اللغة حياة.. استفتاء الإحساس اللغويّ لا يُغني

اللغة حياة.. استفتاء الإحساس اللغويّ لا يُغني

أَلّف أحد أصدقائنا الراحلين -رحمهم الله - كتاباً عنوانه: «اللغة ليست عقلاً» عرض فيه نظريّته اللغويّة التي جعلها أساساً لأبحاثه؛ وملخّصها أنّ اللغة إحساس لا حسابات عقليّة «تعكّر نقاء الكلام وتفسد السويّة»، وأنّها ليست، بالتالي، احتكاماً للعقل أو «عقلنةً»، بل هي سليقة أو ملَكة، لاسيّما أنّ «أحكام النحاة وقواعدهم مشوبة» (كذا).

والحقّ أنّنا نشعر، أحياناً، بنـزاع بين القواعد التي وضعها النحاة واختلفوا فيها، وبين اللغة المستعملة في المصادر الموثوقة. ولا شكّ في أنّ من النحاة من لم يتورّع عن تعقيد اللغة حين قعّد لها، وخصوصاً أنّ أكثرهم غير عربيّ، ويبدو كالوصيّ على وارث غريب. ولقد بيّنا في بعض أبحاثنا أنّ قاعدة «لا» النافية للجنس، مثلاً، تخرج في كثير من تفاصيلها عن المستعمَل في اللغة، وأنّها لو اقتصرت على ما هو مستعمل لكانت أيسر كثيراً ممّا في كتب النحو؛ كما بيّنا، في بحث آخر، أثر العقل الفارسيّ بصفة خاصّة، في النحو العربيّ، لكثرة النحاة ذوي الأصول الفارسيّة؛ فالنحو العربيّ لا يبدو، إذن، عربيّاً خالصاً، وهذا يعرفه العلماء؛ وإذا أردنا الترفّق قلنا إنّ النحو لا يستند، دوماً، إلى المستعمَل الموثوق، بل كثيراً ما يكون مجرّد احتمالات، وربّما تجرّأ النحويّ فاخترع أو حرّف نصّاً من أجل إثبات قاعدة لا سند لها، ولذلك قيل :« أكذب من نحويّ». ولعلّ هذا ما قصده صديقنا بالقواعد المشوبة.

لكنّ تلك الحقائق لا تسوّغ التعويل على الإحساس الفرديّ، خلافاً لما ذهب إليه صديقنا، ولو عوّل كلٌّ على إحساسه وحده لنشأت من العربيّة عربيّات، ولصحّ حينئذ قول المتنبّي:

كدعواكِ كلٌّ يَدّعي صحّةَ العقلِ
فمن ذا الذي يدري بما فيه من جهلِ؟

وما أكثر من يدّعي سلامة الحسّ، ويرجّح استعمالاً أو يخطّئ آخر بمقتضى ذوقه وسليقته. فالإحساس الفردّي لا يجوز اتّخاذه مقياساً؛ وتخيّلْ لو أنّ أحدهم قال لزميل له مساوٍ له في العلم والذائقة الأدبيّة والمراس، إن لم يكن أعلى كعباً منه: إنّ سندي في ما أُخطّئك فيه هو إحساسي اللغويّ العربيّ السليم! ولو كان الإحساس يصلح للقياس لما اضطرّ الباحثون، ومنهم صديقنا، إلى كتابة الدراسات اللغويّة، في عمل عقليّ واضح يقوم على جمع الشواهد، ومقارنة بعضها ببعض، لاستخراج المنطق المشترك الذي يجمع بينها، وبيان ما يخالف ذلك المنطق؛ والمنطق تجريد عقليّ.

إنّ الإحساس والسليقة ربّما استُغلاّ في التعليم؛ لأنّ التعليم الصحيح للّغة ينهض أساساً على المران وتعويد التلميذ سماع الأساليب السليمة، واستعمالها، والتحدّث بها، حتّى تصبح ملَكة فيه، فيكتشف بنفسه القواعد عفواً، ويفهم بسهولة ما لا يكتشفه منها حين يشرحه له معلّمه. لكن لا غنى للمستعمِلين عن القاعدة وعن مصادر اللغة المختلفة، لأنّه لا بد من مراجع مشتركة يُحتكم إليها في معرفة المعاني، وتمييز الخطأ من الصواب، والفصيح والبليغ من المبتذل. وإذا كان من مطلوب فهو تهذيب المصادر اللغويّة المختلفة، وتبسيطها وتطويرها، لتخلو ما أمكن من الشوائب، وتبرأ من تكلّف الاحتمالات، ومن عبء العبارات الأعجميّة التي أُقحمت عليها، وتستجيب لحاجات الإنسان العربيّ المتغيّرة.

وغنيّ عن البيان أنّ اللغة لم تغْدُ كياناً مستقرّاً متطوّراً إلاّ من خلال النهضة العقليّة التي استدعاها القرآن الكريم وعلومه. وخلافاً لما يتصوّره بعضهم، فتلك اللغة لم يكن لها أن تستمدّ القوّة والحياة والنماء إلاّ من النشاط العلميّ، وليس من البداوة، ولا تنشأ اللغة الرسميّة (الموصوفة بالفصحى) إلاّ في دولة أو شبه دولة مستقرّة تُعنى باللغة وترعاها، وتَحْملها على الاستجابةَ لحاجاتها المتطوّرة؛ ولولا حواضر العرب، لاسيّما مكّة والحيرة، ثم المدينة ودمشق وبغداد والبصرة والكوفة وغيرها، لما نهض شعر أو نثر، ولما ابتُدعت قواعد وشروح.

ولا يخدعنّك زعمهم أنّ العربيّة أُخذت من البدو! وكيف يكون ذلك صحيحاً وأكثر الشعراء حضريّون، أو يقولون شعرهم في الحواضر؛ والمرجع في ما قد يُختلف فيه من لغة القرآن الكريم هو لغة قريش الحضريّة، وليس لغة الأَعراب؟

وعلى الرغم من كل المآخذ التي يمكن أن تسجَّل على اللغويّين القدماء، فإنّ لقواعدهم وآرائهم سلطاناً تصعب مقاومته، ويستحيل تجاهله والتنكّر له. وحسبنا أنّ صديقنا صاحب «اللغة ليست عقلاً» نفسه يخطّئ أستاذنا المرحوم الشيخ صبحي الصالح في قوله :«ويكادون لا يختلفون في تصوّرهم نشأة اللغة الإنسانيّة» وذلك لأنّ الشيخ الصالح أدخل النفي على خبر كاد لا على كاد نفسها؛ وصديقنا يستعيد بذلك قواعد القدماء، وجدلهم العقليّ؛ لاسيّما عند تفسيرهم للآية الكريمة: «وما كادوا يَفْعَلونَ»؛ علماً أنّ صبحي الصالح كان عالماً في اللغة، ويتمتّع بملَكة لغويّة وأدبيّة فائقة، وبإحساس لغويّ مرهف، ويتحدّث بالفصحى أفضل من تحدّثه بالعاميّة. أي أنّ صديقنا خضع لأحكام النحاة القدماء، مع أنّها في موضوع نفي خبر «كاد» غير صحيحة، وقد برهنّا على ذلك في مقالة سابقة لنا (العربيّ، العدد 587، أكتوبر 2007). فهو إذن يتنكّر للسليقة ويخضع لقواعد «النحو المجرّد»، وفق تسميته؛ ولا تثريب عليه في ذلك؛ لأنّنا كلّنا نخضع لتلك القواعد، ما لم نظفر بأدلّة قاطعة على خطئها، أو نستشعر ضرورة ماسّة لمخالفتها.

إنّ التنكّر للعقل اللغويّ لا يساغ، لأنّ العقل هو اللغة نفسها، ولولاه لم نفهم الكلام، ولم نتحدّث عن سياق وتساوق وتمام معنى؛ ونحن لا نستطيع أن نفكّر إلاّ بواسطة اللغة، والمنطق مستخرج أصلاً من اللغة، فهو تجريد لها؛ وكيف تكون اللغة تعبيراً عن الفكر والعلم ولا تكون عملاً عقليّاً. إنّ العقل اللغويّ حقيقة لا يصحّ الجدل في وجودها، لكنّ الذي يمكن التحفّظ منه هو أن تُجعل اللغة منطقاً صوريّاً بحتاً، أي أن نسلك فيها الطريق العكسيّ، بدل أن نسلك الطريق المباشر، فنستنتج المنطق اللغويّ من نصوصها الصحيحة والثابتة، ليكون دليل طريق، يجنّبنا العثرات ومخاطر الضياع. إنّ التعويل على السليقة اللغويّة يبدو كاستفتاء القلب في البِرّ والإثم، كما تحدّث عنهما الحديث النبويّ الشريف؛ وقد جعل المحدِّث عثمان بن سعيد الدارميّ، صاحب السُّنَن، ذلك الاستفتاء من قبيل «دعْ ما يُريبُكَ إلى ما لا يُريبكَ»؛ فإذا طبّقنا ذلك على اللغة قادنا إلى ترك ما نشكّ في استعماله إلى ما نوقن بصحّته، فذلك يساعد في الاحتياط من الخطأ، لكنّه لا يغني عن الأحكام النحويّة والصرفيّة الثابتة، ولا يجيز مخالفتها إلاّ بدليل قاطع، أو لضرورة.

 

 

 

مصطفى علي الجوزو