الساعة التي تتحكم في سلوك الإنسان

  الساعة التي تتحكم في سلوك الإنسان
        

ما الذي يفعله فصل الشتاء في البشر في تصرّفاتهم وأجسادهم, وما الذي تتركه لياليه الباردة من أثر يظل طويلاً?

          في أحد الأيام, ذهب أحد المحامين بولاية نيوجرسي الأمريكية إلى الطبيب قائلاً: "أصابتني هذه الحالة بالتدريج, عندما يحل الظلام أثناء الشتاء تتغير حالتي المزاجية, فأشعر بخمول وكسل يعوقني عن القيام بأي عمل, ويضطرب نومي فأستيقظ خمس عشرة مرة كل ليلة لأتحقق من الوقت, كما أشعر أيضاً برغبة قوية في تناول السكريات".

          إن حالة هذا المحامي ليست نادرة. ففي دراسة ميدانية بمدينة نيويورك, وجد أن أكثر من ثلث الراشدين يعانون اضطراباً في حالتهم المزاجية أثناء الشتاء, وأن ستة أشخاص من كل مائة يعانون اكتئاباً شديداً في فصل الشتاء.

          ويقول مايكل ترمان أخصائي الأمراض النفسية: إن إصابة أي شخص بهذا المرض الذي أطلق عليه اسم "الاضطراب الوجداني الفصلي" الذي يحدث في فصل الشتاء ليس مجرد حالة مزاجية, فمن الممكن أن يستمر خمسة أو ستة شهور في السنة يعوق فيها المريض عن العمل ويسبب فقداناً كلياً للطاقة الجنسية. ومع أن هذا الاضطراب يختفي بقدوم الربيع, فإنه في بعض الحالات يؤثر في مسيرة الحياة بصفة دائمة.

أعراض الاضطراب

          تتلخص أهم أعراض هذا الاضطراب في أن المريض يشعر بصعوبة في ممارسة العمل والحياة العائلية في فصل الشتاء, كما يحس بموجات من التعب وتتغير عاداته في الأكل, فيتناول الكثير من المواد النشوية والسكرية.

          وقد اتضح من الأبحاث التي أجريت على هذه الحالات أنها تنتمي إلى مجموعة من اضطرابات النوم تحدث بسبب خلل في الساعة البيولوجية, إن كلل البصر - مثلاً - الذي يحدث أحياناً عندما يسافر المرء عبر مناطق يتغير فيها الوقت هو نتيجة لعدم توافق الساعة البيولوجية داخل الإنسان مع الساعة الخارجية التي تتغير بتغير البلاد المختلفة التي يمر بها المسافر.

          ومن الأمثلة الأخرى على خلل الساعة البيولوجية, أن الحساسية للألم تصل إلى ذروتها في الصباح وتتضاءل بمرور النهار, كما أن الأزمات القلبية تحدث غالباً في منتصف الصباح, وقد تمتد الإيقاعات البيولوجية أياما عدة أو أسابيع أو حتى شهورا. ومن المعروف أن كثيراً من فصائل الحيوانات تهاجر وتتزاوج طبقاً لمواعيد زمنية ثابتة في فصول معينة من السنة.

النواة فوق الكيازما

          إن الفولكلور الشعبي وتجارب الحياة تدلنا منذ قرون على أننا نعتمد على ساعاتنا الداخلية, ولكن ما هذه الساعات, وأين توجد, وكيف تعمل? ظل ذلك كله لغزاً إلى أن تمكن العلماء أخيراًً من حلّه. وللمرة الأولى أصبح لدى العلماء رسم تخطيطي يدل على مكان هذا "الكرونومتر" في المخ, وكيفية استخدام الآلية الموجودة في الخلايا, كساعة دقيقة يمكن إبطاء سرعتها أو زيادتها أو إعادة ضبطها.

          لقد اكتشف العلماء منذ وقت قريب مجموعة من الخلايا العصبية في المخ تدعى النواة فوق الكيازما Supra Chiasmatic Nucleus SCN يبدو أنها مركز التوقيت الزمني الداخلي.

          ومثل معظم أجزاء المخ تتكون هذه النواة من جزأين: جزء يوجد في النصف الأيمن من المخ, والجزء الثاني في النصف الأيسر من المخ, وكل جزء يتكون من عشرة آلاف خلية عصبية ملتصقة بعضها بالبعض الآخر. وتوجد هذه النواة فوق نقطة التقاء العصبين البصريين في قاع الجمجمة. وهذا شيء طبيعي لأن عمل هذه النواة يرتبط بالضوء الذي يعمل على خلق التزامن بين الساعة الداخلية مع دورات النور والظلام في العالم الخارجي.

          وقد أثبتت الأبحاث الحديثة على الفئران أن الحيوانات الثديية لها مجموعة من "المستقبلات للصور الضوئية" في عيونها, وظيفتها أن تلتقط الإشارات الضوئية وتنقلها مباشرة إلى النواة فوق الكيازما. وهذه المستقبلات تختلف عن الخلايا العصبية التي تلتقط الضوء الذي يقع على شبكية العين. وعندما يقع شعاع من الضوء على هذه المستقبلات للصور الضوئية في الوقت المناسب, فإنه يدفع الساعة الداخلية للعمل. إن انبثاق النور في الصباح يدفع الساعة إلى الأمام واختفاءه في المساء يدفعها إلى الخلف.

          وفي كل صباح, يأخذ ضوء الفجر طريقه إلى النواة فوق "الكيازما" ويقدّم الساعة الداخلية حتى تتوافق مع الوقت المحلي, ولما كان الطريق العصبي من العينين إلى النواة فوق الكيازما يمر بجوار أجزاء المخ التي تسجل البصر الواعي, فإن الساعة الداخلية تتزامن مع ضوء الفجر حتى عندما نكون نائمين, ذلك لأن ضوء الفجر يخترق جفون العينين إلى الشبكية ويسجل نفسه عليها ثم يقوم بتوصيل إشارة صامتة إلى النواة فوق الكيازما. وإذا كانت الساعة الداخلية تميل إلى الإبطاء, فإن ضوء الصباح يصلح مسارها تلقائيا ويعيـد إليهـا التوافق مع الزمن فـي العالم الخارجي.

جذور الاكتشاف

          مع أن الأهمية الكبرى للنواة فوق الكيازما كعضو يضبط الزمن البيولوجي, اكتشفت أخيراً, إلا أن هذا الاكتشاف ترجع جذوره إلى عام 1911 بتجربة أجراها عالم الحيوان النمساوي كارل فون فريش على "المينو MINNOW " الأوربي, وهو نوع من أسماك المياه العذبة الصغيرة جداً, التي يصبح جلدها أسود اللون في وجود الضوء, ثم يقل هذا السواد عند حلول الظلام, وقد أدت هذه التجربة إلى اكتشاف عضو داخل المخ يستجيب مباشرة للضوء, وتوصل هذا العالم إلى أن هذا العضو هو الغدة الصنوبرية التي نعلم الآن أنها مصدر الميلاتونين.

          وفي السنوات الأخيرة, أجرى علماء الأعصاب أبحاثاً في مراكز متعددة بالولايات المتحدة الأمريكية, اتضح منها أن طريقة عمل الساعة البيولوجية تكمن في خلايا النواة فوق الكيازما, وأن هذه النواة مكوّنة من عدد كبير من الساعات التي تعمل تلقائياً في كل خلية.

هرمونات السلوك

          اكتشف العالم الأمريكي "ريبرت Reppert " أخيراً وجود رابطة بين الخلايا العصبية التي تدفع النواة فوق الكيازما للعمل, وبين إنتاج الهرمونات. إن البروتينات التي تتكون ثم تتحلل خلال أربع وعشرين ساعة وتتحكم في عمل الساعة الداخلية, هي نفسها التي تسبب تأرجحاً مماثلاً في إطلاق هرمون ينظم طريقة عمل الحيوانات الثديية.

          لقد اكتشف ريبرت أن بروتينات الساعة الداخلية تتحكم في عملية إطلاق الـ GENE الذي ينتج هرمون Vasopressin.

          إن هذا الهرمون يضبط ميزان الملح والماء في الجسم, ولكنه في المخ له وظيفة أخرى تتحكم في دورات الراحة والنشاط في الحيوانات الثديية.

          ومع أن الـVasopressin يبدو أنه لا يؤثر في أشكال السلوك في حالات الاضطراب الوجداني الفصلي, فإنه يعمل كمهيّج أو مثير لعمل الساعات البيولوجية من البداية حتى النهاية.

البحث عن العلاج

          مع هذه الاكتشافات, فإنه مازال أمام العلماء عقد آخر من الزمان للربط بينها وبين التوصل إلى علاج لاضطرابات السلوك والمزاج.

          إلا أن أحد العلماء نجح في علاج مريض كان يعاني اكتئاباً شتوياً متكرراً بتعريضه لضوء ساطع من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحاً, ومن الرابعة إلى السابعة مساء كل يوم لأيام عدة, ويقوم حالياً عالم آخر بتحسين هذه الطريقة باستخدام جهاز ضوئي يعمل بالكمبيوتر في غرفة النوم.

          إن اكتشافات عمل الساعة البيولوجية أدت إلى اتساع نطاق أبحاث العلماء إلى مجالات أخرى, فإذا كانت الأزمات القلبية مثلاً تهاجم الناس البدينين بتحريض من إشارة زمنية داخلية, فهل توجد وسيلة لإنقاص وزن أولئك المرضى بالتحكم في أوقات الإحساس بالجوع وتنظيمها? وهل من الممكن التنبؤ أو حتى التحكم ليس فقط في اليوم, بل أيضاً في الساعة التي يولد فيها الطفل?

          إن مثل هذه الأسئلة يحاول العلماء التوصل إلى الإجابة عنها في وقت ليس ببعيد.

 

أنيس فهمي