100 عام على ميلاده: ذكرى علي مبارك جابر عصفور

100 عام على ميلاده: ذكرى علي مبارك

مؤلف ومترجم ومهندس عسكري، ومشرف على السكك الحديدية وعاشق للكتب والتراث، ومؤرخ لحركة المكان داخل الزمان ومنشئ للصحف، وأب للتعليم...كل هذا اجتمع في رجل واحد تخصه العربي بهذه التحية في ذكرى مرور مائة عام على ميلاده.

من يسمع عن "علم الدين" في هذه الأيام؟ ومن يعرف مؤلفها؟ هل يذكر الطلاب الذين يذهبون إلى قاعات الدرس كل يوم، في كل مراحل التعليم، اسم مؤلف هذا الكتاب الذي تدين له مدارسهم الحديثة بالكثير؟ هل يعرف الذين يدخلون دار الكتب، في القاهرة، اسم الرجل الذي أنشأ هذه الدار وقام بتنظيمها وتزويدها بأكبر ثروة عربية من المخطوطات والمطبوعات الأولى؟ هل يعلم العابرون فوق "القناطر الخيرية" اسم المهندس الذي أسهم في إكمالها؟ هل تعلم السائرون في شوارع القاهرة العجوز شيئا عن الرجل الذي قام بتنظيمها؟ هل تلقى ركاب قطارات السكك الحديدية في مصر معلومات عن ذكرى الرجل الذي أشرف على أكبر توسع لها في عهد الخديوي إسماعيل؟ لا أظن أن الكثيرين يسمعون عن علي مبارك مؤلف "علم الدين" أو أن طلاب المدارس يذكرون هذا الرجل الذي هو أبو التعليم. وأحسب أن أغلب طلاب دار العلوم وطالباتها في القاهرة يجهلون اسم الرجل الذي أنشأ كليتهم، ولن نجد واحدا من بين مائة، من شباب الصحافة والإعلام. قد سمع عن مؤسس مجلة "روضة المدارس". ولن يجد الداخلون إلى دار الكتب المصرية القديمة، أو الحديثة، صورة أو تمثالا لعلي مبارك الذي أقامها. ومن المؤكد أن أغلب القائمين على مبناها المطل على كورنيش النيل في القاهرة لم يسمعوا عن مؤسس دارهم القديمة. ولن نجد حول القناطر الخيرية، أو في الطرق المتعددة في مدينة القاهرة، أو حتى الإسماعيلية، من يذكر أبناءها باسم علي مبارك ناظر الأشغال وناظر المعارف العمومية وناظر السكك الحديدية وناظر القناطر الخيرية والمترجم والمؤلف الذي خلف لنا "علم الدين" و"الخطط التوفيقية" وغيرهما.

تواصل أخلاق مع التراث

ولد علي مبارك عام 1823 وتوفي عام 1893، تحديدا في ليلة الثلاثاء الموافق 14 نوفمبر (5 جمادي الأولى 1311)، أي أننا احتفلنا الشهر الماضي بمرور مائة عام على وفاته. نحاول أن نسترجع ذكراه وسط الأحداث المتلاحقة التي لا تكاد تترك لنا مجالا لاستعادة الذكرى والتواصل الخلاق مع التراث الذي ندين له بالنهضة. وذكرى علي مبارك لها أهميتها التي لا بد من تأكيدها في هذه السنوات التي نلوذ فيها بقيم "الاستنارة" في مواجهة مخاطر "الإظلام"، فقد كان علي مبارك رائدا جليل القدر من رواد هذه الاستنارة. مزج العلم بالفنون، والخبرة العسكرية بالخبرة الإدارية، وجمع إلى الاهتمام بالتعليم الاهتمام بهندسة المدن، وبأنظمة الري أنظمة المواصلات، وبالعمل الوزاري العمل الشعبي، وأتقن علوم العرب القديمة وفنون الغرب الحديثة، وكان صورة أخرى من رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) الذي أصدر كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" حين كان علي مبارك في الحادية عشرة من عمره.

والمسافة الزمنية التي تفصل بين ولادة علي مبارك ورفاعة الطهطاوي تربو على العقدين بعامين، وهي مسافة شهدت متغيرات التعليم التي استحدثها محمد علي، والتي أسهم فيها رفاعة الطهطاوي نفسه بعد أن أصبح ثمرتها الأولى، وبعد أن بدأ في مساعدة ولي النعم" على تحقيق حلمه، في تأسيس دولة حديثة، بين دول العالم المتقدم في ذلك الزمان. ولذلك تختلف بداية التكوين الثقافي لعلي مبارك عن بداية التكوين الثقافي لرفاعة الطهطاوي الذي سبقه في المولد باثنين وعشرين عاما، وسبقه في الوفاة بعشرين عاما، وذلك فارق دال على حركة الأجيال من ناحية، وفي تغير عملية المثاقفة من ناحية ثانية. لقد كانت بداية التكوين الثقافي لرفاعة الطهطاوي دينية الطابع، أزهرية الأسلوب، أما بداية التكوين الثقافي لعلي مبارك فلافتة بما انطوت عليه من قيم مدنية، ارتبطت ببداية انتشار التعليم الحديث الذي أسهم رفاعة نفسه في تأسيس أصوله. وكانت تلك الأصول منطلقا للتعليم المغاير الذي تدرج فيه علي مبارك.

ومن المهم التوقف أمام دلالة هذا الاختلاف الذي ينطوي على إحدى المفارقات الدالة في حياة علي مبارك وإنجازه. فمن الطريف أن الرجل الذي يعده أغلب الباحثين أبا للتعليم في الوطن العربي وأهم الرواد العاملين على تنظيمه وإصلاحه وتوحيده وتحديثه، بدأ حياته بالفرار من التعليم، وكان ذلك حين أوكل والده إلى أحد مشايخ القرى التي تنقل فيها مهمة تعليمه، ليعده شيخا حافظا للقرآن، فلم يحتمل الصبي طرائقهم البالية في التعليم فهرب من قريته أكثر من مرة، ولج في الهرب إلى أن عثر بنفسه على بداية طريقه، وتمكن من أن يلتحق بمدرسة قصر العيني (عام 1836)، وظل بها- بعد أن نقلت إلى أبي زعبل (عام 1837) لتحل محلها مدرسة الطب- إلى أن اختير لمدرسة الهندسة (عام 1840)، تلك المدرسة التي استمر فيها إلى أن سافر إلى فرنسا (عام 1845) لدراسة العلـوم، بعد أن اختاره سليمان الفرنساوي للسفر مع أنجال محمد علي باشا وأحفاده في البعثة التعليمية التي عرفت باسم بعثة الأنجال. لقد اقترنت هذه النشأة المغايرة بتغير النظام التعليمي الذي واكب خطوات تأسيس الدولة المدنية الحديثة التي وضع قواعدها محمد علي باشا في فترة حكمه (1805- 1848). وارتبط مسار علي مبارك التعليمي نفسه بمسار الدولة المدنية الحديثة وخطواتها في التأسيس والازدهار على السواء. وكان تعليمه من البداية إلى النهاية تعليما مدنيا، أعني تعليما واكب خطى دولة محمد علي الحديثة في أفقها العسكري المتسع اتساع طموحات محمد علي، ولم يتخل عن الصبغة المدنية رغم إحباط مشروع محمد علي بعد تآمر الدول الكبرى عليه واتفاقها على تقليص قوته عام 1841، وتواصل هذا التعليم المدني بعد موت محمد علي، بعد أن اتخذ مساره ضمن مسار الدولة الحديثة التي لم يعد من الممكن إرجاعها إلى الوراء.

ولذلك ذهب علي مبارك إلى فرنسا بوصفه طالبا مدنيا، سبق له أن درس في مدارس مدنية، ولم يكن شيخا معمما، وظيفته إمامة طلاب البعثة كما فعل رفاعة الطهطاوي. وكان عدد أفراد البعثة التي سافر ضمنها سبعين تلميذا، فتحت لهم مدرسة خاصة في باريس، وكان من أعضائها اثنان من أبناء محمد علي باشا نفسه، واثنان من أحفاده، أحدهما الخديوي إسماعيل الذي أعان رفيقه علي مبارك بعد ذلك على تحقيق أحلامه، فأصبح ناظرا للمعارف العمومية والأشغال العمومية والسكك الحديدية في عهده. وكانت هذه المدرسة تحت رياسة وزير حربية فرنسا الذي كان رئيس وزرائها أيضا.

وكان محمد علي يتلقى تقريرا عن طلبتها كل ثلاثة شهور. وقد زار إبراهيم بن محمد علي هذه المدرسة يوم 11 مايو سنة 1864 واختبر أمامه أعضاء البعثة. وقدمت للمتفوقين منهم جوائز. فاستحق على مبارك الجائزة الثانية. كما كان ثالث الناجحين في الامتحان الذي نقل بعده إلى مدرسة ميتز الحربية.

وفي باريس أقام علي مبارك سنتين، قضاهما مع أعضاء البعثة في بيت واحد. وكان تعليمهم فيها عسكريا تولاه معلمون عسكريون من رجال الجيش الفرنسي. ولما أتم دراسته في باريس اختير مع زميلين له لدراسة المدفعية والهندسة الحربية في كلية ميتز، ونال عن ذلك رتبة الملازم الثاني، ثم التحق بفرقة المهندسين في الجيش الفرنسي.

وعاد إلى مصر في عهد عباس الذي كان معاديا للانفتاح والتقدم وتحديث الدولة على السواء، ولم يكمل ما خططه له إبراهيم باشا الذي مات بعد توليه الحكم بشهور قليلة (إبريل- نوفمبر 1849).

وظل على مبارك يتقلب في وظائف ثانوية في عهد عباس الأول (1849- 1854) ولم يرتفع إلى المستوى الذي يتمكن معه من تحقيق أحلامه في أن تكون مصر قطعة من أوربا، وهي أحلام كان يشترك فيها مع رفيقه في البعثة، الأمير إسماعيل الذي أصبح الخديوي إسماعيل بعد وفاة سعيد باشا (عام 1862).

وعندما تولى إسماعيل باشا الحكم (1863 م) وضع الكثير من أحلامه بين يدي رفيقه القديم في البعثة ليعمل على تحقيقها، فألحقه بحاشيته أولا، وأوكل إليه أمر الإشراف على القناطر الخيرية، ثم اختاره وكيلا لديوان المدارس (أي وزارة المعارف) مع بقائه على نظارة القناطر (1867)، ووصلت مكانته إلى ذروتها (عام 1870) حين أضيفت إليه، وهو وزير للأشغال والأوقاف والمعارف، إدارة سكة الحديد، وأنعم عليه برتبة "مير ميران ".

وكان هذا العام عام إنشاء دار الكتب التي أشرف علي مبارك على تأسيسها بعد أن استصدر من الخديوي إسماعيل أمر إنشائها في 20 من ذي الحجة سنة 1286 هـ (1870) بجوار المدارس، داخل سراي درب الجماميز، ووضع لها نظاما للمطالعة والمراجعة والنسخ، وجمع فيها ما كان متفرقا في المساجد والزوايا والبيوت من نوادر المخطوطات، ومن الكتب المطبوعة التي بدأت طباعتها مع إنشاء مطبعة بولاق "1822" بعد أن ظلت الطباعة العربية مقصورة على مطبعة الآستانة. وألحق بدار الكتب معرضا للآلات الطبيعية والرياضية، كان طلبة المدارس يذهبون إليها للمشاهدة والمران، وأنفق على شراء تلك الآلات نحو أربعة آلاف جنيه، وهو مبلغ ضخم بمقياس ذلك الزمان. وسرعان ما وضع تصميما معماريا جميلا لمبنى دار الكتب الذي لا يزال يحتل مكانه في ميدان باب الخلق في القاهرة القديمة.

تحديث التعليم

وبعد ذلك بعام واحد "في 1871، أنشأ على مبارك ديوان المدارس، ليوحد كل أنظمة التعليم، ويصلح أنظمتها، تحت رعاية مركزية تقوم بإتمام عملية تحديث التعليم وإكمالها. وخلال هذا العام، وفي السياق المتصاعد لتحديث التعليم، أنشأ "دار العلوم" معهدا لتخريج معلمين مؤهلين تأهيلا حديثا للتدريس في المدارس المدنية الجديدة التي أخذت في الانتشـار في كل ربوع مصر. وكان تأسيس "دار العلوم" خطوة متقدمة، فمن هذا السياق، في تأسيس التعليم العالي المدني في العلوم الإنسانية، بعد أن استقرت المعاهد العلمية العملية المرتبطة بتحديث الدولة، والتي تجلت قبل ذلك في إنشاء المدارس الحربية ومدارس الطب والصيدلة والتعدين والهندسة والكيمياء والري والإشارة والفنون والصنايع.

وطلب علي مبارك من شيخ الأزهر أن يختار له بعض العلماء ليدرس في مدرسته الجديدة ،"دار العلوم" التفسير براتب أربعة جنيهات في كل شهر، على أن يلقي في كل أسبوع درسين زمن كل منهما ساعة ونصف، وأن يختار لهذه المدرسة عشرة من طلاب الأزهر يلحقون بها. وكانت الإعانة الشهرية المقدمة لكل واحد من هؤلاء الطلاب خمسة وعشرين قرشا. وتم تنظيم برنامج تعليمي جديد لطلبة هذه المدرسة ليغدوا مدرسين يسدون حاجة المدارس الحديثة من المعلمين. وأخذ هؤلاء الطلاب يدرسون- فوق ما تلقوه من قبل في الأزهر من علوم اللغة والفقه بعد حفظ القرآن- الفنون المفقودة من الأزهر، كالحساب والهندسة والطبيعة والخط والتاريخ والجغرافيا، يتمون ما يدرسه الأزهر من علومه القديمة بالعلوم الحديثة التي كانت البداية المتصاعدة التي اكتملت بتأسيس الجامعة المصرية بعد حوالي خمسة وثلاثين عاما.

وقد أدرك على مبارك أن ما يقوم به من تحديث للتعليم لا يمكن أن يكتمل إلا بأمرين حاسمين، أولهما الإسهام في إنشاء صحافة مدرسية، تعمل على نشر المعرفة الجديدة بين صفوف المعلمين، والطلاب والخريجين من الأفندية الذي أخذوا يتزايدون عاما بعد عام، فأنشأ مطبعة ديوان المدارس "عام 1867" وبعد ذلك بسنوات قليلة أنشأ مجلة "روضة المدارس" "عام 1870" وعهد بإدارتها إلى رفاعة الطهطاوي الذي أصبح ابنه رئيسا لتحريرها. وبدأ الأمر بتأسيس المدرسة السيوفية التي افتتحت عام 1872، فكانت البداية الحاسمة في تعليم "المرأة الجديدة" التي سوف يتحدث قاسم أمين عن تحريرها، بعد ذلك بسبعة وعشرين عاما، عندما أصدر كتابه "تحرير المرأة" عام "1899"، وقد أعد رفاعة الطهطاوي كتابه "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين" بهذه المناسبة، ونشره في عام افتتاح المدرسة "عام 1872" قبل وفاته بعام واحد.

ولكن تحديث التعليم لم يكن سوى وجه واحد من مشروع على مبارك التنويري المتعدد الأوجه، فقد أدرك الرجل أن تحديث التعليم ليس سوى الوجه الفكري للمشروع، أما الوجه المادي فيتصل بازدهار العمران الحديث، وتأصيل وجود المدنية العصرية التي تضم- إلى جانب المدرسة الحديثة- العمارة العصرية والتخطيط المدني، وأدوات الاتصال والانتقال وآلات الصناعة والتصنيع.

المهندس ينسق المدينة

ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون وزير المعارف العمومية الحديثة وزير الأشغال العمومية التي أصبحت وسيلة أخرى من وسائل التحديث. وتتجلى في هذا الجانب مواهب علي مبارك المهندس المدني، في تخطيط المدن الجديدة، بشوارعها وأحيائها وتدين له القاهرة في ذلك بالكثير. ومن الشوارع والميادين التي وسعها ونسقها، في القاهرة، في هذه الفترة، شارع محمد علي وميدانه، وشوارع منطقة الأزبكية وميادينها، وعابدين، وباب اللوق، وغيرها.وقد أزال ما كان بين منطقتي الفجالة وباب الفتوح من التلال فأقيمت فيها الحدائق وفعل الفعل نفسه في منطقة الإسماعيلية التي أراد لها أن تنطق بجمال ولي نعمته ورفيقه القديم في البعثة. وأنشأ جسر قصر النيل بين القاهرة والجيزة، ورصف شوارع الجيزة بالحجر والرمل.

وغرس أندر الأشجار وأكثرها جمالا، وصنع ذلك في أماكن كثيرة من القاهرة وأضاء القاهرة بغاز الاستصباح، ورفع ماء النيل إلى بيوتها وأماكنها بإنشاء شركة المياه، وبنى مذبح القاهرة، وقام بتوصيل مياه الشرب من القاهرة إلى حلوان، ونظم الحمامات والمرافق الصحية، وأسس مباني البريد والخدمات ومحطات السكك الحديدية الحديثة. وأقام مباني" المديريات" في حواضر الأقاليم، وكذلك القناطر والجسور والترع، وأكبرها ترعتا الإسماعيلية والإبراهيمية، والأولى نسبة إلى رفيقه في البعثة، والثانية نسبة إلى إبراهيم باشا الذي شجعه على التفوق عندما زار مقر البعثة في باريس قبل وفاته، وأكمل على مبارك مشروعه التحديثي عام 1875 عندما استجاب إلى ما طلبه من إسماعيل من تنظيم الزراعة والري في مديريتي القليوبية والدقهلية وغيرهما. وكان قد أشرف على تنظيم احتفالات افتتاح قناة السويس وإعداد القاهرة لتستقبل ملوك وأباطرة العالم الجديد الذي تطلعت لتصبح عاصمة من عواصمه عام 1869.

ومن الواضح أن سفه إسماعيل في تحقيق هذا الحلم هو الذي قاد إلى خراب مصر، وهو سفه ينقلنا إلى الوجه القاتم من الصورة، أعني الوجه الذي كان يجعل على مبارك يقف إلى جانب الحاكم الذي هو ولي نعمته دائما، والذي أدى إلى إزاحة هذا الحاكم نفسه من على العرش "عام 1879" بعد عشر سنوات على وجه التحديد من افتتاح القناة، ولكن عصر إسماعيل كان العصر الذهبي لعلي مبارك، ففيه حدثت أعظم إنجازاته، وبعده أخذ نجمه في الأفول.

ومع إعفاء إسماعيل من الحكم وولاية توفيق، دخل علي مبارك مرحلة مختلفة، تصاعدت بمحاولة التوسط بين توفيق والثائرين عليه من العرابيين، وانحدرت بالانحياز إلى توفيق والعمل معه، فظل وزيرا للأشغال، في وزارة شريف "التي تشكلت بعد الاحتلال عام 1883"، وينعم عليه توفيق في هذه السنة برتبة "روملي بيكلر بك" ولكنه سرعان ما يخرج من كرسيه الوزاري ليعود إليه ثم يخرج منه إلى الأبد، ويظل كذلك إلى أن يموت في ضيعته ليلة الثلاثاء الموافق 14 من نوفمبر 1893 وتحزن مصر كلها عليه ويشيع كل طلابها جنازته بوصفه الرجل الذي عمل على الوصول لتعليمهم الحديث إلى مكانته العصرية اللائقة. وتسير جنازته في طرقات المدينة التي نقل تنظيمها وتخطيطها إلى مشارف عصر جديد.

آثاره الفكرية

ويترك الرجل إنجازاته المادية شاهدا على ما فعل من تحديث في مجال الهندسة والتعليم والأوقاف والفنون، كما ترك لنا لوائحه التي أصلح على أساسها التعليم وقام بتحديثه، وأهمها لائحة رجب سنة 1284 هـ "نوفمبر سنة 1868" وإلى جانب ذلك كله كتبه المترجمة والمؤلفة شاهدا على فكره. ولكن عندما نتحدث عن آثاره الفكرية نكتشف مفارقة أخيرة، وهي أن للرجل ستة كتب في المجالات العلمية، وهي "تذكرة المهندسين" و "تقريب الهندسة" و "تنوير الأفهام في تغذي الأجسام" و "خواص الأعداد" و"طريق الهجاء والتمرين" و "الميزان في الأقيسة والمكاييل والأوزان" ومع ذلك فلا أحد يذكر هذه الكتب بالقياس إلى كتبه الأدبية أو الإنسانية، والأمر نفسه ينطبق على ترجمته لكتاب سديو عن "تاريخ العرب" عن الفرنسية، فأهم ما ترك الرجل في ذاكرة الثقافة العربية ثلاثة كتب هي "نخبة الفكر في تدبير نيل مصر" في مجلد واحد "والخطط التوفيقية" في عشرين مجلدا، و"علم الدين" في أربعة مجلدات، نثر علي مبارك في قالبها القصصي أهم أفكاره وأكثرها إثارة للانتباه في هذا الزمان الذي نعيش فيه.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




علي مبارك