إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي
        

نعم للرواج ولكن!

          ليس معيار جودة العمل الأدبي أو الفني رواجه. فقد يروج هذا العمل رواجاً واسعاً ولا تكون له تلك الجودة الرفيعة المقام. فقد عرفت أغنية لوديع الصافي في الستينيات من القرن الماضي, وتدعى (علّوما اللوما اللوما) رواجاً لم تعرفه أغنيات أم كلثوم وعبدالوهاب, ثم ماتت الأغنية بعد موسم رواجها العظيم ـ ولكن القصير نسبياً ـ موتاً محققاً فكأنها لم تسرِ على شفاه الملايين سريان النار في الهشيم.

          وعرفت الفنانة المصرية نعيمة عاكف, في بعض سنوات القرن الماضي, رواجاً ربما حسدتها عليه كرام الممثلات والمغنيات المصريات. أوتيت هذه الفنانة من القدرة على تحريك (شباك التذاكر) ما جعل هذا الشباك يضيق بالأيدي الممدودة إليه والمتحرقة للحصول على مقاعد.

          بعد ذلك أسدل الستار على نعيمة عاكف فكأنها لم تظهر يوماً في فيلم, ولم تسجل يوماً أغنية.

          ووهب الشاعر نزار قباني مع الجمهور حظاً لم يوهب لشاعر عربي معاصر فباعت دواوينه الدافئة, مع أنها مرتفعة الثمن, أكثر مما باعت دواوين المتنبي والمعري وشوقي والجواهري وبدوي الجبل وبقية الكبار من الشعراء العرب القدامى والمحدثين, رغم أن البضاعة الشعرية التي قدمها نزار قباني للجمهور لا يمكن أبدا أن ترقى, وبحسب معايير الجودة والاتقان ومعايير النقد الموضوعي البارد, إلى بضاعة هؤلاء الشعراء.

          وتبيع في الوقت الراهن روائية عربية تقدم نفسها على أنها روائية تحمل جواز سفر فرنسيا (درءاً للشبهات), كما تقول, أكثر مما باع ويبيع روائي عربي كبير يحمل جائزة نوبل للآداب اسمه نجيب محفوظ, بالرغم من أنه باع كثيرا بالطبع.

          ولكنها باعت أكثر منه لأنها دغدغت مشاعر, ونقرت على وتر لصوته وقع الدفء في القلوب, في حين أنه لا يمكن لأعمال هذه الكاتبة أن تصمد في مختبرات النقد, أو أن ترقى إلى مرتبة الأعمال الفنية الخالدة.

          وكان إحسان عبدالقدوس أمير هذا الصنف من الكتّاب الرائجين, لدرجة أن (روز اليوسف) التي كانت تنشر رواياته مسلسلة في الستينيات من القرن الماضي, كانت أعدادها تنفد من السوق لحظة نزولها إليه. ولكن بالرغم من هذا الرواج العظيم, أوصد نقاد الأدب أبوابهم بوجه هذه الروايات ولم يعترفوا بها يوماً.

          من الطبيعي أنه لا يمكن نظم قصيدة هجاء في الرواج, فالرواج مطلوب ولا يمكن نهي الكاتب عن السعي إليه, ولكن على هذا الكاتب ألا يذل القيم العليا للأدب والفن من أجل الحصول عليه. ومن مظاهر هذا الإذلال تعمد مخاطبة غرائز القارئ وما إلى ذلك من توسل وسائل تأباها مهنة وجدت لترقية النفس وخدمة الحقيقة.

          فالكاتب مدعو لاستخدام قانون غير مكتوب, ولكن راسخ في الضمير الأدبي, يقضي بمراعاة موجبات الجودة الفنية والأخلاقية العالية, فإن لم يفعل جاءت أعماله ـ ولو راجت رواجا مؤقتا ـ هشة سريعة الذبول, تماما كتلك الوردة التي قال عنها الشاعر الفرنسي سولي بريدوم إنها ـ ويا للأسف! ـ لا تعيش إلا سحابة يوم واحد.

 

جهاد فاضل   

 
 




جهاد فاضل