أرقام

   أرقام
        

حين تزحف البحار!

          الصراع بين الإنسان والطبيعة صراع قديم, وكثيرا ما استطاع الإنسان أن يهزم الطبيعة فيشق نهرا صناعيا, أو يقيم بحيرة جديدة, أو يردم بحراً, أو يقاوم المناخ بتقلباته وقسوته أحيانا.

          انتصر الإنسان, لكنه كثيرا ما انهزم أيضا, فمعالم الطبيعة وخرائطها لا تتغير كثيرا, فلا البحار يتغير موقعها, ولا الجبال تنتقل من مكانها, ولا الشمس تغير من دورتها.

          يستطيع الإنسان أن يخدش السطح, لكنه ـ في معظم الأحيان لا يمس الثوابت, أو هكذا كان الأمر لملايين السنين حتى جاء العلماء منذ ربع قرن ليقولوا: "بل, ستتغير معالم الطبيعة, فالبحار قد تطفو, والمدن قد تغرق, وما عرفناه من مناطق متجمدة في أطراف الأرض شمالا وجنوبا, قد لا تكون على هذا النحو في القرن الجديد, القرن الواحد والعشرين".

          هكذا كانت التنبؤات, والتي سرعان ما تحققت, بل وصلت إلى الوطن العربي الذي نعيش فيه.

          في صيف عام "2000" نشرت الصحف المصرية أنباء مثيرة تقول إن "طابية" تاريخية مشهورة في محافظة كفر الشيخ قد اختفت, ابتلعتها مياه البحر الأبيض, فباتت في عرض البحر بعد أن كانت من معالم الشاطئ الجميل..!

          ونشرت نفس الصحف أن شيئا شبيها قد حدث في محافظة متاخمة للجماهيرية الليبية وهي محافظة مرسى مطروح, فقد تعود الناس منذ أوقات طويلة الاستحمام في البحر ثم الانصراف لمياه عذبة تتدفق من "دوش" على الشاطئ, ولكن في الفترة الأخيرة انتقل "الدوش" إلى عرض البحر, ولمسافة تبعد عن الشاطئ "45" مترا..!

          وفي الإسكندرية, وعلى أشهر شواطئها "سيدي بشر" لاحظ الجميع أن المياه تزحف نحو الأسفلت, وأن رمال الشاطئ تختفي حتى لم يعد للمصطافين مكان ملحوظ, وما كان من الجهات المختصة إلا أن نقلت الرمال من الصحاري القريبة لتقيم الشاطئ من جديد.. وتقاوم زحف البحر!

          إنها ظاهرة إغراق الشواطئ إذن, والتي تحدث عنها العلماء منذ أكثر من ربع قرن, لكن ها هي قد تجسدت في بلد عربي, وقد تنتقل غدا إلى شواطئ أخرى, بينما هي مؤكدة في دول مثل الصين والهند.

الساخن والبارد

          تنبه العلماء مبكرا لما سوف يحدث, وقالوا إن إسراف الإنسان في استخدام الطاقة وفي كل ما يولد غازات ضارة سوف يؤثر في البيئة ويرفع درجة الحرارة أو يحدث ثقبا في طبقة الأوزون الحامية للإنسان من الإشعاع الضار للشمس, وبينما تسبب الحالة الثانية سرطان الجلد وأمراضا أخرى فإن لارتفاع الحرارة آثارا أوسع تمتد على سطح الكرة الأرضية كلها.

          لذا, وفي عام "1979" وقع عدد من الدول اتفاقية للحد من الآثار بعيدة المدى المترتبة على التلوث الجوي, وتكونت حينذاك منظمات دولية وإقليمية للدفاع عن "هواء نظيف" تكون الاتحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة, وبدأ برنامج الأمم المتحدة للبيئة, وتشكلت جماعات أهلية للدفاع عن البيئة.

          بعدها, وفي عام "1987" جاءت معاهدة مونتريال, وهي الأولى من نوعها في العالم, وتعهدت فيها الدول الموقعة بتنفيذ برنامج لتخفيض إنتاج الثلاجات وأجهزة التكييف وكل ما يترتب عليه انخفاض غازات تفسد الجو أو تزيد من تسرب أشعة الشمس فوق البنفسجية وتلا ذلك عام "1992" انعقاد المؤتمر الدولي للبيئة والذي اتفق فيه على اجراءات محددة للحد من انبعاث الغازات الضارة, ثم جاءت اتفاقية المناخ والتي انضم لها معظم دول العالم ودخلت حيز التنفيذ في "21" مارس عام "1994", وفي ذلك العام سجلت دراسات معهد الاقتصاد الألماني أن دولة واحدة ـ هي الولايات المتحدة ـ قد انفقت "1.6%" من ناتجها المحلي ـ أي نحو "80" مليارا من الدولارات ـ لحماية البيئة, وأن هذه النسبة قد بلغت "1.9%" من الناتج في بلد مثل الدنمارك.

          وكانت حالة الاستنفار لها ما يبررها, فهناك تقرير البنك الدولي: "التنمية في العالم" الذي صدر حينذاك "1992" يقول إن هناك سبعة أنواع من مشاكل البيئة, ومن بينها: إصابة "300" ألف حالة بسرطان الجلد كل عام, وإصابة "1.7" مليون شخص بالإعتام في عدسة العين, وأن هناك أشخاصا تتراوح أعدادهم بين "300 ـ 700" ألف شخص يموتون مبكرا بسبب تأثيرات البيئة.

          حينذاك أيضا, سجل التقرير ما يمكن تسميته موت البحار, فقد كان بحر آرال في آسيا يحتضر طوال ثلاثين عاما بدأت في الستينيات, حتى أنه ـ وبعد هذه الفترة ـ بات أشبه بالبحيرة المالحة التي تفسد كل ما حولها, وبات مهددا بأن تصبح مساحته سدس ما كانت عليه عام "1960"!

البحار تنكمش أو تفيض, والمشاكل تزيد, والعالم يعقد القمة الدولية للمناخ عام 1995 ليواصل التصدي لما يجري.

صيف عام "2000"

          كانت أعمال المكافحة ـ إن جاز التعبير ـ مستمرة, وكانت الآثار الضارة للتغيرات في المناخ وبيئة العالم مستمرة أيضا.

          لقد عرفت البشرية ما أسماه العلماء "مناخا", وطبقا لهذه المعرفة فقد كان هناك الحار والبارد والدافئ وكان هناك المطير والجاف, ومنذ ملايين السنين كانت التغيرات محدودة.

          الآن ـ ومنذ سنوات قريبة, وكما هو معلوم ـ بدأ المناخ في التغير, وبينما لاحظنا في الشرق الأوسط خلال صيف 2000 ـ موجة حرارة غير عادية, وشهدت الولايات المتحدة جفافا ضرب الساحل الغربي, وأمطارا وفيضانات ضربت الساحل الشرقي في نفس الوقت, بينما حدث ذلك أذاع علماء الأرصاد أنهم قد قاموا بمائة عملية تقديرية لمتوسط زيادة درجة حرارة الأرض خلال ثلاثة عقود, وأكدت عمليات الرصد أن الاتجاه لمن يدمن الحرارة, وأن درجة حرارة الأرض سوف ترتفع ما بين درجة ونصف درجة إلى أربع درجات ونصف درجة, وهو تغير ـ كما قيل ـ ليس له مثيل طوال عشرة آلاف سنة, وينتج عنه خلل في الأمطار فتغرق مناطق جرباء, ويشح الماء في مناطق خصبة.

          وقد تبدو موجة الحر التي مرت بالعالم شيئا طارئا, كما تبدو درجات الحرارة الإضافية التي يشير لها العلماء شيئا هينا, ولكن ها هي التوقعات تقول إن دورة المحيطات ـ نتيجة لذلك ـ سوف تتغير, وأن سطح البحر سوف يرتفع بمقدار "20" سنتيمترا حتى عام "2030", وهو ارتفاع يهدد الجزر بالاختفاء, والشواطئ بالغرق والتراجع تماما كما يحدث في مصر الآن.

          ومسلسل القصة معروف, فالإنسان يسرف في استخدام كل ما يؤدي لإنتاج الكربون والغازات التي تزيد من الحرارة, وتؤثر الحرارة أول ما تؤثر ـ بخلاف التأثير على الغلاف الجوي وطبقة الأوزون ـ في المناطق الجليدية من العالم, وبالفعل فقد انفصلت كتلة جليدية في القطب الجنوبي مساحتها "11" ألف متر مربع, وهي أكبر قطعة تنفصل من جبال الجليد حتى الآن.

          أيضا, وفي القطب الشمالي, تقلص سمك الغطاء الجليدي بمعدل "1.2" متر وتوغلت مياه القطب الشمالي بنسبة 20%.

          هكذا, يرتفع سطح البحر, ويصل إلينا في بلادنا العربية, فهل احتلت قضية البيئة ما تستحقه في الوطن العربي? إنه مجرد سؤال, فالثوابت تتغير, ونحن لا نتغير بما يكفي وبالسرعة الواجبة, فهل يكتسحنا البحر؟

 

محمود المراغي