جمال السجيني رحلة فن عمرها 30 عاما صبحي الشاروني

جمال السجيني رحلة فن عمرها 30 عاما

إنه واحد من أبرز الفنانين العرب في مجال النحت على مدى ثلاثة عقود من الزمن. عرفته الحركة الفنية المصرية طموحا ومجددا باستمرار، دائم البحث والتجريب، يثـور على المفـاهيم السـابقـة في الفن ويجتهـد من أجل تجاوزهـا.

" ولد جمال السجيني في 7 يناير 1917 في شارع البكرية بحي باب الشعرية وكان أبوه نجارا، فتعلم من متابعـة عملـه في الـدكـان كيف يتشكل الخشب ويصبح شيئا مجسما متكاملا.

يشب الفتى في الحي العتيق حيث زخارف المباني الأثرية الإسلامية الطراز تلقي ظلالا حادة مع أضواء الشمس وبريقها. وينمو إحساسه بالتجسيم كلما نما جسمه ونضج فكره.

وتتعثر خطاه في التعليم، والأسرة رقيقة الحال، وطبيعته تنفر من المناهج التي تثقل الذهن والتي تصرفه عن التحليق في عالم الخيال، وقبل أن يتقرر نهائيا انخراطه في عمل حرفي تلوح مدرسة الفنون الجميلة العليا في الأفق، كان ذلك عام 1933، الفنان الرائد يوسف كامل يقترح على أسرته طرق هذا الباب، والأسرة العصامية لا تترك بابا إلا وطرقته، بينما مدرسة الفنون تبحث عن المواهب ولا يهمها الـدرجـات كما هو الحال الآن، واجتـاز السجيني اختبار القبول بتفوق.

ظهر نـبوغ جمال السجيني مبكرا، ففي 1937 فاز "بجائزة محتار للنحت" وهو لم يزل طالبا يدرس الفن، وعندما تخرج عام 1938 حصل على دبلوم فن النحت بدرجة ممتاز.

كانت دراسته على يدي الفنان الفرنسي "كلوزيل" وهو من أتباع الفنان الرومانتيكي "رودان" الذي اهتم بالتعبير عن العواطف المتأججة والمواقف الحالمة في فن النحت، بالإضافة إلى لمسة "تأثرية" في طريقة الصياغة تجعل ملامح التمثال تبرز بغير تحديد وكأنها لم يتم نحتها أو كأنها تعرضت لعوامل التعرية بعد أن كانت مكتملة الدقة.

البداية.. رومانتيكية

هكذا بدأ السجيني مراحله الفنية بالاتجاه الرومانتيكي، بينما وصف البعـض هذه المرحلـة بأنها "واقعية اجتماعية" تميزت بالثورية والاحتجاج. لكن الحقيقة هي أن الجانب الثوري فى أعمال. السجينـى الأولى كـان يتعلق بالموضوعات التي تناولها، أما الأسلوب فكـان استمرارا لأسلوب الفنان الرائد محمود مختار الذي تـوفي عام 1934 بالإضافة إلى التعاليم الأوربيـة التي سار عليها المثالون المصريون حتى منصف الأربعينيات.

كان سفره عقب تخرجه لاستكمال دراسته يشبه نوعا من معاندة القدر، فقد واجهته الظروف العالمية وكأنها تتكاتف على إحباطه، لقد عمل معيدا بكلية الفنـون الجميلـة وحصل على البعثـة في فـرنسـا ليستكمل كفـاءتـه في تدريس الفن، لكن الحرب العالمية الثانية انـدلعت فقطعت بعثته واضطر للانتقال إلى إيطاليا ليكمل دراسته هناك. ومرة ثانية قطع بعثته عندما دخلت إيطاليا الحرب ضمن دول المحور ضد الحلفاء وعاد إلى القاهرة دون أن يبلغ هدفه ولينتظر سنوات طويلة مملة متضرعا إلى الله أن تضع الحرب أوزارها ويعم السلام ليستكمل فرصته التي أخفق في تحقيقها من قبل.

ابتدع جمال السجيني فكـرة التوقيع على التماثيل فحفر الحروف الأولى من اسمه متداخلة ليصنع منها شكلا مميزا، جميلا في استدارته حيث يتحقق لأسنان السين إيقاع موسيقي داخـل استدارة الجيم.. وهكذا اتبع المثالون الأصغر سنا- وكلهم من تلامـذته- تقليـد التوقيع بأسمائهم على تماثيلهـم من بعده.

أيام الحرب الصعبة

الفنان الرائد "يوسف كـامل" أستاذ الرسامين التأثـريين المصريين جميعـا، هو صاحب الفضل في اقتراح التحـاق جمال السجيني بالفنـون الجميلة وقـد ظل الفنان الشاب وفيا لأستاذه.

عمة السجيني تزور أسرة يوسف كامل من حين لآخر، ورأى السجيني الآنسة هدى ابنة أستاذه فتعلق بها.

في ذلك الزمان لم يكن هناك مجال لقصص الحب ومغامراته، ولكن الزواج أعقبتـه سنة كـاملة من الكفاح. فقد سكن العروسان حجرة في سطح عمارة عقب زواجهما عام 1944، وادخرا كل قرش بل كل مليم لكي يحققا ما بدأه جمال قبل الحرب وعانده القدر فلم يستكمله. وما أن انتهت الحرب حتى باعا الأثاث والحلي وكل ما يملكان في مصر وسافرا بلى بـاريس ليتم دراسته الفنية على نفقتهما الخاصة. ولم ينضم إلى البعثة التعليمية في روما إلا عام 1947 فحصل على دبلوم فن النحت ودبلـوم فنون الميداليا وسك النقود عام 1950.

عمل السجيني بعد عودته عام 1951 مدرسا لفن النحت بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وتدرج في مراتب التدريس حتى وصل إلى وظيفة أستاذ.

واكتملت أدوات التعبير عند السجيني بعد ثورة 1952، وأصبح اسمه ملء الأسماع وسيرته وفنه على كل لسان متزعما حملة الهجوم على الفن المحافظ وأصحـاب الأساليب الأكـاديمية، كي أصبح أيضا هدفا لهجوم هؤلاء الذين التزموا الأساليب الطبيعية والتسجيلية في الفن.

تميز بغزارة الإنتاج، وبأن أعماله الفنية تثير الكثير من الجدل والمناقشات، وهي ظاهرة تصاحب كل اتجاه جديد في الفن، أن يختلف حـوله الناس ما بين مؤيد ومعارض، البعض يعجب به والبعض يرفضه، وقد تطور فن السجيني مارا بعدة مراحل، هذا بالإضافة إلى تنوع الخامات التي عالجها من نحت مجسم بطريقة البناء إلى تماثيل خزفية إلى لوحـات النحت البارز، ثم تشكيل المعـادن عن طريق لحام الأكسجين، إلى تصميم وتنفيذ الميداليات، بالإضافة إلى لوحات النحاس المطروق الرائعة الجمال والمتقنة الصياغة، مع كم كبير من اللوحات الزيتية التي عالـج في معظمها مـوضـوعين رئيسيين "المراكب الشراعية في النيل" و"عروسة المولد".

الجوائز تتوالى

وعندما أنشأت الإسكندرية "المعرض الدوري الدولي لـدول حوض البحر الأبيض المتوسط" المعروف باسم "بينالي الإسكندرية"، فاز السجيني بجائزة النحت على القسـم المصري في أولى دوراته عام 1955.

وفي العام التالي 1956 فاز بجائزة الإنتاج الفني في مصر في فـرع النحت. ثم شارك بـاسم مصر في معرض موسكو الـدولي عام 1957 وحصل على الميدالية الذهبية لهذا المعرض، ضمن 12 فنانا من مختلف دول العالم فازوا بهذه الميدالية.

فاز بالجائزة الأ!لى عام 1958 في المسابقة التي أجراها "المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب" لتصميم تمثال أمير الشعراء "أحمد شوقي"، الذي نفذه بعـد ذلك في خامة البرونز وأقيم في حـدائق "بورجيزي" بمدينة روما. ومن عجب أن يوسف كامل كان يجلس أمامه كموديل ليعكس له من خلال جلسته، تشريح الجسد!

شارك في معـرض بروكسل الـدولي عام 1958 وفاز بميدالية المعرض الذهبية.

وفي العام نفسه كان ضمن أربعـة فنانين من مصر اختيرت رسومهم لتحفر على الكـريستال الذي ينتج يدويا بمصنع "ستيوين" بولاية نيويورك الأمريكية، وعرضت اعماله في عدد كبير من العـواصم ضمن "معرض رسوم الفنانين الآسيويين" على الزجاج.

وكان ضمن ثلاثة فنانين اختيروا في أول تجربة للتفرغ للإنتاج الفني بمصر لمدة عام واحد سنة 1958، ولكنه تخلى عن التفرغ قبل إتمام السنة.

وعند إنشاء كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية 1958 انتقل السجيني إليهـا ليتـولى رئاسـة قسم النحت بها.

في 1962 تقرر منحـه "جائزة الدولة التشجيعية في فن النحت لعـام 1961" عن تمثاله "يقظة إفريقيا"، ولكنه رفض الجائزة على أسـاس أنها جاءت متأخرة بعد أن تخطى مرحلة التشجيع.

لكنه عندما نال وسام العلوم والفنون الذي يعطى عادة للحاصلين على جائزة الدولة التشجيعية قبله دون الجائزة بـاعتباره تكـريما من الدولة لا يرتبط بالتشجيع. كـما حصل أيضا على وسام الشرف من الحكومة الإيطالية بدرجة "فارس".

وفي 1962 سافر في جولة فنية حيث عرض أعماله في إسبانيا وبلجيكا، وفي عام 1964 انتقل من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية إلى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة ليعمل أستاذا ورئيسا لقسم النحت بها حتى إحالته إلى التقاعد.

عقب انتقاله إلى القاهرة نال منحة التفرغ للإنتاج الفني للمرة الثانية ابتداء من مارس 1964، لكنه لم يستمر متفرغا سوى أربعة شهور عاد بعدها إلى عمله كرئيس لقسم النحت بكلية الفنون الجميلة، وأعلن أنه أحس بالعزلة التي قد تضر بإنتاجه، وأن عمله في الكلية لا يعوقه عن مواصلة الإنتاج إلى الحد الـذي يجعل التفـرغ ضروريا بالنسبة له.

فاز أيضا عام 1964 بالجائزة الأولى في مسابقة لتصميم لـوحـات "النحت الغـائر" على قـاعدة نصب شهـداء بورسعيد، ويبلغ امتداد هذا النحت على واجهات القاعدة الأربع 200 متر طولا. أما قيمة الجائزة فكـانت 2000 جنيه. لكـن التصميم الذي رأى الفنان ضرورة تنفيـذه في أحجـار الجرانيت لم ينفـذ.

وعين السجيني عـام 1965 عضـوا بلجنـة الفنـون التشكيليـة في المجلس/ الأعلى لرعـاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.

بعث فن النحاس المطروق

كان الميدان الـذي أجمع كل متـابعي فن جمال السجيني على أنه فارسه الأوحد بغير منازع هو ميدان صياغة لوحات النحاس المطروق، لقد اختلف الناس حول تقدير تماثيله، وحول أسلوبه في النحت المجسم. ولكنهم جميعا عبروا عن إعجـابهم بأعماله في النحاس المطروق فهي تمثل قمة شامخة في الأداء والتعبير، إذ تخصص في دراسة فن "الميداليات" وبـرع وتفوق في هـذا التخصص، ولهذا انتقل إلى إحياء فن النحاس المطروق الذي بلغ ذروته في الفن الإسلامي القديم.

توصل الفنان إلى اكتشاف الإمكانات الجمالية لهذا الفن الـذي اقتصر إنتاجـه لـزمن طويل على أعمال الحرفيين في حي خان الخليلي بالقاهرة. وهو الإنتاج الذي يقبل على شرائه السيـاح وأثرياء الريف. ولقد حـول السجيني رقـائق النحـاس إلى خامة للتعبير التشكيلي مستخدما أسلوب الطـرق ليخرج لوحات مشغولة كـالدانتيلا، وقد يحسبها المشاهد قطعة حلي خرجت من يـد صائغ بارع، وفي الوقت نفسه نجح في استخلاص واستخـراج أقصى طاقـة تعبيرية لهذه الخامة النبيلة. لقـد حقق السجيني في معالجتـه لهذه الخامة طـابعا عربيا مميـزا، مع شخصية فنية منفردة حظيت بإعجاب الجميع في مصر والخارج.

برع جمال السجيني في فن "الميدالية" ونفذ الكثير من الميداليات التي تخلد أحـداثا مهمة مثل "عيد الأم "، وميـدالية جـائزة الدولة التقديرية، وجـائزة السينما، والمهرجان الآسيوي الإفـريقي، وميدالية السد العالي، وافتتاح مطار القاهرة الدولي، وجميع ميداليات معرض "بينالي الإسكندرية" في دوراته الاثنتي عشرة على مدى 24 عاما.

مارس الفنان بالإضافة إلى فن النحت والميدالية والنحاس المطروق، فنون الرسم والتصويـر الزيتي والخزف، وتنتشر أعمالـه في عـديـد من المتـاحف والمجموعات الخاصة مثل: المكتبـة الأهلية بنيويورك ومتحف بوشكين في موسكـو، ومتحف الفنون في بكين ومتحف الفن المصري الحديـث بـالقـاهـرة، ومتحف كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، ومصنع "استيوين جـلاس" بأمريكا، ومتحف بورسعيـد القـومـي، ومتحف الفنـون بـالإسكنـدريـة، والمجموعات الخاصة في رومانيا والمجر وإيطاليا وأمريكا وفرنسا ومصر.

كما أقام عام 1975 تمثالا صرحيا يعبر عن "العبور" من خامة الحجر الصناعي أقيم في مدخل مدينة بني سويف.

كما وضع تصميم تمثال "نصر أكتـوبـر" ونفـذ نموذجه المصغر ليقام في مـدخل قناة السويس بارتفاع 35 مترا في مكان تمثـال "ديلسبس"، وذلك ضمن المجمـوعة الصرحيـة التي شارك معـه في تصميمها الفنانان منصور فرج وصلاح عبد الكريم.

بالإضافة إلى المعارض العامة العديدة التي شارك فيها بمصر وأوربـا أقـام السجيني عشرة معـارض خاصـة لأعماله، كـان آخرها عام 1969 بالقاهرة. وقد أحيل إلى التقاعد في يناير 1977 لبلوغه سن الستين.

بعد تقاعده عن العمل بكلية الفنون الجميلة اهتم بفن "البورتريه" (التماثيل الشخصية) حتى سافر في أول أكتوبر 1977 إلى إسبانيا على نفقة الهيئة العامة للاستعلامات حيث أقام معرضه الشامل الحادي عشر في مركـز دراسات البحـر الأبيض المتوسط وليقضي هناك ثـلاثة أشهر هو وزوجته، لكنه توفي يوم 22 نوفمبر أثناء وجوده في إسبانيا وعاد جثمانه إلى القاهرة حيث شيعتـه الحركـة الفنية إلى مثواه الأخير، وأدرك الجميع فداحة الخسارة في فقده، لكن أعمالـه ستبقى لتحكى للأجيال المقبلة عن كفاحـه وخياله وعبقريته.

 

صبحي الشاروني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




تمثال العبور





شراع





القطة والحمامة





لوحة شراع





سيد درويش