ اذن انت لويجي أليس كذلك? وسرعان ما طفقت تردد نفس العبارات التي تطلقها في الهاتف:

          ـ الضجر يقتلني. إنني سئمت كل شيء, ليس بوسعي تحمل المزيد. سأقذف بنفسي من النافذة. أجل: هذا ما سأقوم به الآن!

          وأنا الذي لا أدري كيف أصنع اقتربت منها وجلست على مقعد بقربها وأجبت:

          ـ سيدتي, لا تقولي هذا!

          فسألتني بدهشة وهي تبعد يديها عن وجهها وتحدجني بعينيها النجلاوين الرائعتين: ولماذا يا لويجي?

          فرددت مجيبا:

          ـ ذلك لأن الحياة جميلة يا سيدتي.. انظري إلي: أنام في قبو تحت السلم, وطعامي الأساسي كسرة الخبز, وحذائي مهترئ ومع ذلك لا يراودني السأم ولا القنوط ولا أفكر بإلقاء نفسي من النافذة.

          ـ ولكنك أنت من الناس الآخرين: من الشعب.. أنت مثلا لديك على الأقل الفقر لكي تفكر فيه, أما أنا فليس لدي شيء على الإطلاق.

          وفي هذه اللحظة رن جرس الهاتف فرفعت السيدة السماعة وصاحت: أوه, أهذا أنت يا غايتانو?

          لقد كان زوجها, وفكرت بأنه اتصل ليخلصني من مهمة إقناعها, ولذا انسحبت من الغرفة وغادرت المسكن.

          والباب الخارجي يقع تماما تحت شقة آل كروستاروزا, وتحت النافذة على وجه الضبط, وفي لحظة خروجي إلى الشارع سمعت فجأة جلبة مع صرخة وانهد فوقي شيء ثقيل وفقدت الوعي, ولم أعد اذكر شيئا.

          وأفقت في المستشفى, فوجدت نفسي على سرير وسط أسرة أخرى كثيرة موزعة على جانبي قاعة واسعة بيضاء, والأربطة تلف سائر أجزاء جسمي, وشعرت بأنني لست في حالة طيبة, وأوضحت لي الممرضة اللطيفة الجالسة بجواري ما الذي حدث باختصار: فكما كان يحصل دائما هددت السيدة كروستاروزا زوجها قائلة هذه المرة أيضا: إنني سأرمي بنفسي من النافذة, هذا ما سوف أفعله الآن! ويبدو أن السيد فقد أعصابه وصبره في النهاية وربما تحت تأثير الريح الجنوبية الشرقية اللافحة أيضا فرد بسأم: حسنا, هيا ارمي بنفسك!", وعندها أفلتت السيدة السماعة وهرعت صوب النافذة وألقت بنفسها رأسا, ولحسن حظها سقطت فوقي لحظة خروجي من المبنى, أما النتيجة فماثلة للعيان: أعاني من كسرين أو ثلاثة في الأضلاع, وإصابات أخرى شتى, وأما هي فباستثناء الأزمة العصبية لم يلحق بها أي أذى, إذ إنني خففت من سقوطها: امتصصت شدته وكنت بمنزلة الوسادة لها, والآن ارقد أنا في المستشفى بينما هي باقية في بيتها الوثير.

          وبعد قليل أطل على قاعتنا الأستاذ: كبير الأطباء يحيط به أعوانه والمعيدون وثلة الممرضين والممرضات, ولما رآني قال لي ويبدو أن حالتي اختلطت عليه بين العدد الكبير من مرضاه:

          ـ حسنا أيها الفتى, إنك لمحظوظ, ما بالكم أيها الشبان: لا شيء في رءوسكم سوى النساء!".

          وتقدم أحدهم وراح يشرح له بصوت خفيض أن سرير الشاب الذي حاول الانتحار بسبب هيامه بفتاة يحبها يقع في الطرف الآخر.

          على أنني تدخلت بنفسي لشرح الموقف وقلت:

          ـ سيدي الأستاذ, لا تقل إن النساء موجودات في رءوسنا, والأصح في حالتي أن هناك امرأة واحدة فقط وهي ليست داخل الرأس, وإنما جاءت فوقه!.

 

عبدالله الصوفي