نجيب محفوظ ملاحقة المعنى إبـراهيم عبـدالمجيـد

نجيب محفوظ ملاحقة المعنى

المؤلف: رشيـد العناني

هـذا كتـاب بـاللغة الإنجيليزية للبـاحث المصري الـدكتور رشيـد العنـاني المحـاضر في الـدراسـات الإسلاميـة والعـربيـة في جـامعـة إيكستر Exeter بإنجلترا، ومترجم روايـة "حضرة المحترم" لنجيب محفـوظ إلى الإنجليـزية، والمترجم، أيضـا، لمسرحيـة "علي جناح التبريـزي وتـابعه قفة" لألفـريد فـرج.

الكتاب منشور هذا العام - 1993 - عن دار روتلدج Routledge في إنجلترا وأمريكـا في وقت واحـد ضمن سلسلة الثقافة والفكـر العـربي Arabic Thought And Culture وهي سلسلة تعني بتقديـم الشخصيات والحركـات الكبرى في الفكـر العربي.

الملاحظـة الأولى، والمهمة، على هذا الكتاب هي، العنـوان. فكلمـة "Pursuit" تعني متـابعـة الشيء وملاحقته واقتفاء أثره وتعقبه وما إلى ذلك، والقارئ للكتـاب يكتشف أن المؤلف يـرفـض التقسيم الكلاسيكي لأعمال محفوظ إلى مراحل ثابتة، ويؤكد على تداخل المراحل وتطور العديد من المعاني ونحوها من عمل إلى عمل، حتى أن بعض الأعمال تكـون توسيعا لأفكار بدأت جنينية في أعمال سابقة.

الباحث الدكتور رشيد العناني يتعقب هذه الأفكار، ويلاحقها بالدرس والتحليل العميق المتأني ليقدم صـورة، سهلة، وشاملة، وعميقـة لعالم كاتبنا الكبير حامل نوبل نجيب محفوظ. والحقيقة أن هذا اكتشاف قديم في أعمال نجيب محفوظ وأهميته هنا هي في تأكيده بالبحث والتحليل وشكل واسع وحاسم ولأول مرة بهذا الوضوح، ولقد قلت أنا مرة في حديث لي - مازحا بالطبع - إن نجيب محفوظ استطاع أن يأخذ النقاد من أنوفهم ويسحبهم في طرق أعدها لهم سلفا في رواياته بحيث تجد امتدادا لكثـير من الأفكار المبثوثة في قصصه الواقعية، وقـد قـامت وانتصبت في قصصه الفلسفية كموضوعات أساسية.

والكتاب وهو يسعى لتأكيد هذه الحقيقة يقدم تحليلا عميقا وشاملا لأعمال محفوظ - حتى عام 1989 - للقارئ الغربي، وهو بالتأكيد سيكـون قاعدة مهمة لدراسات تالية لباحثين آخرين وسيأخذ مكانه كمرجع مهم يقول عنه صاحبه:

"في العشرين سنة الأخيرة، وبالتحـديـد منذ نهاية الستينيات، حيث أخذت حياة نجيب محفوظ منحنيات جديدة، وأبدع كتبا جديدة، ظلت الحاجـة إلى كتاب يدرس هذه المرحلة، ويردم الفجوة بينها وبين ما قبلها.. وبعد جائزة نوبل صارت الحاجة إلى تقييم جـديد وطازج سواء للقارئ المتخصص أو القارئ العادي. وهذا الكتاب، كـما يأمل مـؤلفه، يمكن النظر إليـه كمجهود في هذا الاتجاه.

هذا وقد اعتاد النقاد تقسيم أعمال محفوظ إلى ثلاث مراحل هي:
1 - المرحلة التاريخية/ الرومانسية
2 - المرحلة الواقعية/ الطبيعية
3 - المرحلة الحديثة/ التجريبية

ثم أضافوا إليها مرحلة رابعة هي مرحلة الشكل التراثي، وهي المرحلة التي سيشير إليها هذا الكتاب باسـم الروايات الأبسـودية Episodi (الرواية الاستطرادية) هذا التقسيم السابق كلـه غير معتمد في هـذا الكتـاب. إن الـذين اعتبروا الكتـابـات التاريخية/ الرومانسية مرحلة لا شك قد أخـذتهم المفاجأة بكتابات محفوظ التاريخية الأخيرة، ولـو أنها ليست رومانسية. هذه الكتابات التي تفصلها أربعون سنة عن الكتابات السابقة.

والكتاب بعد المقدمة التي أوجـزناها يشتمل على ثمانية فصول هي على الترتيب: الكاتب وعالمه، البحث في الماضي عن الحاضر، آلام الميلاد الجديد والصراع بين الماضي والحاضر، الـزمن والإنسـان: أربـع مـلاحم مصريـة، الحلم المجهض على الأرض كـما في السماء، وتهشيم الزمان: الروايات الأبسودية، وقضايا الشكل: دراسـة في حضرة المحترم، ثم أخيرا صـورة اللـه، والموت، والمجتمع في القصص القصيرة والمسرحيات.

وحين ينتهي المؤلف من هذه الفصول الثمانية يكون قد قام بتحليل ودراسة جميع روايات محفوظ من عبث الأقدار حتى قشتمر، وجميع مجموعاته القصصية من "همس الجنون" حتى "الفجر الكاذب".

عن الكاتب وعالمه

الحارة هي عالم نجيب محفوظ الجميل سواء حملت هذه الحارة اسما كـما هو في أعماله الأولى أو جاءت بلا اسم كما هي في أعماله الأخيرة.

لقد ولد نجيب محفوظ عام 1911 بحي الجمالية الشهير بالقاهرة، وغادر الجمالية مع أسرته عام 1924 إلى حي العباسية. لكن هذه السنوات الثلاث عشرة التي قضاها في الجمالية هي التي تركت أثرها الكبير عليه، وهي ما شكلت وجـدانه، وهي منبع إلهامه الكبير. لا يبتعد محفوظ عنها في أعمالـه إلا ويعود إليها، وكلما تقـدم به العمر عاد إليها بشدة. وبحسب قول محفوظ نفسه فإن تقدم العمر يؤكد للإنسان أن أصله هو الحقيقة الباقية في هذا العالم الغريب. إن العودة إلى الطفولة، مع تقدم سني العمر، هي عودة إلى الأمان المفقود. الحارة هي نوستالجيا محفوظ الدائمة. والحارة قديما كـانت نموذجا للمجتمع المصري، بما فيها من اختلاف في الطبقات، وكانت كالمجتمع نفسه بالنسبة إلى الفرد، والإنسانية الكبيرة أيضا كما تبدو في "أولاد حارتنا" و "الحرافيش"..

غير الحارة مما أثر في تكوين محفوظ الروحي، ثورة 1919 ومشاهدها التي كان يراها من النافـذة وفي طريقـه إلى المدرسة المواجهة لضريح الحسين. مشاهد المظاهرات وجنازات الشهداء والقتلى. والمنزل والحياة الأسرية أيضا كان لهما بـالغ الأثر، فلقد كـان بيت الأسرة يردد أسماء الأبطال الوطنين سعد زغلـول ومصطفى كامل ومحمد فريد وغيرهم، كذلك كانت تشيع فيه الروح الدينية، حتى أن أحـدا لم يكن يتوقع أن يخرج من بين الأسرة واحد يشتغل بالفن والأدب. هذا وقد كان لأم نجيب محفوظ نفسها بالغ الأثر فهي التي كـانت تأخـذه إلى رحلات خلوية إلى الأهرام والمتاحف الأثرية وغرف المومياوات فغرست فيه الميل إلى دراسة الحقبة الفرعونية مما ظهر بعد ذلك في رواياته الأولى.

العباسية أيضا شغلت جانبا من روح الكـاتب، وحين كـان يكتب عن الإسكندرية مثلا (الشحاذ - الطريق - السمان والخريف - ميرامار) فقد كـان يعود دائما إلى الجمالية أو العباسية، ففيهما يبدو محفوظ وكأنما هو في منزله، بل في وطنه.

يتقصى المؤلف، رشيد العناني، عوامل التكـوين البيئية، ثم يتقصى عوامل التكوين الفكري لمحفوظ. قـراءاته الأول المترجمة (سير والتر سكـوت وسير هنري رايدر هيجارد) وكيف كـان يعيد كتابة القصة التي يقرؤها مع إضافـة بعض التفاصيل من حياته الخاصة. ثم اكتشاف محفوظ للمنفلوطي وهو يتجه إلى العشرين من عمره، ثم اكتشافه الأكبر للمجددين في حيـاتنا الأدبية والفكـرية. طه حسين والعقاد وحسين هيكل وسلامة مـوسى الذي كان لـه أبلغ الأثر، حيث كتب محفوظ مقالاته الأولى في "المجلة الجديدة" التي كـان يصدرهـا سلامة موسى في الثلاثينيات، كـما نشر له سلامة موسى أول روايـاته (عبث الأقدار). وأهم من ذلك اكتشاف محفـوظ للأفكار العلميـة والاشتراكية والمتطورة عند سلامة موسى، وفي كتاباته. (في الفصل الثالث عشر من السكـرية تظهر هذه العلاقة بقوة في علاقة كمال عبدالجواد بأحمد شوكت صـاحب مجلـة الإنسان الجديد).

بعد ذلك اكتشف محفوظ الأدب العربي القديم: الكامل والبيان والتبيين والأمالي وغيرها، ثم اكتشف برجسون في الفلسفة. لقد كان لبرجسون أثر كبير على سلامة موسى، لكنه كـان ذا أثر بالغ على نجيب محفوظ. إن فكـرة الديمومة Duration في الزمان تكمن خلف الثلاثيـة كلها. وكذلك فكـرة التطـور الخالق التي تلمح أثرها البالغ في الحرافيش وأولاد حارتنا من قبلها، ثم ليالي ألف ليلة وغيرها من أعمال محفوظ. كـذلك هنـاك أثر لا يخفى لفكرة الحدس أساس التجربة الصوفية.

لقد قرأ محفوظ تولستوي وبروست وتوماس مان (صاحب الأثر الكبير على الثلاثية) وجيمس جويس والسيرياليين (الذين سيظهر أثرهم في قصصه القصيرة بعد هزيمة 1967). وعرف أيضا قصص يحيي حقي والحكيم وجورجي زيدان من قبلهما. يقول محفوظ إنه لم يهتم كثيرا بعـودة الروح رواية الحكيم التي رآها أقرب إلى الدراما منها إلى الرواية، بينما اهتم أكثر بجورجي زيدان وقصصه التاريخي، وبرواية شجرة البؤس لطه حسين التي نبهته إلى كتابة الرواية الملحمة. بعدهـا قـرأ "ملحمـة أسرة فـورسايت" "والحرب والسلام" ثم "عائلة بودنبروك" ثم كتب الثلاثيـة. وهكذا يتوقف بنا المؤلف رشيد العناني طويلا لتحليل وإبراز المؤثرات المختلفة في شخصية محفوظ وأدبه مما يسـاعد القارئ الأجنبي كثيرا في فهم هذا الكـاتب العملاق الذي أصبحت أعماله معروفة الآن في كل لغات العالم الحية والمهمة تقريبا بعد فوزه بجائزة نوبل. ويتوقف أيضا عند منابع السياسة التي تظهر دائما في أعمال محفوظ سواء ما جاء منها من أثر ثورة 1919 أو حـزب الوفـد ودوره في الحياة الوطنية المصرية أو الحركة الاشتراكيـة في الأربعينيات أو ثورة يوليو فيما بعد. وحن يبدأ الفصل الثاني، أول الفصول التحليلية لأعمال محفوظ، يكـون القـارئ الأجنبي قد حظي بجهد علمي كبير يسر لـه سبل فهم كـاتبنـا بعمق وبساطة معا.

الماضي والحاضر.. الزمان والإنسان

يرى رشيـد العناني، مؤلف الكتـاب أن روايات محفوظ الفرعونية التي بدأ بها حياته الأدبية (عبث الأقـدار - رادوبيس - كفاح طيبة) لم تكن إلا محاولة لارتياد الماضي من أجل الحاضر. كـانت إطلالة على الحاضر، من خلال الماضي البعيد. فـالروايات تتحدث عن الظلم القائم والعدل المنشود، والمستعمر الذي يجب طرده من البلاد، في كفاح طيبة مثلا، إن نجيب محفوظ لا يتوانى عن وضـع كلمات عن العدل وتوزيع الثروة بالعدل بين الرعية ومساواة الناس أمام القانون على لسان أحمس بطل كفاح طيبة.

يضيف المؤلف إلى هذا الفصل تحليلا لرواية "إمام العرش" رغم صدورها بعـد الروايات الثلاث بحوالي أربعين سنة. كـذلك يضيف إليها رواية "العائش في الحقيقة" التي تدور في الحقبة التالية لسقوط أخناتون ومحاولـة بطلهـا المعذب بمعرفـة الحقيقـة عن ذلك الحاكم. يشير المؤلف إلى حقيقة مهمة جـدا، وهي أن هذه الرواية مكتوبة عام 1985 في وقت صعـود الأصوليين وحركة الجهـاد من الإسلاميين الذين يرون في المجتمع مروقا وكفرا. وهكذا مرة أخرى يستعين محفوظ بالماضي للتعليق على الحاضر. لكن شتان في الحيل والطرق الجمالية التي توجـد في الروايات الثلاث الأولى ثم في الرواية الأخيرة. في الروايات الفرعونية الأولى يستخـدم المؤلف السرد المبـاشر المتـدفق من الكاتب نفسه عبر الرواية كلها، كـما لا تجد فروقا. بين حوار الشخصيات فالحوار كله مكتوب بلغة واحدة، بينما هنا يستفيد محفوظ من إنجازاته التقنية واكتشافاته ونضجه وعميق خبرته. وعندما انتقل محفوظ من التاريخ الفرعوني إلى رواياته الـواقعيـة الشهيرة الأولى التي بدأت ب "خان الخليلي" نجد هنا الصراع يشتجـر بين الماضي والحاضر. صـورة أخـرى للعلاقة بين الزمنين. هنا في هذه الروايات الجديدة (خان الخليلي - زقـاق المدق - القاهرة الجديدة....) صراع بين الفرد وآليات المجتمع القـديـم. يحاول دائما محفوظ تأكيد هذا الصراع بدرجات مختلفة ومن زوايا عديـدة. في خـان الخليلي صراع بين نوعن من الأخلاق، اللذة والواجب، اللذة يمثلها رشدي الأخ الأصغر والواجب يمثله أحمد عاكف الأخ الأكبر الذي ينتصر له نجيب محفوظ رغم خواء حياته. في القاهرة الجديدة يتوسع محفوظ في رسم العلاقة بين الأخلاق الفردية والتقدم الاجتماعي، وهو ما سيزدهر في أعمال قادمة. وفي زقاق المدق عليك أن تقفز إلى المعاصرة بكل إرادتك مثل "حميدة" أو تتردد وتنظر خلفك فيكون مصيرك مثل عباس الحلو. وفي "السراب" التي يـراها كثير من النقاد رواية فلسفيـة نفسية عن مركب أوديب، هناك مستوى أعمق لها أيضا هو الصراع بين الروحانية والمادية. أما "بداية ونهاية" المكتوبة عام 1949 فيتمثل فيها الصراع مع الماضي كأحسن ما يكـون في شخص حسنين. وسوف يظل ظهور هذا المنزع في روايات أخرى قادمة.

والحديث عن الماضي والحاضر يسلمنـا إلى الحديث عن الزمن. فـالزمن يشكل الأساس الذي تتعاقب فيه أجيال الثـلاثيـة في بناء كـلاسيكـي صـارم يتفكك وتتسارع فيـه الأحداث في رواية لاحقة مثل قشتمر، والزمن هو أيضا أساس رواية "باقي من الزمن ساعة" ورواية "يـوم قتل الزعيم لما. ومن ثـم فهي روايات ملحمية.

إن هذه الروايات علامات على التعقد في رؤية الكاتب للزمن وتجسيده من خلال، أو عبر، عـلاقـة الفـرد بالمجتمع.. لقد حدث بعد اكتشاف محفوظ للجوانب الطبيعيـة والاجتماعيـة لمجتمع القاهـرة عبر خمسة عشر عاما (1930 - 1945) هي زمن الروايات الواقعية الأولى، وبعد اختبار المعارك المأساوية للفرد ضـد المجتمع، حدث أن نجيـب محفوظ أراد أن يجمع الشظايا معا. يتبع التوتر الاجتماعـي بين الماضي والحاضر عائدا إلى نقطة مضيئة توصلنا لرؤية أبطاله في مواجهة لضرورة الاختيار بين نظامين من القيم، ومن ثم شرع نجيب محفوظ في كتـابة الثلاثية بادئا بعـام 1917 عابرا فيها ثورة 1919 حتى عام 1944 عبر ثلاثة أجيال. إن سنة 1944 هي السنة التي لم تعبرها أي رواية من رواياته السابقة على الثلاثية. وللتاريخ هنا دلالته، فالرواية يبدأ زمنهـا في منتصف الحرب الأولى وينتهي مع نهايـة الحرب الثانية.

الحلم المجهض وتهشيم الزمان

يستمر المؤلف، رشيد العناني، في تحليل أعمال نجيب محفوظ وتحت عنوان الحلم المجهض على الأرض وفي السماء يقوم بتحليل روايات اللص والكلاب، السمان والخريف، الطـريق، الشحـاذ، ثـرثرة فـوق النيل، ميرامار، حب تحت المطر، الكرنك، قلب الليل، عصر الحب، ثم أفراح القبة. فهذه الروايات، سواء ما كتب منها قبل هزيمـة 1967 أو بعدها هي تناول متعدد الوجـوه للحلم المجهض للفرد والمجتمع. ويتوقف المؤلف بعض الـوقت للحـديث عن تـوقف نجيب محفوظ عن الكتـابة بعد ثورة يوليو 1952، وكيف أنه تخلى عن مشروعات الروايات التي كان ينوي كتـابتها عن المجتمع السابق. لقد جـاءت ثورة يوليـو لتصل بالمجتمع إلى الاكتمال، لتنفيذ أحلام الثوريين والكتاب والذي "حـدث أن نجيب محفوظ حين عاد للكتابة عاد برواية "أولاد حارتنا" وهي رواية تاريخية علمية دينية. ولقد كانت هذه الرواية بـداية تعامل الكاتب، محفوظ، مع المجتمع الجديد. لكنها رواية مجازية في بنائها. وسنلاحظ أن المجاز سيسـود أعمال محفوظ طوال الستينيات. لقد اختفت أساليب السرد النمطية، والتأني الواقعي الطبيعي والحبكـة التقليـدية، وسـاد الشعر واللغة المجنحـة والتقنيات الحديثة. هكذا حتى هزيمة 1967 حيث عاد محفوظ ليتوقف عن كتابة الرواية مرة أخـرى، ولكن لكتابة القصص القصيرة والحواريات المسرحية حتى عام 1972 الذي شهد صدور "المرايا" ثم "الحب تحت المطر" عام 73 وبعدها "الكرنك" عام 1974.

لقـد شملت "ثرثرة فوق النيل" فيما شملت نبوءة الحكيم الفرعوني بخيانة الأصدقاء والحرب القـادمة والأيام الصعبة لبلاد النيل، وكـذلك كانت ميرامار ومنذ "اللص والكـلاب" وقد بدا أن محفوظ يحذر من شيء ثقيل، ومن الفصام القادم بين الفرد وشعارات المجتمع، بعـد ذلك كـانت المرايـا بانوراما لعصرهـا ومقدمة لروايات عن قضايا بعينها، مثل التعذيب في المعتقـلات "الكـرنك" وانهيـار القيـم وانحطـاط الأخلاق، ويأس عدد كبير من الشباب في البلاد بعد الهزيمة الثقيلة "الحب تحت المطر". لقد كان محفوظ في حـاجة إلى رواية يقدم فيها تعليقه الشخصي على ما حدث حتى لو جاء ضعيفا فنيا.

وبعد تطواف كبير وطويل في القاهرة والإسكندرية عبر فترة الستينيـات كلهـا والنصـف الأول من السبعينيات يعود محفوظ إلى عالمه الأثير، إلى الجـماليـة بحكايات حارتنا وقلب الليل- نشرا معا عام 1975. إن العـذاب الميتافيـزيقي المقمـوع بالضغـوط الاجتماعيـة والسياسية الضخمة في ثـرثرة فوق النيل ينطلق هنـا من قلب الليل، قلب الليل أمثـولـة عن التطور الروحي للجنس البشري إنها تنتمي إلى أولاد حـارتنا وتستعير بعض رمـوزها، أمـا عصر الحب المنشورة عام1980 فتبدو هي أيضا تكـرارا لقلب الليل لكنها بدورها أمثولة بسيطة- عن التمرد على الالهة المصحـوب بـالعـودة المعـذبة، إنها تستخـدم نفس الأدوات: المنـزل الموسر والحديقـة المسكـرة ذات الأسوار العالية، الفردوس.

وينتقل المؤلف للحديث عن تهشيم الزمان وعن الرواية الأبسودية يمهد لذلك بحديث عن ظواهر النثر العربي منـذ أيام العرب حتى المقامات وكليلة ودمنة ثم ألف ليلة وغيرها، ينتهى إلى أنه لم يكن هناك تراث قصصي خلـف نجيب محفوظ غير المقامات التي قرر محفوظ ألا يكتب مثلها أبدا وقد فعل، لكن كان هناك الشكل الموجود في ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، الشكل الأبسودي، الحكايات الاستطرادية التي تأخذ برقاب بعضها وهو الشكل الذي سيظهر في الحرافيش وليالي ألف ليلة، حقا تغلب النزعة الأبسوديـة على أولاد حارتنا أيضا المنشورة قبل الحرافيش وألف ليلة وليلة، لكن كـونها أبسـوديـة فـذلك بسبب طبيعتهـا كأمثولة تـاريخية دينية تعنى بموازاة ملاحم محددة في التاريخ الإنساني، لذلك نحن على صـواب في عدم اعتبارها بداية للوجه الأبسودي للكـاتب، الكلام هنا لرشيد العناني طبعا.

وتحت العنوان السـابق "تهشيم الزمان" يتنـاول المؤلف بالتحليل روايات المرايا وحكـايات حـارتنا، حديث الصباح والمساء، صباح الورد، أولاد حـارتنا، ملحمة الحرافيش، ليـالي ألف ليلـة، ثـم رحلات ابن فطومـة. فالمرايا كتاب مـن الصور المنفصلة في تدفـق الزمن وكل قطعـة منها محمولة إلى الأمام بالتيار الداخلي، وربما في هذا التهشيم تكمن وحدة الرواية، ويمكـن أن تكـون الحكـايـة الأخيرة في المرايـا أولى حكايات حارتنا فهناك وحدة في الأسلوب والمحتوى معا، وفي حكـايات حـارتنا وحـدات عامـة ووحدات جزئية آخذة برقاب بعضها، أما حديث الصباح والمساء فتعود إلى التكنيك الأبجدي لتقديم الشخـوص الذي سبق استخدامه في المرايا. وتأتي صباح الـورد المنشورة عام 1987 أي نفس عام نشر حـديث الصباح والمساء تأتي كمجموعة قصصية، هكذا كتب على غلافها لكنها في الحقيقة ثلاث مقطـوعات متصلة رغم انفصالها، هناك شيء فيها يجعلها متجانسة فكلها استرجاع وتأمل في أثر الزمان على الناس والحياة، أما الحرافيش التي جـاءت بعد ثمانية عشر عاما من أولاد حـارتنا فهي تستدعيها إلى الذهن بسرعة، فالمكـان واحد- الحارة- وبناء القوة متماثل- الصراع بين الفتوات لإقرار الحق بين أبناء الجبلاوي أو الحرافيش- ومحاولة خرق بناء القوة متماثلة فالأشخاص القادرون الطيبون يقيمون العـدل لوقـت قصير قبل أن يظهر الشر مرة أخـرى وهكذا، هناك تماثل بين العملين إلا أن الحرافيش هي أسطـورة المؤلـف يصنعها بنفسه ولا يعتمد هنا على أساطير أو حكايات دينية، الحرافيش عمل أكثر نضجا ويتوقـف المؤلف طـويلا عند تحليله قبل أن ينتقل لتحليل ليالي ألف ليلة التي صدرت عام 2 198 والتي قد تكون آخر الأعمال الكـبرى لنجيب محفوظ وهي مع الحرافيش يمثلان قمة الروايات الأبسودية، إن سؤال الحرافيـش عن وجود الشر في العالم وكيـف يمكن مقاومته يعود في ليالي ألف ليلة لكن مع إضافـة مدى مسئولية الفرد بالقياس لمسئولية البيئة، إن السؤال هنا هل الشر قوة فوق طبيعية- تعـود إلى الشيطان مثـلا والغواية للفرد- أم هو ظاهرة بشرية مرتبطـة ببحث الإنسان عن القوة والثروة؟.

بعد تحليل "ليالي ألف ليلـة" و"رحلات ابن فطومة" ينتهي أهم وأطول فصول الكتاب، ثم يفرد المؤلف بعد ذلك فصلا كاملا لأدوات التشكيل ومكونات الشكل الفني، من خلال دراسة لشكل رواية حضرة المحترم، وهـي رواية بسيطـة تتمحـور حول شخصية رئيسيـة وشخصيات ثانوية تأتي أهميتها ممـا تنيره من جوانب الشخصية الرئيسية ويدرس المؤلف حبكة الرواية التي يشي بنـاؤها بـإبراز السخـرية الأخـلاقية للرواية ثـم يدرس آليات السرد وبنـاء الشخوص واللغة والحوار، وهكذا يقـدم نموذجا تطبيقيا بالـغ العمق لواحـد من أعمال محفوظ.

الله الموت. المجتمع. الكتاب!!

يفرد المؤلف الفصل الأخير لتحليل قصصه القصيرة وحوارياته، ويقول إن محفوظ لو لم يكن روائيا لكانت القصص القصيرة تكفيه ليدخـل تاريخ الأدب العربي، لنجيب محفوظ "200" قصة قصيرة موزعة على "14" مجموعة قصصية في الوقت الذي كتب فيه "33" رواية معظمها أعمال عظمى في الشكل والرؤية.

كان نشر مجموعة "همس الجنون" بمثـابة البدايـة الثانية لنجيب محفوظ، لقد نشرها بعـد أن كان قد نشر ست روايات كاملة وانتقل من الفرعونية إلى الروايات الواقعية، ثم كانت المجموعة الثانية "دنيا الله" مجالا لتأمل عميق في الموت وفي الله وفي الوجود الإنساني، وبعد نكسة 1967 طار محفوظ إلى "العبث" والنزعة السريالية، كـما أشرنا من قبل، لقد نشر "خمارة القـط الأسود" و"تحت المظلة" عام 1969، الأولى تشارك المجموعتين السابقتين الاهتمام بالله والموت والزمان وسخرية القدر والثانية هروب من الواقع الخارجي إلى التجربة التعبيرية والسيرياليـة معا، صحيـح أنه فعل ذلـك من قبل في روايات مثل الشحاذ وثرثرة فـوق النيل لكن ذلك كان يتم من خلال واقع خارجي، الآن لا علاقة للنص بالواقع الخارجي.

ويستمر المؤلف في منـاقشـة المجموعات القصصيـة التالية حتى آخـر مجموعات الكـاتب "الفجر الكاذب" المنشـورة عام 9 لما ا، وينتهي الكتـاب الثمين وأتخيل الجهد التحليلي الجبـار الذي بذله مؤلفه، وأتخيل المائدة العامرة التي قدمها للقارىء في الغرب وأدرك قيمة الجهد العلمي الذي يستحق كل تحية وتقدير. إن كتاب رشدي العناني عن نجيب محفوظ بالغ العمق والجمال معا.

 

إبـراهيم عبـدالمجيـد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




نجيب محفوظ





غلاف الكتاب