فن الرواية يجمع بين المشرق والمغرب العربي

 فن الرواية يجمع بين المشرق والمغرب العربي
        

عدسة: محمد فضل

تحت عنوان (لقاء الرواية المصرية المغربية), نظمت هذه الندوة التي جمعت المبدعين والنقّاد من كلا البلدين الشقيقين حول مائدة واحدة.

والندوة لم تكن متخصصة رغم أنها تبحث في أحد الأشكال الأدبية المعروفة وهو الرواية. ولكنها أخذت من هذا الشكل الأدبي معبراً تناقش من خلاله هموم العصر الذي نعيش فيه ونتلمس قضاياه. فالرواية ذلك الفن المركب قد أثبت خلال الفترة الماضية أنه أقدر الأشكال الأدبية على التعبير عن تداخلات العصر الذي يترجم له. وكيف ينوء هم الانسان الفرد تحت وطأة عوامل سياسية واقتصادية خارجة عن إرادته.

وقد نظم عقد هذه الندوة في القاهرة المجلس الأعلى للثقافة, وهو اللقاء الثاني بين المبدعين من البلدين. فقد احتضنت مدينة الدار البيضاء المغربية اللقاء الأول منذ أربعة أعوام تقريباً, ورغم طول الفجوة بين الندوتين, فإن الأبحاث التي ألقيت فيها قد ردمت هذه الهوّة الزمنية بإلقاء الضوء على أهم الانجازات الروائية لهذه الفترة.

"واقع التجربة الروائية في المغرب"

          في بداية كلمته عن نشأة الرواية المغربية يشير الناقد المغربي د. عبدالحميد عقار إلى أن البداية الفعلية للرواية باعتبارها جنساً أدبياً جديداً في الأدب المغربي لا تكاد تعدو منتصف الستينيات تاريخ صدور رواية (دفنّا الماضي) للأستاذ عبدالكريم غلاب, فهي أول نص سردي يتمثّل بنضج مكوّنات الرواية بمعناها الأوربي الحديث.

          ثم يستطرد د. عبدالحميد عقار ليوضح في كلمته مسارات التحوّل في الرواية المغربية فيقول:

          ذإن الرواية المغربية رغم أنها حديثة العهد بالنشوء والتكوّن, فقد عرفت تحوّلات على قدر كبير من الأهمية كمّاً وكيفاً لدرجة يبدو معها أن التحوّل المتسارع الإيقاع هو قدرها الممكن, وأن الأساس في هذا التحوّل هو الميل الغالب لدى الكتّاب نحو التجريب, ونحو نشدان الحداثة, ونحو تشييد مفهوم جديد للأدب يقيم مسافة بينه وبين الخضوع المباشر للواقع وللأيديولوجيا, ونعثر على بذور هذا التحوّل منذ السبعينيات في روايات من قبيل (الغربة) لعبدالله العروي سنة 1971 و (المرأة والوردة) لمحمد زفزاف سنة 1972 و (الريح الشتوية) لمبارك ربيع سنة 1977.

          وخلال السبعينيات, سيقتحم عالم الكتابة الروائية قاصّان كانا قد بدآ الكتابة في مطلع العقد أو قبله بقليل أحمد المديني في (زمن بين الولادة والحلم) سنة 1976 ومحمد عز الدين التازي في (أبراج المدينة) سنة 1978, وبدا واضحاً منذئذ أن رهان الكاتبين وأبناء جيلهما على إنجاز كتابة مغايرة وإبداع رواية غير واقعية كبير ومقصود.

          هذا النزوع التجريبي والحداثي سيصير إذن سمة شبه مهيمنة في الرواية المغربية خلال الثمانينيات وما بعدها.

          لقد اتجهت الرواية في أبرز نصوصها نحو الابتعاد الكلي عن المعيارية, وعن افتراض وجود ماهية مسبقة وقارّة لجنس الرواية وغدت شعرية الرواية وجماليتها تنبعان من تضافر عناصر ومكوّنات من أبرزها:

          - تذويب الحدود بين الأجناس الأدبية واللاأدبية للإفادة من طاقات التعبير وإمكاناته في مختلف الأشكال الأدبية والخطابات.

          - إعادة التوظيف الإبداعي للموروث السردي العام والصوفي والشعبي في محاولة لتوليد شكل روائي يعيد الاعتبار للذاكرة الجمعية, أو لما هو منسي أو مبعد في مستوى الذاكرة الرسمية.

          - استدعاء المكوّنات السير - ذاتية في محاولة لإعادة اكتشاف الأنا. إن متخيل الطفولة, ومكوّنات الذاكرة يجسّدان المادة الأساسية لهذا الاستدعاء, هذا المتخيل أفضى برواية الثمانينيات وما بعدها إلى تلوين الكتابة بلغة الاستيهام والرؤى والأحلام, وعبر هذا التلوين أتيح لنصوص هذه الرواية أن تنفتح على أسئلة الكينونة والوجود في جزئياتها وتفصيلاتها المنبثقة من تجارب الذات في ارتياد الوجود لا من المقولات والخطابات العامة.

          هكذا أصبح الشكل الروائي في العديد من نصوص الرواية المغربية في الثمانينيات والتسعينيات يتسم بالدينامية والتوالد والانفتاح, وقد بلغ الانفتاح أحياناً حد الهلامية من شدة إفراط بعض الكتّاب فيه مما أعاد للواجهة أحياناً مسألة التلقي والتواصل ومآزق التجريب والكتابة المنفلتة.

بانوراما للمشهد الروائي المصري

          في بداية كلمته الروائي المصري إدوار الخراط, يقول إن المجرى الرئيسي للرواية المصرية لابد أن يتكون من جملة مصادر مرموقة من أبرزها رائد كبير مثل نجيب محفوظ, وروّاد يضارعونه المكانة التأسيسية مثل إبراهيم عبدالقادر المازني ويحيى حقي ويوسف إدريس, وكثيرين غيرهم, ثم يستطرد:(لعل الاتجاه الأغلب هنا هو منحى الروايات التي تعكف على المشهد السياسي أو الاجتماعي العام على نحو أو آخر, وفي هذا الاتجاه العام, نجد أيضاً روايات المشهد الريفي النسيج وتشابك العلاقات العائلية, وصراعاتها على النحو الروائي المأثور, كما قد نجد المشاهد أو الفضاءات الجانبية مثل الفضاءات النوبية أو البدوية.

          ولعلني يمكن أن أتبين اتجاهاً رئيسياً ثانياً على وجه العموم في الرواية التي تنحت قليلاً أو كثيراً عن منحاها التاريخي الذي كانت تسقط عليه همومها المعاصرة لكي تذهب بعيداً في تقصّي أحوال الذات في محنتها الفيزيقية أو في نشوتها الغرامية أو في تشوفها الصوفي أو شطحها التراثي الموضوع على مهاد عصري. فهل أجد هنا تياراً أو اتجاهاً ثالثاً خرج عن النقد السياسي المباشر إلى التشريح الاجتماعي الذي ترفده وثائق تفصيلية تبطن تحت جفائها التسجيلي الصارم حرارة الرفض أو مرارته.

          أما روايات ما يمكن أن أسمّيه قاع المدينة, فهي تسير في مسارها التقليدي المشبّع بشهوة التفصيلات السردية المسهبة على النمط المأثور, وإن خالط بعضها شطح فانتازي أو ضرب في المجاهل العنيفة, فهي لاتزال تنبض بالحياة الروائية القوية.

          ولعل معظم روايات هذا المجرى الرئيسي إذن لم تسلم من لمسة أو أكثر من تقنيات ورؤى كنت قد نسبتها إلى الحساسية الجديدة, ولعلني أوجز بعض سمات هذه الحساسية الجديدة على النحو التالي:

- كسر التسلسل الزمني الاطرادي في السرد من الماضي إلى الحاضر, وامتزاج الأزمنة أو تداخلها الحميم.

          - فك الحبكة التقليدية في الفرشة ثم العقدة ثم الانفراج والتفسير الحكائي.

          - الإخلال بالتوازن المحسوب بين عناصر الوصف والحوار والحكاية, والخلفية الاجتماعية, والتحليل السيكولوجي وغيرها بحيث يمكن الاقتصار على عنصر واحد أو أكثر أو أقل وتظل للسردية قوّتها وفعاليتها.

          - إسقاط محاكاة الواقع من الظاهر وتوسيع دلالة (الواقع) بحيث تعود إلى هذه الدلالات فعاليات الأسطورة والحلم والشعر المضمر أو السافر.

          - اقتحام مغاور اللاوعي أو الغوص في طبقة ما تحت الوعي وما يتطلبه ذلك من إعادة تركيب اللغة على نحو تختلط فيه العفوية بالعمدية بلا افتراق.

          - ويخلص الأستاذ إدوار الخراط في تقديمه لبانوراما الرواية المصرية إلى أن الرواية المصرية الحداثية الآن تجري في تيارين رئيسيين هما رواية التأمّل والفكر والعمق من ناحية, وفيها الآن إنجازات حقيقية, وتيار الحياد أو العدمية وهي روايات التجريب, وما بعد التحديث, التي تفتّقت عن ازدهارها الشرس المتواتر في عقد التسعينيات من القرن العشرين وحتى الآن.

روايات مغربية بعيون مصرية

          في بداية التعليق, يعترف الأستاذ محمود العالم بأمرين أنه برغم متابعته لكتابات د. عبدالله العروي الفكرية والتاريخية, فإنه لم يقرأ من أعماله الروائية سوى هذه الرواية.

          وأنه كان يخشى أن تجيء قراءته للرواية داخل أعمال العروي الفكرية, وأن ما يخشاه قد حدث بالفعل بسبب ما قاله العروي في مستهل الرواية على لسان الراوي (تعرّفت على شخصيات الرواية بالمصادفة والقصة كلها تدور حول المصادفة وآثارها عندما تدفع أو تمنع).

          ثم يتابع الأستاذ محمود العالم:

          "ولي دراسة قديمة عن المصادفة لاتزال تلاحقني في أغلب ما أكتب, ولهذا لم أستطع أن أمنع نفسي من التساؤل في البداية على الأقل: أي معنى للمصادفة عند مؤلف الرواية? أي لمؤلف مصادفات أحداثها, ألا يعني هذا أن المصادفة هي بنت رؤيته للواقع?

          ثم يستطرد العالم: (تكاد هذه الرواية في قراءتها الأولى تعطي انطباعاً برواية كلاسيكية, عقلانية في علاقاتها ودلالاتها أعمق وأرهف), ثم يقول:

          من عشرين فصلاً, تنسج الرواية عالمها الخاص, وبين الفصل الأول والفصل الأخير تنداح فصول الرواية بأحداثها وشخصياتها المتعددة المختلفة على أنها لا تتراكب بقدر ما تتراكم, وتشاكسنا إشكالياتها العصيّة على الفهم أحياناً برغم العبارات المختارة لمفكرين يضعها المؤلف على رأس كل فصل من فصول الرواية لتكون مفتاحاً لمضمون الفصل, كما يفعل بعض الكتّاب مثل عبارة (القرائن سلاح ذو حدين) لديستيوفسكي, ثم يقول الأستاذ العالم:

          لعل الفصل الأول من الرواية يوحي بأن الإشكالية الأساسية في الرواية هي إشكالية الهوية النابعة من إشكالية العلاقة بين المغرب وفرنسا, فأحداث هذا الفصل تكاد تقتصر على الدار البيضاء, ولكنها ترمز إلى ما يجري في المغرب بعامة, ولا مجال هنا لتفصيل, حسبنا أن نشير إلى بعض هذه اللحظات:

          اللحظة التي تشير إلى قصة الصحفية الموهوبة عائشة مغران التي ماتت بئيسة مهجورة وهي الكاتبة الجسور المتفتّحة, واللحظة التي ستصبح الموضوع الرئيسي للرواية كلها في تعقّدها, فهي قصة العلاقة الملتبسة بين عزيز وخالدة زوجته, وابنهما نعمان الذي يقول في رسالة موجهة إلى أبيه: كيف يسعد شاب مثلي يحتفل سنوياً بعيد استقلال الوطن, وهو يلاحظ يومياً أن كل ما يصبو إليه الجميع لا يختلف في شيء عمّا كان تحت الإدارة الفرنسية, عمّ إذن الاستقلال? إن قضية نعمان, وإن تكن مرتبطة بهذه الدلالة الوطنية والاجتماعية إلا أن جذرها العيني المباشر هو تمرّده على القيود التي يفرضها والداه, فضلاً عن الحرمان من الاهتمام, ولهذا يذهب ليعيش وحده بعيداً في فرنسا, ثم ندرك من كلمات عزيز أن ابنه سقط الآن في ورطة هو مسئول عنها, كما ندرك بعد ذلك انفصال عزيز عن زوجته, هل يعني هذا أن أزمة الرواية هي أساساً أزمة عائلية, فعلى حد تعبير عزيز (البلد عليل ككل البلدان, العلة اليوم هي الأسرة), لكن سرعان ما يتم استقطاب الأزمة في الرواية استقطاباً حادّاً إلى نهايتها, فتغتال فتاة تدعى سارة في باريس, ويجري البحث عن شاب وسيم شرقي الملامح ضبطت صورته في بيت سارة, وهنا يدرك عزيز أنه ابنه, فسارة هذه كانت خليلة الأب منذ فترة بعيدة, وعندما سافر ابنه إلى باريس اتصل بها لتجعل ابنه في رعايتها, على أني أقول برغم هذا الاستقطاب الحدثي الذي ينقل الرواية كاملة بأحداثها وشخصياتها إلى باريس للوقوف بجانب نعمان الذي تم القبض عليه, وهناك ما يوحي بإمكان توجيه الاتهام إلى والديه, برغم ذلك وربما بسببه تتخذ الرواية عمقاً جديداً خاصاً من حيث بنيتها السردية, فبسبب من دخول شخصيات جديدة عدة من رجال الأمن الحكومي والخاص وأقارب القتيلة وأقارب نعمان, تبدأ الرواية في تنظيم حركة هؤلاء جميعاً داخل فصولها, وهكذا راحت الرواية تتخذ بنية شبكية تفتح لهذه الشخصيات مجالاً للحركة داخلها, إذ كان من المستحيل أن تتخذ بنية إحداثية طولية, وقد أعطى هذا لبنية الرواية حيوية جمالية متجددة, فقد أتاحت هذه البنية لبعض الشخصيات المهمة أن تنفرد بعالمها الخاص في لحظات متراوحة, يتغير فيها السرد الحكائي من سرد حواري إلى مونولوجات داخلية, وفضلاً عن هذا, فإن الرواية بتعدد الشخصيات والأصوات والرؤى تمتلئ بعشرات التصنيفات والأوصاف والحالات والمناظر لأشياء شتى كاللوحات الفنية أو الكاتدرائيات أو المقاهي والمطاعم ودور العرض وعناصر الطبيعة, إنه عالم كامل متنوّع غاية التنوع, إن هذه التفاصيل المختلفة توصف وصفاً على مستوى عال من الدقة, وقد توحي هذه الرؤية التفصيلية بتعالم معرفي أو رهافة تذوقية, على أنها قد تكون في الحقيقة وسيلة لاستنبات وزرع الوقائع المتخيلة للرواية في واقع موضوعي يضفي عليها مصداقية, فعلى أرضية هذه المنمنمات التشكيلية والمكانية والزمانية تدور أمور أخرى - حول المحور الحدثي للرواية - من اللقاءات والمؤامرات والتحقيقات والمساومات والتهديدات لطمس آثار جريمة قتل سارة, ولهذا يرتفع ويتوتر إيقاع السرد الحكائي والمنولوجات الداخلية, وهكذا يسود جو من الغموض والإبهام حول ماذا تم? وماذا يمكن أن يتم? فلقد تم الإفراج فعلاً عن نعمان, وطوي ملف القضية, لماذا? وكيف? ليس ثمة وضوح! وتسأل كوميسار البوليس كلودين/جيرار الفيلسوف زوج أختها: أنا بين اثنين, إما فضيحة وإما خطيئة, فيجيبها: منذ عهد سقراط والدولة تفضل الثانية على الأولى, والكل يعتقد أن المسئول هو (زيوس), فتقول كلودين: بالضبط هذا ما سمّاه رجل بسيط لا يملك ثقافتك بالمصادفة.

          وأتساءل أخيراً: هل كل ما حدث في هذه الرواية إنما حدث بالمصادفة كما يقول هذا الرجل البسيط الذي لا يملك ثقافة عبدالله العروي الذي يقول قوله هذا على لسان الراوي? لا أظن ذلك, فالرواية بمصادفاتها لا تفسّر فكرياً وعملياً بما فعله زيوس المجهول, وإنما تفسّر - في تقديري - بتصادم أشخاصها وتقاطع أحداثها وباختلاف وتناقض المصالح والأهواء والغايات!

خميل المضاجع

          في بداية تعليقه على رواية خميل المضاجع يقول بهاء طاهر: هل يفسر الميلودي شغموم الحياة بالأسطورة أم العكس? ثم يقول: إن القراءة المتأنية تثبت لنا أن الحياة أغنى بكثير من الأسطورة, فالحياة تخلق الأسطورة ثم تتجاوزها.

          وينبه بهاء طاهر إلى أن المؤلف ينصب الفخ من البداية حين يقدم أسطورتين جديرتين بأن تجدا مكانهما في تحوّلات (أوفيد) غير أن مؤلفي هاتين الأسطورتين - يا للعجب - هما موظف حاصل بالكاد على الشهادة الابتدائية, ومذيعة في إذاعة محلية تعثّرت في أولى سنواتها بكلية الطب, ولن يتسع المجال في هذا العرض لتقديم تفاصيل الأسطورتين - الكلام لكاتب هذا الاستطلاع - وسأكتفي لضرورة الإيجاز بالإشارة إلى أن الأسطورة الأولى التي اسمها (غاية) ألفتها المذيعة وتبحث عن إجابة لهذا السؤال, وكيف يبدأ الشر في الإنسان وفي الحياة? وكيف تكون نهايته أن يقع الإنسان في براثن الشعور بالوحدة, فيصرخ من عمق وحدته (لا أحد يحبّني في البيت).

          والثانية اسمها (وهمية) ألفها (علي الرماني) فإنها تنتهي بأن (وهمية) وهي ابنة أفروديت ربّة الجمال التي تخوض صراعاً مع الجيراء وهي امرأة شريرة تتعجّل موت زوجها بعد أن بلغ أرذل العمر, ومع ذلك فإن وهمية لا تستخدم في صراعها القتل ولا الشر بل الحب والصبر وتوصي الزوج المغدور بتلك السماحة سائلة إياه بين الحين والحين, أمازلت على الخط فيظل يكرر نعم حتى يسلم الروح?

          ثم يقول بهاء طاهر في تعليقه على هذا الجزء من الرواية:

          "وفي البدء لم تكن الأساطير, بل واقع من تفاصيل يومية, حكاية عادية تماماً, برنامج إذاعي عنوانه (لا تخف من مشاكلك, فهي غذاؤك", هو واحد من تلك البرامج التي تزحم الأثير مع مقدمي برامج متدربين جيداً على لعب أدوارهم, أي على التواطؤ المشترك مع المستمعين, فيتظاهر المذيعون بدورهم بأنهم يساعدونهم على إىجاد الحل, في هذا البرنامج الذي تقدمه السيدة (جميلة) تجري الأمور كما هو مرسوم لها, فالحلقة عن (تشغيل الجامعيين العاطلين في العالم), وانهالت المكالمات على المذيعة من أنحاء المغرب, تقترح الحلول السهلة والمستحيلة, ويحتدم النقاش بين الخبراء والهواة, ولكن فجأة ينقطع ذلك الاسترسال بمكالمة خارجة عن السياق, فها هو (سي علي) يدخل في الخط لديه مشكلة خاصة جدا, ونعرف من الحوار أنه متزوج ولديه ستة أولاد, أستاذ جامعي, وطبيب عيون وضابط في الجيش.. إلخ, كلهم يعملون, ما المشكلة إذن?

          المشكلة كما يقول (سي علي) أنه لا أحد يحبّني في البيت! ويحتج المستعمون على هذا المتطفل بمشكلة خارجة عن خط البرنامج, ولكن السيدة جميلة تعطيه الفرصة, ولزمن يبدو لا نهائياً سيقتصر الردّ على هذا السؤال: هل مازلت على الخط? نعم مازلت في الخط!

          اختل تواطؤ الكذب بين المذيعة والمستمعين ليحل محله تواطؤ على لحظة من الحقيقة!

          ثم يقول بهاء طاهر:

          "الراوي الرئيسي في الجزء الأول من الرواية هو الأستاذ الجامعي ابن السيد/علي الرماني هوالذي يتعرّف على صوت والده الحقيقي في مكالمته مع السيدة (جميلة) ويربط بين الأسطورة التي ألفها أبوه قبل عشرين عاماً من هذه اللحظة, وبين الأسطورة الثانية التي ألفتها سيدة اسمها فاطمة الطيبي لعلها هي المذيعة السيدة (جميلة) ذاتها!

          من هنا, فهو يتولى تفسير ما قد يغمض على أي قارئ! ما بقي من فصول الرواية, أو معظم ما بقي منها هو محاولة للرجوع إلى أيام ما قبل تلك الليلة الفاصلة في حياة الأب وهي حياة عجيبة حقاً تلك التي يعيشها في البيت مع وبعيداً عن زوجته وأبنائه الستة, اقتطع لنفسه مساحة صغيرة من البيت, وفي تلك الغرفة, اعتزل الأب أسرته والعالم, يقول لنفسه: (الجحيم أن تجد نفسك كل يوم ولسنوات عدة تكرر مالا تحب, مالا ترضاه فقط ليس غير, متى بدأ ذلك المرض, الضجر, العزلة, القرف, الوحدانية, منذ خرج إلى المعاش, منذ بلغ الخمسين من عمره? قبل ذلك بكثير, لماذا لا أحد يحبّني في البيت? هل لأنه وجد نفسه في بيته زائداً عن الحاجة? تمت المسألة بخطى تدريجية, ولكن مؤكدة, الزوجة مشغولة بالصغار, بتربيتهم, بطعامهم, بحل مشاكلهم, يكبر الأولاد فينشغلون بدراستهم, بمستقبلهم العملي, بوظائفهم, بحياتهم خارج البيت, بالتدريج يشعر أن الوحدة في البيت مفروضة عليه.

          هذا هو صوت الزوج كما تقدمه الرواية من خلال بوحه للمذيعة, ولكن صفحات الرواية تغلق الدائرة من خلال صوت الزوجة التي سمعت صوت زوجها في الراديو, فباحت بما لم تبح به من قبل:

          "ما أقسى ما احتملته معه ومنه, كم كرهت حياتها وهي تحتمل نزواته, وتربّي أولاده, وتصبر على خدمته, وخدمتهم (ردّوا بالكم يا ولي, عندك يا ابنتي, بوكم مريض, بوكم عنده مشكلة في الخدمة) ولكم أن تتخيّلوا بقية الشريط! ومثلما فعلت نورا في بيت الدمية, فإن الأم تصفق الباب وراءها وتخرج, وفي البيت تحل البنت الكبرى محل الأم الغائبة وتقول لإخوتها حلوها, ولكن الابن الأكثر يفكر (حذار يا مريم! على أن يكون ذلك السؤال آخر سطور الرواية, ويفتحها على روايات عدة أخرى, هل من الحق أن تلك المشكلة لا تعنيه? ألا يمكن أنها ستعنيه ذات يوم? إذن ما هي في حقيقة الأمر مشكلة (سي علي)? يسأل بهاء طاهر أليست هي ذلك البحث عن الامتلاء المستحيل في عالم من الخواء بحث (فاوست) العبثي عن مسرّات خارقة لا وجود لها في هذه الدنيا?!

          ثم يختم بهاء طاهر مناقشته لهذه الرواية قائلاً: وأنا لست معنياً بقضية التفاؤل والتشاؤم في الأدب, ولكن من رأيي أن الإنجاز الفني الحقيقي هو بجماله ذاته مصدر للتفاؤل والفرح في واقع ينقصه الكثير منها, فشكراً لك أيها الكاتب الجميل!

"مثل صيف لن يتكرر"

          ماذا يحدث عندما يتحوّل الناقد المجرّب إلى مبدع? هل تطغى خبرة الصنعة على تلقائية الإبداع? أم أن العلاقة بين النقد والإبداع أقرب ما تكون إلى الموسيقى في علاقتها بالغناء!

          فالموسيقار الموهوب في التلحين قد يكون ذا صوت جميل, لكن قدرته على تحليل الأصوات وقياس مداها, ووضع الألحان الملائمة لها لا تطعن في إمكان جمعه بين التأليف الموسيقي والغناء في نفس واحد موصول?!

          هكذا يطرح الدكتور صلاح فضل المشكلة - وهي هنا مشكلة أن الدكتور محمد برادة بدأ بالنقد وتطوّرت مسيرته إلى مغامرة الإبداع - وهكذا يلتمس لها الحل!

          ثم يستطرد د. صلاح فضل قائلاً:

          قدّم د. برادة كتابات طليعية في مجال النقد ابتداء من دراسته الأولى عن (محمد مندور والتنظير النقدي) وانتهاء بتأملاته الرزينة إثر اكتشافه لحوارية باختين ومناقشته الخصبة لأبعادها, مما جعله في موقف يسمح له بأن يطرح أسئلة النقد الروائي بحكمة ونفاذ شديدين, لكن غواية الإبداع لم تلبث أن لاحقته, فشرع في اجتراح مغامراته الإبداعية من (لعبة النسيان) إلى سرديته الجديدة (مثل صيف لن يتكرر)!

          ثم يقول عن هذا العمل الأخير الذي هو موضوع التعليق (تتميز كتابة برادة السردية في المقام الأول بأنها كتابة السؤال المتوتر الذي لا يطمئن إلى يقين جاهز إنه يبدأ منذ اللحظة الأولى في تأمل حالة الصوت الأول (حمّاد) وهو يقرأ ما خطّه منذ عشر سنوات في ورقة بيضاء (ميدان باب الحديد, شهر أغسطس, الشمس في منتصف النهار ترسل لهيبها اللافح, وهو يخرج من محطة القطار بمدينة القاهرة, حاملاً الحقيبة بيد, وباليد الأخرى صندوقاً من الكرتون به بدلة لونها كحلي غامق اشتراها ليلة سفره من باريس إلى روما, لمّا يكن قد جاوز السابعة عشرة من عمره).

          توقف قليلاً ليسرح مع خواطره, لماذا يبدأ من باب الحديد? أليس من الأفضل أن يبدأ من وداع عائلته في الرباط? أو من ركوب السفينة بالدار البيضاء يوم 13 يوليو سنة 1955 تجاه مرسيليا, أو من محطة القطار بباريس في مطلع النهار وهو يتجه إلى روما? بدايات كثيرة ممكنة, ولكن (حمّاد) يتخيل أن ميدان باب الحديد قد ترسّخت صورته الضاجة الصاخبة المليئة بالحركة والسيارات والترمواي الأصفر والخلق الكثير في ذاكرته, خاصة بعد أن تكرر وصوله إليه مرات عدّة!

          على كل حال, ليست هناك بداية مطلقة, والغريب أن تساؤلات الوعي النقدي الحاد عن دلالة البداية وأسبابها لا تبطل سحرها الإبداعي, بل تجسّد لحظتين متقابلتين, لحظة التجربة الأولى, مشبّعة بالذكريات اللاحقة, ولحظة الكتابة القابضة على زمام الذاكرة والتخيّل, المدركة لقوانين اللعبة السردية وتداخلاتها العديدة, إنه يصنع حواريته الداخلية عبر أصواته المنشطرة, وهو يرقب الكاتب والمكتوب في انخطافة مدهشة واحدة!

          ومن اللافت في هذه البداية أيضاً, أن الكاتب يرفض التوقيع على عقد السيرة الذاتية, بل يسمي نفسه (حمّاد) وربما عمد (برّادة) لهذه المراوغة ليكسب قدراً أكبر من الحرية في البوح والمصارحة في التذكّر دون خضوع للرقابة الاجتماعية المباشرة, وليوحي في الآن ذاته بأن فعل التخيّل النشط يمكن أن يمتد إلى اختلاق لون آخر من المشاهد المحتملة, وإن لم تحدث في الواقع التاريخي!

          لكنه بذلك يعبر عتبة السيرة الذاتية, ليمزجها بلون آخر من سيرة الحياة العامة الروائية والثقافية, غير أن هذا الخرق لميثاق السيرة الذاتية لا يلبث أن يلتئم في لحظتين يصرح فيهما الكاتب باسمه الحقيقي, أولاهما في روايته للقاء عابر مع الشاعر الكبير صلاح جاهين إبان أزمة الاكتئاب التي كانت تغزو روحه حتى صرعته فيما بعد, والأخرى في عودته اللاحقة للسؤال عن صاحبة المنزل التي كان يسكن عندها الطلاب المغاربة.

          يبدو أن حميمية اللحظتين قد نسفت التقية الواهية التي نصبها الكاتب, وأعادت الالتباس للجنس الأدبي الذي يدور في إطاره بحيث يظل متأرجحاً بين السيرة الذاتية والرواية التاريخية ليمزج برهافة بين فنون السرد.

"تغريبة بني حتحوت"

          يبدأ الجزء الأول من هذه التغريبة حوالي سنة 1754 وينتهي في سنة 1801 أي سنة جلاء الفرنسيين, أما المكان البؤرة في هذه الرواية, فهو بلدة (بني حتحوت) المسمّاة (قرية تلّة) التي يقول المؤلف إنها تبعد حوالي خمسة كيلومترات غرب مدينة (المنيا) بالصعيد, ولكن النيل المبارك هو المكان الذي تدور حوله في الواقع كل الأحداث, كما تدور كل الأحكام, في تلك الرواية التي أخذت عنوان تتغرييهة بني صحوت لمجيد لموبيا..

          ثم يشير الكاتب المغربي الميلودي شغموم إلى أن كل شيء في هذه الرواية يبدأ من هذه القرية ليعود إليها, وكأن القرية هي قلب مصر الحقيقي, وضميرها الفعلي, مصر العميقة المكابدة في صبر وأنفة وشطارة, ولا غرابة في هذا, فهنا توجد الأم والحبيبة, وتوجد الأرض, ويوجد النيل المبارك الكريم, أي توجد كل عناصر الأمومة, لذلك تبدو التغريبة كأنها رواية الأمومة بالمعنى الواسع, أو الرمزي والفعلي من حيث الارتباط العاطفي بالقيم, مكانة الأم على مكانة الأب, من غير حط من قيمته, ولا تسلط ذكوري أو أنثوي, ويرجع فيه إلى الأم لتأكيد النسب أو الوراثة.

          ولذلك فالمقصود بالأمومة هنا, هو نسب الحياة ووراثة القيم في هذا النظام, في حدود ما تعبر عنه لغتها في المعاجم القديمة بالخصوص, فتقول: الأم أصل الشيء سواء تعلق الأمر بالإنسان أو بالحيوان أو بالنبات.

          بهذا المعنى, تصير قرية تلة (الأم) أي أم القرى وكأن الكاتب يحيك خيوط هذه الأمومة, بكثير من العوليسية كما يجسّدها الصعيد بالخصوص, وعبر النيل العظيم على أن نفهم من العبر ومن عبر ما يلي:

          ترتبط كلمة (عبر) في المعجم بالأنهار والوديان غير أنها ترتبط في هذا السياق ذاته بالرؤيا: عبر الرؤيا أي فسّرها, وأخبر بما يئول إليه أمرها, وهذا ما تفعله التغريبة مع المصريين, ومع الأجانب الغزاة والمحتلين, وكثير من الأحلام في هذه الرواية مثل حلم إدريس والعرّافة قد تجد تأويلها في المعنى الأولي للرؤيا, إن شخصيات هذه التغريبة لا تعبر سردياً إلا بسبب حلم أو كابوس, وهي لا تخرج من كابوس لتفرح بحلم الخلاص منه إلا لتجد نفسها في كابوس آخر, من محنة إلى أخرى, وهكذا فإن العبور إلى الحرية والأمن لا يستمر طويلاً إلا في خصب النيل, وثبات الأصل, أي الأمومة والوفاء لها, وكأن هوية المصري لا تستمر إلا بفضل هذين العنصرين, برغم تاريخ مصر الطويل, فالتاريخ متحوّل, بحراني, أي دموي بسبب القرون الطويلة من الاستبداد والظلم, لكن النيل مبارك, والأم حاضنة حتى في البعد عنها, بل بسبب الاستبداد ذاته الذي يبعد ذكور بني حتحوت عنها, الأمر الذي يضطرهم إلى عبور لا يتوقف, أي إلى ركوب الأمومة والاحتماء بها حتى في الحلم.

"ويأتي القطار"

          بعد مقدمة ضافية, يتحدث فيها الكاتب المغربي نجيب العوفي عن القصاص المصري محمد البساطي, عن أعماله السابقة بين القصة والرواية, وعن وضعه المتميز بين أبناء جيله, يقترب من الرواية مناط النقد والتحليل وهي رواية (ويأتي القطار) فيقول:

          "ليس قطار البساطي الذي يأتي ويمضي سوى قطار العمر يغذ في سيره, ويغيّر من تضاريس المكان والوجدان, وليس أيضاً وأساساً سوى قطار الرواية المصرية في رحلتها الدءوب المتجددة المعطاء وليست رواية البساطي سوى محطة مضيئة ومتميّزة في هذه الرحلة".

          ثم يقترب أكثر من أسئلة النقد, الذي تواجهنا به الرواية ذاتها. فيطرح الأسئلة التالية:

          - هل هي رواية أم سيرة ذاتية?

          - هل هي رواية أم مجموعة قصص, مجموعة لوحات قصصية متتابعة ومتقاطعة?

          ثم يجيب الناقد على الأسئلة التي تطرحها الرواية فيقول:

          هذه الرواية قريبة من أجواء السيرة الذاتية, ناضحة من إنائها, وإن الهاجس الروائي فيها ملتبس وملتحم بالهاجس الأتوبيوجرافي, من خلال لعبة حكي مراوغة وبارعة يجيد الكاتب نسج خيوطها وأحابيلها, فنحن حيال نص إبداعي سردي ساخن وفاتن, يغتلي وئيداً بالحياة والأحياء, كما يغتلي المرجل فوق نار هادئة, يضاف إلى هذا أن السيرة الذاتية بالنسبة للنصوص القصصية كما عبّر الباحث الأمريكي (برنارد دي فوتو) ذات يوم هي على الدوام (مغناطيس تحت الصفحة) والذي يهم الكاتب أولاً وأخيراً هو كيف يراوغ هذا المغناطيس ويحتال على جاذبيته, وكيف يبدع كتابته?

          وحتى إذا احتسبنا (ويأتي القطار) رواية أوتوبيوغرافية, فهي تخرج تماماً عن مألوف السير الذاتية الروائية العربية المشرنقة على ذاتها, والمحصورة بين أرصفة المدينة وجدرانها الاسمنتية, وترتاد بديل ذلك أجواء حكائية ريفية ثرية وبهية, بسيطة ومعقّدة, ترتاد ما أسماه باختين (دائرة الاتصال الخشن, حيث يستطيع المرء أن يمسك بكل شيء بيديه).

          إنها ليست رواية ذات صوت أحادي النبرة, بل هي رواية بلدة بأسرها, بأناسها وحيواناتها, وأتربتها وأوصالها, وأوبئتها وأشجارها وأنهارها ومسالكها, وقبل هذا وذاك بأسرارها والتباس دواخلها ونوازعها, وتلك هي ميزة الكاتب ونقطة قوته السردية, يبقى السؤال التصنيفي الثاني والأساس - في رأيي - وهو: هل تعد (ويأتي القطار) رواية متجانسة متماسكة الهوية والخطية, أم هي لوحات قصصية متصلة ومنفصلة, متتابعة ومتقاطعة في آن?

"حكايات المؤسسة"

          يرى الدكتور أحمد اليبوري أنه إذا كانت الرواية العربية بصفة عامة تتناول ظواهر جزئية اجتماعية أو اقتصادية عن طريق رصد بعض التحوّلات التي تعرفها فضاءات معينة مادية أو رمزية خاصة في إطار الاتجاهين الواقعي والأطروحي, فمن الممكن أن نلاحظ تغيّراً واضحاً في هذا المنحى من الكتابة الروائية عند جمال الغيطاني الذي أصبح يركّز على المؤسسة في علاقتها بمكوّنات المجتمع سواء منها مؤسسة السلطنة والبصاصين في (الزيني بركات) أو الجامعة والبلدية في (شطح المدينة) أو المؤسسة بأداة التعريف التي تحيل على الحقيقة في (حكايات المؤسسة).

          وذلك يعني - في نظرنا - تحوّلاً على مستوى الوعي النصّي الذي أمكن بواسطته تحديد الأطر الكبرى التي تعمل على إفراز الظواهر الجزئية, والشعور بضرورة الانطلاق مما هو شمولي وجوهري إلى تمظهراته على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسلوكية والذهنية.

          هذا التصوّر للكتابة الروائية عند الغيطاني ينطلق من رؤية معينة لصيرورة المجتمع العربي كما هو الشأن بالنسبة لجميع الروائيين, إلا أنه بالنسبة للغيطاني مدعم بخلفية ذات امتدادات صوفية, وأخرى تاريخية فرعونية, في بعديها الفكري والحضاري, وثالثة استطيقية توظف أساساً طرائق السرد التراثي, مع الانفتاح الانتقائي على طرائق السرد الغربية خاصة في الحوارات الداخلية, والاسترجاعات والاستباقات والتقلبات غير المتوقعة, والتداخل من حين لآخر بين المسارات السردية في وصف الأمكنة والتخوم بحيث يمكن أن نقول: إنها محاولة لاستنبات تلك الطرائق المستوردة في فضاء السرد التراثي وتعريبه - إذا صح التعبير - تدريجياً حتى تصبح ملائمة للذائقة الجمالية العربية, وليس بخاف في هذا المجال الإضافات القيّمة التي يقدمها روائيون عرب معاصرون في الاتجاه نفسه, غير أن تركيزنا على الغيطاني نابع من تصوّرنا أن تجربته الإبداعية لها خصوصيات سنبرز بعضها من خلال قراءة (حكايات المؤسسة) تعمل هذه الرواية وفق قانون الانشطار الذي يحيل على محكي يتشكّل بالمؤسسة ككل, ومحكيات مؤطرة عن المؤسسة والرؤساء المتعاقبين, وعن العاملين والعاملات بمختلف درجاتهم بين الطابق الأول والطابق الثاني عشر, إننا إزاء منطق له حكائية تبدو ككل حكاية متداخلة, لكنها ترتبط في الواقع مع غيرها من الحكايات بنائياً ودلالياً لتشيد في آخر المطاف ما يمكن أن نطلق عليه مؤسسة الرواية, بأبعادها الأيديولوجية والاستاطيقية, ويطرح البناء الروائي مسألتين, الأولى تحيل على مفهوم التجاور كما قدمه (ياكوبسون) في حديثه عن الفروق بين الشعر والنثر, والثانية تقوم على أساس التفاعل الذي يعتبر الرواية في مجملها (استعارة سردية تنقل دلالات كلية تتجاوز المعاني الجزئية لمختلف مكوّناتها), إن قراءة أفقية في حكايات المؤسسة وفق قانون التجاور يفضي إلى إمكان استقلال كل حكاية على حدة, لكن قراءتها عمودياً وفق قانون التفاعل يتيح تجاوز الحدود الحكائية إلى الكل الروائي ذي البعد الاستعماري, خاصة إذا اعتبرنا بإمكان التداخل في المجال السردي أحياناً بين المكوّنتين الكنائي والاستعماري.

 

أبوالمعاطي أبوالنجا   

 
 




جلسة الافتتاح ويظهر من اليمين محمد برادة، ادوارد الخراط، د.جابر عصفور، أنور المرتجى





د. عبدالحميد عقار





صورة إحدى الجلسات ويظهر في الصورة من اليمين حسين حمودة، بهاء ظاهر، محمد برادة، إدوار الخراط





محمود أمين العالم





جانب من الحضور محمود أمين العالم، الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، يوسف الشاروني





د. محمد برادة





خناتة بنوتة





سالم بن خميس





محمد صوف





جمال الغيطاني