نافذة في القلب

  نافذة في القلب
        

           البدايات دائما رحبة وفضفاضة ورقراقة كمياه النهر, وخاصة في العلاقات الإنسانية, وتحديدا في علاقات الحب والزواج, حيث تتداخل الأفراح وتتباعد الأتراح وتتناءى الشرور, ويتم تبادل الأسرار, وتنفتح طاقات في القلوب تنفذ إلى بعضها وتنفتح نوافذ في السماء, تجزل عطاءها على المحبين والراضين والقانعين بأقل القليل, وتمتد الأزمنة والأمكنة فراشا وغطاء للمحبين, ويبدو الكل للكل سترا وغطاء. سنة الحياة والبشر والنبت الصغير الذي ينشأ ثم يترعرع في أرض طيبة حتى لو كانت صخرية. ولكن حين تهب العواصف ولا تستطيع الأذرع والعيون والقلوب اتقاءها, وتأخذ في وجهها كل شيء ولا يبقى أي شئ, ثم تهدأ مخلفة الرماد المتطاير ذرات في العيون. ويحدث الانفصال وتبدو الحياة وكأنها مثل ثوب جميل انقلب على ظهره, أو ـ ودون أن تنزعجوا ـ فردة جورب مقلوبة. عندئذ فقط تفرز العلاقة أنكر الأصوات وأفظع الروائح وأقبح الألوان والصفات والنعوت وكل يحمل الآخر مغبة ما حدث وما يحدث وما سوف يحدث.

          بعد انفصالي وزوجي لأسباب لا شأن لأحد منا بها ـ هكذا أدركنا فيما بعد ـ قامت الدنيا ولم تقعد وهبت العاصفة, واشتعل الجرح مثل الألم الناتج عن انفصال الظفر من اللحم وربما أكثر, ثم هدأ تدريجيا كل شيء حتى اليأس.. تدخل الكثيرون, كل يدلو بدلوه عن النتائج والأسباب والمسببات, وتعالت أنفاس الاضطراب والتشوش وارتباك التفسير والتأويل لما آلت إليه الحال والأحوال, وعزف البعض كونشرتات القيل والقال, ثم انطلق تماما المارد من قمقمه, رغم كل الخرافات والأساطير التي قيلت عن الحرية داخل القمقم, انطلق ليمنح نفسه رحابة الحرية واستنشاق أنفاسها, ورغم الفرقة والبعد والتنائي, وبعد أن صارت لكل منا حياته, إلا أننا قد مشينا معا دون اتفاق مسبق أولى خطوات التحرر من سلطان الظلام وقدر النهايات المفجعة للعلاقات الإنسانية وخاصة علاقات الحب والزواج, وكان فرز الأيام والشهور والأحلام والكوابيس التي عشناها معا أن أهداني كتابا كتب في مقدمته "إلى امرأة جميلة, كانت يوما زوجتي" كان الكتاب أول دواوينه الشعرية ولم يكن عمره بشاعر لكنه صار بعد انفصالنا, فأقام من بيتنا متحفا وراح يهمس للأصدقاء.. "هنا كانت تكتب, وهنا كانت تقرأ وهنا كانت تلوذ بي خوفا من الصواريخ الليلية ثم تتلو الشهادة وتنام, وهنا خصلة من شعرها الأسود, وهنا يرقد خاتمها الذهبي, نسيته في إحدى الغارات وفرت".. ثم بالغت الأيام في البعد فيما بيننا, وسار كل في طريقه لكنه حين يمر أحد من بلاده يرسل لي كتابا ألفه أو آخر أعجب به, وكذلك أفعل, ومازالت مساحة الود بيننا تأخذ مداها رغم ادعاء البعض بحتمية النهايات المفجعة للحب والزواج.

          مرت الأيام التي كتبت عن لساني قصصا جديدة في شكلها وطعمها ومضمونها أيضا, بالرغم من أنني توخيت الحيطة والحذر, ولم أكن أجرؤ على الخروج ولو قليلا خارج جدران الممكن والمسموح, داخل شكل الكتابة التقليدية والكلاسيكية للقصة والرواية, لكنه قدر الخبرة الإنسانية المغايرة, الذي يجعلك تقفز داخل الشكل قفزات هائلة لأن الود الإنساني في عصر الكمبيوتر والإنترنت والعولمة قفز قفزات هائلة للوراء, فالأيام والتجارب والخبرات حتى السيىء منها, مازالت تمنحني هواء غير محدود للتنفس.

 

نعمات البحيري