مساحة ود

مساحة ود

صيام العصفورة

عندما كنت أثبِّت لأطفالي هلالاً ضوئياً، تحيطه نجمات غامزات على شرفة البيت؛ ابتهاجاً بقدوم شهر رمضان، عنَّت على بالي طفولتنا العامرة بأحلام باذخة، عن شهر كان يربض في نهايته عيد جميل، كنا ننتظره بفارغ الحب، ونشهر أمنياتنا عن ثياب نرسم ألوانها بغمضة عين، وعن حذاء لمّاع نقبله؛ حتى لو كان واسعاً بمقاس أو مقاسين، فكم كان جميلا ذلك الرمضان، الذي أحببناه لأجل العيد.

اللسان الممدود من الفم، كان دليلنا القطعي على الصيام، ففي أعراف الطفولة، إن كنت بحق صائماً كما تدعي؛ فعليك أن تمدَّ لسانك حتى آخر مداه؛ فإن كان لونه يجنح نحو البياض؛ فأنت على قيد الصيام، أما إن كان موشى بالأحمر؛ فيبدو أنك كنت صائماً، ولكنك نسيت أكثر من مرة، فالتهمت حبة بندورة، قبل قليل.

وأحيانا كان لا يكفينا هذا الدليل، فنلجأ لقرص جلدة يدي مدعي الصيام، بقسوة حاقدة، فإن عادت الجلدة المقروصة إلى موضعها ببطء شديد، فأنت صائم بحق، أيها الولد الرجل، أم إن عادت بسرعة كبيرة؛ فأنت لا تستحق أن ترافقنا، نحن الصائمين الزلم (الرجال).

وأول عهدي بالصيام، كان صيام العصفورة، كما كانت تسميه أمي، أي أن يظل الواحد فينا صائماً وصابراً؛ حتى يصحو من نومه!، وقبل أن يمسح توالي النعاس عن عينيه نصف المغلقتين، يحل له أن يشتبك مع قطف عنب، مازال على طاولة المطبخ منذ سحور ليس ببعيد، أو بطعام مسخن على عجل من إفطار الأمس. وتحت تأثير أحاديث الأصحاب عن السحور، وكيف يرفعك من مرتبة العصافير، قمت بثورة عرمرمية أجبرتهم أن يوقظوني للسحور، حتى ولو بالماء البارد يصبونه في صيوان أذني، ومن يومها صار عليَّ أن أصوم بطريقة (درجات الجامع)، أي الصيام التدريجي المتأني، فاليوم الصوم للعاشرة صباحاً، وبعده للعاشرة والربع، ثم لما قبل الظهر، وبعدها للظهر، ثم للعصر، حتى تكمل يومك لصوت المؤذن، وعندها ستصير كبيراً، وكم كانت أفكار هامسة تراودني أن أبقى أبداً على قيد درجات الجامع.

كنا نتوضأ لصلاة العصر مرتين أو أكثر، حسب درجة العطش التي تسيطر علينا، وفي كل مرة كنا نمعن بالمضمضة، ثم نزيدها تركيزاً! حتى أن أحد الأشقياء، كان يسرُّ لنا، أنه لولا هذه المضمضة الرائعة في الوضوء؛ لمات عطشاً منذ أول يوم صيام!

قبيل الإفطار بقليل تبدأ الصحون العامرة بالأطايب والأطباق المترعة بالتناقل بين البيوت، فالجيران كانوا يتبادلون الطعام؛ لتحل البركة بينهم! وكم كنت أتمنى، أن تكلفني أمي بنقل صحن (المحاشي)، إلى جارتنا الحاجة مريم، فعلَّ النسيان يحالفني هذه المرة أيضاً، وأقضم حبة كوسى محشوة رزاً ولحما دون أن أدري!

فجميل هذا الهلال الغامز، على شرفة بيتنا، أيها الأولاد، إنه يعيدني طفلاً بأحلام تبقيه دوماً على قيد الفرح والمحبة. وكل رمضان وأنتم بخير.

 

 

 

رمزي الغزوي