النقد السينمائي أزمة مسكوت عنها

  النقد السينمائي أزمة مسكوت عنها
        

عندما يخفق النقد السينمائي في القيام بالدور المنوط به, فهل يتحوّل - بدوره - إلى أزمة تضاف إلى أزمات السينما الكثيرة?

           تعاني السينما المصرية - كفن وصناعة وتجارة - من مشاكل كثيرة.. التمويل.. شروط الموزع الخارجي, نقص دور العرض, والمستوى غير المقبول للموجود منها, المعدات الفنية المستهلكة والتي لم تعد تواكب التقدم التكنولوجي في مجال صناعة السينما, ارتفاع أسعار التذاكر, تكرار موضوعات أفلامها وافتقارها إلى نصوص جيدة وجديدة.. عدم مواكبتها لمناقشة مشاكل المجتمع المصري المستحدثة... اعتمادها على عدد محدود من الممثلين والممثلات للقيام بأدوار البطولة, مما أصاب المشاهد بالملل, افتقارها للوجوه الجديدة, انصراف معظم نجومها بأموالهم عنها واستثمارها في مشروعات تجارية لا تمت للفن بصلة, غياب أي دور للدولة, وقيام المختصين من كبار المسئولين بإصدار التصريحات البراقة من أجل حل مشاكل السينما. ومع استمرار هذه المشاكل تقلص الإنتاج السينمائي المصري إلى أن أصبح متوسط عدد الأفلام الروائية المصرية المنتجة سنوياً في الفترة الأخيرة لا يزيد على عشرة أفلام تقريباً, بعد أن كان متوسط عدد الأفلام المنتج سنوياً في سنوات سابقة - وعلى مدى تاريخها الطويل - لا يقل عن ستين فيلما في العام تقريباً.

          إضافة إلى الأسباب السابقة التي ساهمت في نشوء أزمة السينما المصرية, يوجد سبب لا يقل أهمية عن تلك الأسباب, وهو السبب المسكوت عنه, وأعني به النقد السينمائي في الصحافة المصرية, وإخفاقه في القيام بالدور المنوط به في تعريف المشاهد بفن السينما, وإلقاء الضوء على الجوانب الإيجابية أو السلبية للأفلام الروائية المعروضة بصدق وموضوعية, حيث زج بعض نقاد السينما المصريين المتخصصين في هذا المجال بأنفسهم في ميادين أخرى في مجال السينما بعيدة عن اهتمامهم الأساسي -  النقد السينمائي - مثل العمل كمستشارين لشركات الإنتاج السينمائي, أو مديري دعاية لإنتاج هذه الشركات, أو التعامل مع هذه الشركات بوصفهم كتّاباً ومبدعين لقصص وسيناريوهات الأفلام.. إلى آخر هذه الأدوار التي تصطدم في حقيقة الأمر بنزاهة النقد وموضوعيته, مما أفقد النقد السينمائي - في مصر - مصداقيته, ودوره المزدوج كإشارات حمراء وخضراء لصنّاع السينما, وكدليل صادق لإرشاد المشاهد للفيلم الجيد, هذا فضلاً عن الدخلاء من كتّاب الصحافة على هذا المجال دون علم أو دراية أو تخصص, إلى أن أصبح النقد السينمائي - في مصر - مجالاً يكتب فيه الجميع المتخصص وغير المتخصص.

غياب الموضوعية

          وقد ترتب على ذلك ظهور "ظاهرة" الاختلاف إلى درجة التناقض الحاد, بين المقالات النقدية السينمائية عن الفيلم الواحد, مما دفع بأحد الباحثين الشباب - وهو عبدالتواب حماد إبراهيم - لإعداد رسالة عن "النقد السينمائي المعاصر في الصحافة المصرية.. مصداقيته وآثاره" حصل بها على درجة الماجستير في الفنون "سينما" من المعهد العالي للنقد الفني عام 1989. وكان الدافع إلى دراسته هو الشكوك القوية "... حول طبيعة المعايير والمقاييس النقدية المستعملة للحكم, على فن كامل, استقرت لغته وقوانينه إلى حد بعيد" حيث رأى الباحث أن هذه الشكوك "... قد تلقى بظلال أخرى من الشك على موضوعية النقد والنقّاد".

          وقد انتهى عبدالتواب حماد إبراهيم في رسالته إلى مجموعة من النتائج منها:

          "- في ظل خلل المعايير, بدأت الملامح الدعائية في التسلل إلى المقال النقدي يوماً بعد يوم, حتى استفحلت وتعددت توجهاتها ورسائلها في التمويه والاستخفاء وأصبحت مثار تعليقات العامة والخاصة والمبدعين والنقّاد ومجالاً للتراشق وتبادل الاتهامات, بل والاعتراف الصريح بها من ممارسيها في بعض الأحيان, مما كان له أثر في إلقاء شبهة كبيرة على موضوعية النقد وطهارة النقاد.

          - نظراً لدواعي المجاملات, والاغراءات المادية الطاغية, التي تلوح بها السينما, طلباً لاحتواء النقاد, واستناداً إلى الحيل التمويهية للدعاية الحديثة, انزلق كثير إلى مهاوي التردّي أو الدعاية بالمجان, فاستهان بهم السينمائيون, ومن ثم فهذه الاستهانة تكاد تفقد (السلطة) النقدية قدرتها على التعامل مع الأعمال السينمائية الهابطة إن لم تكن قد فقدتها بالفعل.

          - كان لتدخل العوامل الذاتية الخاصة التي تلعب دورها لدى الكثير من النقّاد, وافتقار الأغلبية للتخصص, وشيوع حالة التساهل البالغ على كل المستويات, كان لكل ذلك أو لبعضه انعكاسه على أحكام القيمة في المقالات النقدية".

الحساب الفني

          ويرى الكاتب الكبير نجيب محفوظ - الذي قضى سنوات طويلة من عمره في العمل بالسينما كاتباً للسيناريو ومديراً عاماً للرقابة على المصنفات الفنية ورئيساً لمؤسسة السينما - أن النقد السينمائي هو أحد أبعاد الأزمة التي تعيشها السينما المصرية, فيقول: "... من خلال متابعتي المحدودة لما يُنشر في الصحف والمجلات, تعرّفت على مجموعة من الأسماء تمتلك أدوات النقد السينمائي ولديها موهبة الكتابة, أذكر منها سمير فريد والمرحوم سامي السلاموني وهاشم النحاس, ومع تقديري لهؤلاء وغيرهم, فإنني آخذ عليهم مسألة تحيزهم "الأيديولوجي" فهم لا يفرّقون بين الفن والسياسة, وما يتفق مع فكرهم السياسي يرفعونه إلى أعلى عليين, وما يختلف معه, ينزلونه إلى أسفل سافلين دون أسباب موضوعية, وهذه نقطة خلاف أساسية بين جيلنا والجيل الحالي, فقد كان جيلنا يفرق تماماً بين السياسة والأدب ولا يخلط بينهما.

          الدكتور طه حسين - مثلاً - كنا نختلف مع مواقفه السياسية ونعارضها بشدّة أحياناً, ولكننا كنا نتتلمذ على يديه كأديب ومفكر ومبدع, ونقف إلى جواره في معاركه الأدبية والفكرية, فالفنان أو المبدع يجب أن نحاسبه على فنّه أو إبداعه فقط, ولا نخلط بينهما وبين مواقفه الشخصية أو السياسية, فالفنان الكبير أحياناً يحمل بداخله إنساناً ضعيفاً, وتاريخ الأدب العربي مليء بنماذج كثيرة من هذا الصنف. وعمر بن أبي ربيعة - مثلاً - كان شاعراً عبقرياً, ولكنه في المقابل كان إنساناً تافهاً, فلماذا نحاسبه كشاعر على هفواته الشخصية? هذا هو مأخذي الأساسي على الجيل الحالي من نقّاد السينما".

فيلم.. لن يسقط!

          وفي ضوء ما تقدم, أصبح النقد السينمائي في الصحافة المصرية أحد أسباب أزمة السينما المصرية, ولكي يكون لهذا الكلام مصداقيته, فسوف نأخذ عيّنة من الكتابات النقدية التي نشرت لمجموعة من نقاد السينما المتخصصين حول فيلم "الكافير" وهو فيلم يروي إحدى القصص المستقاة من سجلات المخابرات المصرية, كتب القصة والسيناريو والحوار إبراهيم مسعود, وأخرج الفيلم المخرج علي عبدالخالق.

          الناقدة ماجدة خيرالله هي صاحبة الرأي الذي أشاد بمستوى الفيلم.. القصة.. الإخراج.. التمثيل... الإنتاج, بينما أجمع نقاد ثلاثة آخرون على المستوى السيئ للفيلم.

          فتحت عنوان ("الكافير" فيلم جاد يسبح ضد التيار), جاء في مقال ماجدة خيرالله المنشور بجريدة الوفد الصادرة في 1 يوليو 1999 ما يلي: "من هنا تأتي أهمية فيلم "الكافير" للمخرج علي عبدالخالق.. فهو يسبح ضد التيار, ليقدم عملاً جادّاً لا يغازل شباك التذاكر بالطرق التقليدية, والموضوعات المستهلكة, لكنه يحاول أن يقدم للشباب المعاصر الذي يعاني الفراغ العقلي والجوع الوجداني وافتقاد المثل الأعلى, نموذجاً لإحدى البطولات المصرية, القائمة على تضحية الفرد والتخطيط الجيد للجماعة".

          وفي موقع آخر من المقال, تقول "... و"الكافير" للمخرج علي عبدالخالق الذي يعود لأفلامه الجادّة الهادفة مع هذا الفيلم, يقدم إحدى البطولات التي استلهمها خيال السيناريست إبراهيم مسعود من بعض الأحداث الواقعية".. وتستطرد قائلة: "... الفيلم تم تصويره في بعض الدول الأوربية, وواضح ضخامة التكاليف وشياكة الإنتاج, والفيلم كله مغامرة سينمائية تصل إلى حد الجرأة, حيث لم يعتمد المخرج على أي من نجوم الشباك المستهلكين...".

          وعن نجوم الفيلم, كتبت "عبير صبري هي مشروع نجمة شابّة ولها قدرة على الأداء المتلوّن, وروجينا التي يخفي وجهها البريء القسوة و"السادية". أما "عزت العلايلي" فهو يقدم دور رجل المخابرات المصري بأداء متزن ورزين, وربما يكون دور اللواء "محيي" أفضل أدواره السينمائية والتلفزيونية أيضاً خلال السنوات الأخيرة.

          أما "طارق علام" الذي تحمّل عبئاً أكبر من قدرته, فهو يتمتع بالقبول وربما تكون عفويته وإحساسه بـ"الحوسه" وقلة خبرته, في مصلحته الشخصية التي وضعتها الظروف في تجربة فوق الاحتمال, ومن العناصر الفنية المتميّزة في الفيلم كاميرا كمال عبدالعزيز وموسيقى مودي الإمام".

          وتختتم الناقدة ماجدة خيرالله مقالها عن فيلم "الكافير" قائلة: "فيلم (الكافير) عمل محترم ينضم لقائمة أفلام المخرج علي عبدالخالق المتميزة التي لا يمكن أن تسقط من ذاكرة السينما ولا الجمهور!!".

          هذا كان أهم ما جاء في مقال ماجدة خيرالله للتأكيد على أهمية ومستوى الفيلم في مجالات الإخراج والقصة والسيناريو والإنتاج والتمثيل. فماذا عن رأي النقّاد الآخرين الذين اتفقوا على سوء مستوى الفيلم?

النجاح للذهب

          في جريدة الأهرام الصادرة في 7 يوليو 1999 نذكر أهم ما جاء بمقال الناقد فتحي العشري بعنوان "الكافير ذلك المستحيل", حيث يبدأ المقال بمقدمة تقول: "إذا كان فيلم "فتاة من إسرائيل" قد حقق دعاية عكسية لصالح إسرائيل بضعف منطق ممثل الجانب المصري في مواجهة الجانب الإسرائيلي, فإن هذا الفيلم (الكافير) يحقق دعاية عكسية أكبر لإسرائيل بإظهار الموساد بكل هذه السذاجة بافتعال أحداث ضد الواقع والحقيقة والمنطق, فمهما قيل من أن كاتب السيناريو إبراهيم مسعود استقى موضوع "عملية الكافير" وتفاصيلها من سجلات المخابرات المصرية, فمما لاشك فيه أنه حذف وأضاف - والسجلات بيننا - بما أفسد العملية وأفقدها مصداقيتها, وبما أدى في النهاية - ونتيجة للمبالغة الشديدة في كل شيء - إلى إحداث الأثر العكسي..".

          وفي موضع آخر من المقال يقول: "... ولم يحاول ولم يتمكن المخرج علي عبدالخالق من سد ثغرات السيناريو المهلهل, وكان عليه أن يرفضه أصلاً هو وتوابعه, بدءاً من الممثل الأول حتى عدد من ممثلي الأدوار الثانوية..". وعن بطل الفيلم يقول ".. نصل إلى طارق علام ممثلاً سينمائياً فلا نصدم فيه, رغم صورته الباهتة وتعبيراته الجامدة وانفعالاته المسطّحة وأكله للكلمات وعدم وضوح عباراته لأن نجاح برنامجه "كلام من ذهب" يرجع إلى الذهب وحده...".

فيلم "زاعق"

          تتفق الناقدة إيريس نظمي في الرأي مع الناقد فتحي العشري على سوء مستوى الفيلم, ونعرض لأجزاء من مقالها ("الكافير" كلام ليس من ذهب), المنشور بمجلة "آخر ساعة" الأسبوعية العدد رقم 2276 بتاريخ 7 يوليو 1999 حيث تقول في مقدمة المقال:(مع أن "فتاة من إسرائيل" هو الأفضل فالنتيجة واحدة لفيلمي "فتاة من إسرائيل" و "الكافير" اللذين ينضمان إلى مجموعة "الأفلام الزاعقة" أقصد الأفلام المزدحمة بالكلمات الكبيرة الإنشائية.. الانفعالية.. بل والخطابية, وهذه الأفلام لم تعد تقنع أحداً...".

          وفي موضع آخر من مقالها تقول: "... والعيب نفسه الذي أساء لفيلم "فتاة من إسرائيل" نراه من جديد على الشاشة في "الكافير" وهو غياب واختفاء المصداقية, وأسوأ شيء ألا يصدق المتفرج ما يراه على الشاشة, وأن يشعر بأن هذا مجرد "تلفيق" لا يقنع حتى عقول الصغار, فكيف يقنع الكبار?! والمسئولية تقع أولاً على كاتب السيناريو إبراهيم مسعود, لقد جاء السيناريو رديئاً, بل هذا أسوأ ما قدم وكتب إبراهيم مسعود".

          وتختم إيريس نظمي مقالها قائلة: "... وماذا تفيد العناصر الأخرى بعد ذلك من تصوير ومونتاج وموسيقى تصويرية في فيلم فقد كل مقوماته الأساسية..".

سذاجة ميكي وسمير

          يتفق الناقد طارق الشناوي مع سابقيه فتحي العشري وإيريس نظمي في سوء مستوى فيلم "الكافير", أما أهم ما جاء بمقاله المنشور بمجلة "روزاليوسف" العدد رقم 3707  بتاريخ 26 يونيو 1999 تحت عنوان "مذيع من ذهب ممثل من ورق.. (الكافير).. بطولة زائفة لا يصدقها (عكل). هو المقدمة حيث يقول: "الهتاف باسم مصر عندما يخرج من الحنجرة لا نصدقه, و"الكافير" هو نوع من الهتاف - الحنجوري - بالصوت والصورة تحوّل إلى فيلم سينمائي تشعر وبعد نهاية العرض وكأن فيلماً لم يكن, "الكافير" به كل النوازع الوطنية, فهو يقدم تحية لرجال الطيران المصري ورجال المخابرات المصرية, ويهتف بسقوط إسرائيل, ليس فقط من خلال الجانب المصري, ولكن الإسرائيليين كانوا أسبق في الهتاف ضد بلدهم. ورغم ذلك - وربما بسبب كل ذلك - نجد أنفسنا بصدد مغامرات تتحدى سذاجتها ميكي وسمير, وباسل وماجد, وتان تان وتوم وجيري!!".

          وعن المخرج وبطل الفيلم يقول الناقد طارق الشناوي: "... وبالطبع فإن هذه ليست مسئولية طارق علام بمفرده رغم أنه لم يعد قاصراً, وتعدى الثمانية عشر عاماً من عمره, إلا أن هناك مخرجاً مخضرماً "علي عبدالخالق" كان أول أفلامه بالمناسبة "أغنية على الممر" وهو فيلم عسكري, وكان عليه ملاحظة الحالة التي يبدو عليها "طارق" في الأيام الأولى للتصوير لأنها الحالة نفسها التي استمر عليها حتى الأيام الأخيرة, فهي حالة يرثى لها ولا يرجى منها شفاء".

محنة قديمة

          واضح من الأجزاء المختارة من مقالات النقّاد الأربعة الاختلاف الكبير إلى درجة "التناقض الحاد" بين ما كتبته الناقدة ماجدة خيرالله وما كتبه النقّاد الثلاثة الآخرون حول الفيلم. والأربعة من كبار نقاد السينما, بما يؤكد أن النقد السينمائي في الصحافة المصرية أحد أسباب أزمة السينما المصرية, ومن الطريف أن محنة النقد السينمائي ونقاد السينما محنة قديمة, فقد "... حدث في عام 1941 أن أخرجت مطبعة مجلة روايات الجيب كتاباً بعنوان "السينما مفخرة القرن العشرين" ألّفه محمد عبدالقادر المازني, ومع ضحالة الكتاب إلا أنه ضم وثيقة خطيرة مبكّرة تدين النقد السينمائي في مصر, وهي عبارة عن تسع مقالات لتسعة من الكتّاب أجمعوا فيها على محنة النقد السينمائي, بل إن أحدهم - وهو إبراهيم حسين العقاد - ساوى بين مشكلة النقد في مصر وبعض المشاكل الاجتماعية في ذلك الوقت, مثل مشكلة المتعلمين العاطلين ومقاومة الحفاء والصراع الحزبي!...".

 

أحمد فهمي   

 
 




النقد السينمائي.. أزمة مسكوت عنها





روجينا قامت بأداء دور ضابط الموساد في فيلم القومندان





وفي الفيلم نفسه يؤدي طارق علام دور طيار