أنت مدمن...!!

  أنت مدمن...!!
        

ليس بالضرورة أن تتعاطى المخدرات بأنواعها, أو تشرب الكحول حتى تطلق عليك صفة المدمن.

         هل عانيت مرة من نوبة شديدة من الإحساس بالشهية العارمة لتناول قطعة حلوى وكأنك في حالة تشبه الوحم? هل يصبح تركيزك أفضل إذا دخّنت سيجارة وخصوصاً إذا كنت جالساً وراء مكتبك تقرأ أو تفكّر بمسألة ما? وهل تستمتع مساء وأنت تجلس أمام التلفزيون تقلّب من محطة لأخرى وتتناول المكسرات أو قطع الشيكولاتة? وهل أنت ممن لا يستطيعون صباحاً البدء بأي نشاط قبل أن ترتشف فنجاناً من القهوة أو الشاي? وهل أنت من الأشخاص الذين "يمرضون" إذا لم يعملوا بدأب طوال النهار ويجدون صعوبة في التوقف عن العمل أو إرجاء ما لم يتم إنجازه للغد?.. فإذا كنت واحداً من هؤلاء, وأجبت بنعم عن واحد أو أكثر من الأسئلة المطروحة أعلاه, فأنت تقف على إحدى درجات السلم الذي تسمى نهايته الإدمان.

         إذ إنه حتى ما يطلق العلماء عليه تسمية "عقاقير" الحياة اليومية - كالتدخين والشاي والقهوة والشيكولاتة والمكسرات ومشاهدة التلفزيون أو الكمبيوتر - تعد من الأشياء التي يمكن أن تسبب الإدمان عليها. نعم. يمكنها أن تسبب الإدمان والتعوّد إلى درجة أن أجسادنا لا تشعر بالراحة والهدوء إلا عند تناول ما اعتدنا تناوله, أو نمارس ما اعتدنا ممارسته باستمرار.

         وحتى التعلق بشخص آخر والاعتقاد أن الحياة ستصبح جحيماً من دونه, يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الإدمان.

كائن إدماني

         ويرى العلماء اليوم أن هذا التعوّد ليس مجرد اعتياد نفسي, أو مجرد عادة اعتدنا ممارستها بصورة آلية - إن صح التعبير - وإنما يملك في كثير من جوانبه أساساً بيولوجياً يمكن فهمه وتفسيره, أي أنه يرتبط بإفراز مواد كيماوية محددة في الدماغ تحدد سلوكنا واتجاهاتنا نحو الأشياء والأشخاص.

         الإنسان مخلوق إدماني بطبيعته, بمعنى أنه يتعود أو يعوّد نفسه خلال مجرى حياته على أشياء وأمور كثيرة إلى درجة أنه يصعب عليه في النهاية أن يتخلص منها أو يخفف مما اعتاد عليه.

         لقد خلق الله سبحانه وتعالى الدماغ الإنساني المعقّد والغامض الذي يكتشف العلماء يوماً بعد الآخر مزيداً من أسراره الكامنة. ومن هذه الأسرار المعروفة اليوم أن الدماغ الإنساني مبرمج وفق آلية توصيل معقّدة تقوم في أساسها على "برنامج" يعمل وفق مبدأ تجنّب الألم والإزعاج والبحث عن المتعة أو الراحة "التوازن". وعندما نتناول مادة ذات طعم لذيذ أو نمارس نشاطاً ممتعاً, يتم تنشيط مراكز التعزيز والمتعة في الدماغ التي ترتبط بها كل وظائف الحماية والحفاظ على الذات ووظائف الطعام والشراب... إلخ, يقول البروفيسور ألان مارلات - مدير مركز أبحاث الإدمان في جامعة واشنطن - مبرراً سبب إطلاق صفة الإدمان على مثل هذه الممارسات أو النشاطات". "بما أننا نشعر بالرضا أو الراحة المباشرة بعد تناول هذه المواد أو بعد ممارسة نشاط ممتع, وبما أنه يصعب في كثير من الأحيان التخلي عن مثل هذه الأمور بسهولة, فإن هذا يطابق المعايير العلمية للإدمان".

         ووفق هذا التعريف, فإن كل نشاط من أنشطة الحياة يمكن أن يصبح إدماناً. ومن هنا يفضل العلماء استخدام تسمية "السلوك الإدماني" بدلاً من مصطلح الإدمان. فمصطلح الإدمان يتضمن المرض ويوحي بإدمان المخدرات وما شابه. وهذا الشكل من الإدمان له عوامله المتشابكة والمتداخلة يدمّر الجسد والنفس ويحطم الروابط الاجتماعية والأخلاقية والدينية.

عقاقير الحياة اليومية

         ولكن لماذا لم تحظ الحقيقة القائلة: إن ملايين البشر يعانون من نوع من أنواع الإدمان على التدخين أو الأطعمة أو النشاطات المختلفة.. إلخ بالاهتمام الكبير من العلماء?, وهل تعني هذه الحقيقة أن هؤلاء "مرضى" أو "ضعفاء الإرادة?" الجواب عن الشق الأول يكمن في أن العواقب النفسية والجسدية والاجتماعية الوخيمة الناجمة عن إدمان المخدرات - كالحشيش والهيروين والكوكايين وما يشبه ذلك - قد جعلت اهتمام العلماء والحكومات والمؤسسات الأخرى ينصبّ بصورة مكثّفة على هذا النوع من الإدمان ومخاطره أكثر من الاهتمام بمسألة الاهتمام بـ"عادات سلوكية يومية أو بعقاقير الحياة اليومية".

         أما الإجابة عن الشق الثاني من السؤال, فهي بالنفي طبعاً. ويرى بعض العلماء أن الأمر ليس أكثر من مجرد عادات سيئة وضارّة إلى حد ما, تهدف إلى التغلب على الإرهاق المتزايد الذي نعاني منه جميعاً في عصرنا هذا, وإلى مواجهة متطلبات الحياة اليومية. إنها نوع من "العكاكيز" التي نستند إليها لتعيننا على اجتياز مسيرة يومنا أو حتى حياتنا كلها.

         وسواء استهلك الإنسان "عقاقير الحياة اليومية" هذه بشكل واع أم دون وعي, فإنها تساعد في تخفيف الضغط النفسي, وتسهم في رفع القدرة على الإنجاز والعمل والتكيّف.

         فتناول الشيكولاتة - مثلاً - يقود إلى رفع المزاج. ومَن يشعر بالغم والحزن والانحطاط يستطيع من خلال تناولها أن يقدم لدماغه مادة منشّطة سريعة التأثير.

         ويرى العلماء أن خبرات اللذة "أو التعزيز" التي يقدمها الإنسان لنفسه كمكافأة ذاتية تقوم بتقوية جهاز المناعة لديه وتعمل كموانع ضد الكثير من أنواع الإرهاق المحيطة بنا كالضجيج والحرارة والمنافسة ووسائل النقل والعمل الإضافي... إلخ.

         ولكن ما الوظيفة التي تؤديها "عقاقير الحياة اليومية" هذه?

         وهل هي عادات صحية خطيرة فعلاً ? أم هناك أساس بيولوجي لذلك...?

سلوكيات بديلة

         لنتناول بعض المواد الأكثر انتشاراً واستهلاكاً عند شعوب الأرض كافة, أي القهوة والشاي والتدخين. يرى بعض علماء النفس أن الهدف الكامن وراء الاستهلاك الكبير - في الوقت الراهن - لهذه المواد هو إعادة تكييف الجسد الإنساني مع طبيعة الأعمال التي يقوم بها إنسان هذا العصر, ألا وهي الأعمال التي أصبحت تدار جلوساً على الكراسي أمام الآلات أو أجهزة الكمبيوتر في غالبيتها. لقد أصبح الدماغ الجزء الأكثر أهمية من باقي أقسام الجسد في يومنا هذا. أما القسم المتبقي من الجسد فلم يعد يلعب دوراً كبيراً في كثير من الأعمال. غير أن الجسد الإنساني كان قد اعتاد منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض على أن يبذل من الطاقة أكثر بكثير مما يبذل الدماغ. وبما أن الآية قد انعكست بشكل كبير في الوقت الراهن, فإن الجسد والدماغ يحتاجان إلى هذه المواد "المساعدة" من أجل تحقيق نوع من التوازن يقوم على تنشيط الدماغ من أجل أداء وظائفه بصورة أفضل, وفي الوقت نفسه التخفيض من نشاط باقي أقسام الجسد كي تتاح الفرصة للدماغ للقيام بما هو مطلوب منه. فالقهوة أو الشاي - بما يحتويانه من مادة الكافيين - يؤثران بشكل إيجابي من خلال تنشيط الدماغ, أما النيكوتين فيؤثر سلباً من خلال تهدئته "كبحه" لنشاط باقي الجسد, أي من خلال تخفيض نشاطه أو حركاته إلى الحد الأدنى, الأمر المرغوب جداً والمطلوب كثيراً في العمل العقلي. وبهذا المعنى يشكّل التدخين سلوكاً بديلاً عن النشاطات الجسدية المجبرة على أن تظل لفترة طويلة ضمن الحد الأدنى من النشاط والحركة ليتاح للدماغ تأدية وظائفه.

         ويرى ديفيد واربورتون - المتخصص بالأدوية النفسية ومؤسس جمعية أبحاث علوم المتعة - Associates for Research into the Science of Enjoy أن الإرهاق النفسي يضعف جهاز المناعة الجسدي والنفسي عند الإنسان ويجعله عرضة لكثير من الأمراض - حتى الزكام البسيط. وقد توصل واربورتون في دراسات أجريت على 5000 موظف في 16 بلداً حول كيفية تغلبهم على الإرهاق وعاداتهم الاستهلاكية أن الاستهلاك - بمقدار معين لا إفراط فيه - للطيبات كالشيكولاتة والقهوة والشاي و"التدخين?!" يمكن أن يقود إلى تقوية المناعة عند الإنسان. أما السبب الرئيسي للإرهاق النفسي فكان كثرة العمل. وكلما كانت المؤسسة أو الشركة أكبر كان الميل إلى الإرهاق أكبر. أما وسائل التغلب على الإرهاق فقد كانت الحديث مع الأصدقاء أو تبادل الولائم معهم "81%", شرب القهوة والشاي "68%", والعصير "50%" وتناول الحلويات كالشيكولاتة وما شابه "27%" التدخين "27%". وقد رأى 90% من عيّنة الدراسة أن هذه المواد فاعلة جداً في التغلب على الإرهاق, بل وتحسّن الكفاءة.

         فكيف يمكن لأطعمة أو ما يشبه ذلك أن تساعدنا في التغلب على الإرهاق...?

المرأة بالذات

         يرتبط تفضيلنا لنوع معين من الطعام بجسدنا. فنحن عندما نشعر بشهية لنوع محدد من الطعام, فإن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى أن جسدنا يرسل لنا رسائل بأنه يحتاج إلى مادة معينة من أجل أن يسير عمله بصورة صحيحة. وغالباً ما ترتبط هذه الإشارات بتغيرات في المزاج, وخصوصاً إذا لم يستجب الإنسان لأسباب مختلفة لوقت طويل لهذه الإشارات الجسدية. وعندما نلبي نداء الجسد, فإننا سرعان ما نشعر بالراحة وتحسّن المزاج, وتعود طاقاتنا لوضعها الطبيعي. وقد وجد العلماء أنه عندما نمد جسدنا بالطاقة اللازمة, فإن أعصابنا تصبح أهدأ كذلك, وأن التوترات النفسية التي تعاني منها المرأة - مثلاً - قبل بداية الدورة الشهرية تختفي, بل إن النساء يستطعن تجاوز مرحلة السن الحرجة "سن اليأس" بشكل أفضل.

         ومع الأسف, فإن غالبية النسوة لا يرين هذه التأثيرات الإيجابية للطعام, ويسعين نحو النحافة الزائدة من خلال أنواع الريجيم القاسي والمرهق. وعاداتنا الاجتماعية غالباً ما تعتبر أن الرغبة في الطعام والشهية المفتوحة أمر غير طبيعي. ولكن الدراسات أثبتت أن الأمر لدى النساء - بشكل خاص - طبيعي جداً. فالشهية الكبيرة للطعام وللحلويات خصوصاً هي جزء من التكوين الفسيولوجي للمرأة. وهذه الحاجة هي حاجة بيولوجية بالدرجة الأولى, كالنوم عندما نشعر بالتعب والتدفئة عندما نشعر بالبرودة.. إلخ, وهذا السر البيولوجي أودعه الله - سبحانه وتعالى - لحكمة يريدها, ومازال العلماء لا يعرفون عن هذا السر إلا القليل القليل. فالشهية الشديدة - بشكل خاص عند المرأة - هي حادث بيولوجي طبيعي, تتضمن إمداد الجسم بالمواد الغذائية الكافية, وتحافظ على الإمداد المناسب للدماغ بالسكر, وبالتالي على توازننا النفسي. وهذه الشهية تعكس ما يحتاج إليه جسدها وخصوصاً في فترة الوحم التي يبدأ فيها الجنين بالتشكّل ويحتاج إلى مواد معينة للبناء والنمو. ومازال الارتباط الكامن بين العمليات الدماغية والشهية للطعام ميدان بحث جديد. وقد وجد العلماء أن بعض مواد النقل العصبية كالسيروتونين والأندروفينات مهمة جداً بالنسبة للمعلومات الخلوية الأنثوية, أي بالنسبة للعلاقة بين التوازن النفسي والشهية لنوع محدد من الطعام. والسيروتونين مادة كيماوية وظيفتها النقل العصبي في المشابك العصبية, وغالباً ما يمتلك تأثيراً مهدئاً, ويقود إلى الإحساس بالتوازن. أما الأندروفينات "أو ما يسمى بأفيونات الدماغ" فهي مواد يطلقها الدماغ وظيفتها تنشيط مراكز الثواب والمتعة في الدماغ. وقد لاحظ العلماء ازدياد إفراز أو تحرير هذه المواد بعد تناول الدهون والسكريات "بشكل خاص الشيكولاتة". فالمواد الدهنية والسكريات تساعدنا على الإحساس بالراحة الجسدية, أي تمدّ الجسد بالطاقة اللازمة للعضلات وحثّ الدماغ على إطلاق السيروتونين والأندروفينات التي تجعلنا نشعر بالراحة النفسية والإحساس بالهدوء والرضا وكل هذه المواد تساعدنا على الشعور بالراحة والصحة والسعادة, أي تحقيق التوازن بين الجانبين الجسدي والنفسي. ومن هنا يمكن أن يتضح لنا جانب من العلاقة المعقدة بين الجسد والنفس. وعندما تنخفض كمية السيروتونين في الدماغ يشعر الإنسان بالانحطاط والتوتر, وهنا يشعر الإنسان بحاجته البيولوجية إلى النشويات كـ "الخبز والبطاطا أو الرز" أو للسكريات "الفاكهة أو العصير.. إلخ" من أجل رفع كمية السيروتونين في الجسد. وعليه, فعندما يأكل الإنسان ما يشعر بأنه يشتهيه يكون أكثر استقراراً من الناحية النفسية وأكثر سعادة. والشيء نفسه ينطبق على الأندروفينات التي يقود انخفاض محتواها إلى الشعور بالتعب والإنهاك وبالتالي إلى الحاجة الجسدية للدهون والسكريات "الشيكولاتة". ويعتقد العلماء أن كمية هذه المواد تنخفض مع بعضها البعض, وبالتالي يشعر الإنسان بحاجته للدهون والسكر معاً. فقد وجدوا أن النساء غالباً ما يمتلكن شهية "طبيعية" كبيرة للطعام المركب من الدهون والسكر أكثر من الطعام المؤلف من السكر أو من الدهون كل على حدة. والشيكولاتة تعد - بالتحديد - المادة المثالية لأنها تحتوي على  05% سكريات و 05%دهون. ومن هنا ينبع الميل الشديد للنساء نحو الشيكولاتة - وأيضاً الرجال كذلك وإن كان ذلك بدرجة أقل.

         والسؤال المطروح هنا: ما علاقة ذلك بالسلوك الإدماني الذي أشرنا إليه?

إلى أين نصل?

         بما أن النقص في هذه المواد يسبب الشعور بالانزعاج, ويقود بالتالي إلى إرسال إشارات معينة من الدماغ تثير الشهية لتناول نوع محدد من المواد الغذائية - وهذا بالتحديد هو أحد معايير السلوك الإدماني - فإنه يمكن النظر إلى ذلك على أنه إدمان من نوع ما. وهو إدمان نمارسه نحن البشر منذ ملايين السنين دون أن ندري أنه كذلك, زوّدنا الخالق به لنستمد حاجاتنا الجسدية ونحقق توازننا النفسي. ومثل أي نزعة إدمانية أخرى, فقد تنحرف الشهية نحو الإفراط الشديد في اشتهاء مادة معينة, الأمر الذي يمكن أن يقود في النهاية إلى مشكلات صحية أخرى, كالوزن الزائد أو السمنة وما يشبه ذلك, وبالتالي إلى عواقب وخيمة يصعب في كثير من الأحيان التنبؤ بنتائجها.

 

سامر جميل رضوان   

 
 




أنت مدمن