ليلة ولد الإسلام محمد عمارة

ليلة ولد الإسلام

لم يكن الصوم - كشعيرة دينية، وفريضة إلهية - من الخصوصيات التي اختص الله، سبحانه وتعالى، بها أمة محمد "صلى الله عليه وسلم"، فهو شعيرة ومنسك عرفته شرائع وأمم الرسل السابقين.

وعن هذه الحقيقة يتحدث القرآن الكريم، وهو يشرع لفريضة الصوم على المسلمين فيقول يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.

وعندما هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون من مكة إلى المدينة، وجدوا اليهود يصومون في ذكرى نجاة موسى، عليه السلام، من فرعون، فأحيوا هم أيضا هذه الذكرى بالصيام، تعبيرا عن معنى وحدة الدين الإلهي، واستمرارية الشرائع ما لم يقض فيها الله بالنسخ والاستبدال والتطوير..

وكذلك كان للنصارى صيامهم الذي ربطوه بحادثة الصلب.

لكن السنة الثانية للهجرة - والشهر الثامن عشر من شهورها - على أرجح الآراء.. قد شهد تشريع فريضة الصوم الخاصة بأمة الرسالة الخاتمة، صوما متميزا في منسكه من حيث أوقات الإمساك عن شهوات الطعام والشراب والفروج، ومن حيث عدد الأيام، ومن حيث موقع هذه الأيام في شهور العام، ومن حيث التقويم القمري الذي كان تقويم العرب والإسلام.

وإذا كانت مواقيت الشعائر والفرائض الدينية لا تخلو من حكمة يحققها التوقيت - حتى وإن خفيت علينا في بعض الأحايين - فإن البحث عن الحكمة التي جعلت شهر رمضان، دون غيره من شهور السنة القمرية، هو شهر الصيام للأمة الإسلامية.. إن البحث عن حكمة هذا التوقيت قد يفتح أمامنا سبلا لاكتناه مزيد من العظمة والتعظيم لهذا الركن من أركان الإسلام.. بل إنه لفاتح أمام بصائرنا طرقا إلى المعاني الحقيقية الجديرة بالتجسيد والإحياء في هذا الشهر العظيم.. شهر رمضان.

إن الصوم، في الاصطلاح الشرعي للإسلام، هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس أيام شهر رمضان.. لكنه إذا وقف عند هذا "الطقس" فقد لا يكون لصاحبه منه سوى آثار "الجوع" والعطش" - كما جاء في الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم - ذلك أن الصوم هو في حقيقته "تعبيد" للإنسان، يديم "حضور العبودية"، بألوان من "الحرمان"، تجعله مدرسة عظمى لتربية الإرادة الإنسانية على "الحضور - الطائع" للخالق، سبحانه وتعالى وحده، ودونما رقيب أو شريك، الأمر الذي يخلص هذا العمل لله، دونما رياء.... ولذلك قد يحار ويستغرب الذين لا يعلمون رسالة الصوم في تربية الإرادة الإنسانية، كيف كان رمضان - شهر الحرمان والمعاناة والمكابدة - هو شهر أبرز الانتصارات الإسلامية على أشرس التحديات التي هددت "الدعوة" و "الأمة" و" الوطن".. منذ "بدر الكبرى" سنة 2 هـ.. إلى "فتح مكة" سنة 8 هـ.. إلى "حرب رمضان" سنة 1393 هـ..

لكن.. لماذا في رمضان؟

لكن السؤال الباحث عن حكمة توقيت الصيام الإسلامي لا يزال قائما.. لماذا كان هذا المنسك، الذي مثل ويمثل "مدرسة التربية الإسلامية للإرادة" في شهر رمضان دون غيره من الشهور؟..

إن القرآن الكريم يحدثنا عن أن هناك أربعة أشهر حرم - وهي "رجب" و"ذو القعدة" و "ذو الحجة" و" المحرم"، ولها عند الله فضل واختصاص، حتى لقد جعلها مكرسة للسلام وتنمية العمران، وحرم فيها القتال إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين..

لكن الله، سبحانه وتعالى، قد جعل الصيام - هذا الركن العظيم من أركان الإسلام - في رمضان، ولم يجعله في واحد من هذه الأشهر الحرم.. فلماذا؟!..

بل إن "الحج " إلى البيت الحرام.. وهو، كالصيام، ركن إسلامي له توقيت سنوي ثابت، قد أدخل شهر "ذي الحجة" - وهو من الأشهر الحرم - في أشهر الإحرام به والأداء لمناسكه.. وبقي الصيام وحده، من بين الأركان ذات الميقات السنوي الثابت، بعيدا عن هذه الأشهر الحرم، حيث اختص به شهر رمضان..

وإذا كانت الهجرة النبوية قد مثلت، بالنسبة للإسلام الدعوة.. والدولة: "الحدث - المنقذ" من إحاطة الشرك واقتلاع الفكر للإيمان.. فلم لم يكن شهر الهجرة - ربيع الأول - هو شهر الصوم، كما كان حال الصيام في شريعة بني إسرائيل، في ذكرى نجاة موسى ومن معه من فرعون وملئه؟!.. ولماذا كان الاختيار الإلهي لشهر رمضان بالتحديد، ودون غيره من الشهور؟!..

إن القرآن الكريم لا يترك الإجابة عن السؤال الباحث عن "حكمة" هذا التوقيت للاجتهاد والاستنتاج.. فآياته البينات قد تحدثت عن "لحظة الميلاد" للأمة الإسلامية الخاتمة، تلك التي تجسدت في لحظة "الظهور للدين" الذي ميز هذه الأمة، وجعل من دينها الطور الخاتم لرسالات الدين الإلهي الواحد، والشريعة العالمية التي استكملت وأكملت للإنسان مكارم الأخلاق.. ولقد كانت بداية هذه "اللحظة" هي نزول "الروح الأمين" على "الصادق الأمين" بأولى آيات القرآن الكريم، لحظة "مطلع الفجر" في ليلة من الليالي الوتر في العشر الأواخر من شهر رمضان "في غار حراء".

في هذه "اللحظة"، التي أضاءت فيها الأرض بنداء السماء اقرأ باسم ربك الذي خلق، بدأ نزول القرآن في ليلة القدر.. وهي "لحظة" "مطلع الفجر" - الذي هو مولد النهار - وفيها نزل الكتاب - الذي ولدت منه الأمة - عندما خرجت عقيدتها وشريعتها وحضارتها.. ووحدتها في "الأمة" و "الدار" من بين دفتي هذا الكتاب الكريم..

ولقد كان ذلك "الميلاد" في شهر رمضان.. فكان صومه - دون غيره من الشهور - الاحتفال الإسلامي بميلاد هذه الأمة، في مطلع الفجر، من ليلة القدر في رمضان في السنة التي سبقت الهجرة النبوية بثلاثة عشر عاما..

يحكي القرآن الوقائع التي تقود العقل المسلم لاكتشاف حكمة جعل الصيام الإسلامي في شهر رمضان، دون سواه من الشهور.. وذلك عندما يحدثنا عن توقيت نزول القرآن الكريم إنا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر* تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر* سلام هي حتى مطلع الفجر.

وكان ذلك في شهر رمضان.. ولذلك، جعله الله ميقاتا لشعيرة الصوم - مدرسة بناء الإرادة الإسلامية - المجددة أبدا لفتوة الأمة، كي تستعيد دائما عافية الميلاد الجديد، وصحة الجهاد والاجتهاد والتجديد.. فقال سبحانه، وهو يشرع لهذه الفريضة فيحدد الميقات.. وعلة التوقيت شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون.

وهكذا نجد أنفسنا أمام "الحكمة" التي جعلت صيامنا في رمضان.. وليس في شهر من الأشهر الحرم.. وليس، أيضا، في ذكرى نجاة الإسلام ورسوله وأمته، بالهجرة من الحصار والإبادة والاقتلاع.. أمام "الحكمة" التي جعلت صيامنا إحياء لذكرى لحظة نزول القرآن، الذي مثل "الرحم" الذي ولدت منه هذه الأمة، عندما خرجت مقوماتها وثوابتها والروح السارية في حضارتها والصبغة المميزة لعمرانها.. عندما خرج كل ذلك من بين دفتي هذا الكتاب الكريم، ومن سور وآيات هذا النبأ العظيم..

فكيف يكون الاحتفال؟

وإذا كان احتفال الناس، أفرادا وأسرا وشعوبا وأمما، بالأعياد والمناسبات، لا بد وأن تصطبغ مظاهره وتعكسه وقائعه معاني ودلالات الحدث الذي به يحتفلون؟ ولذكراه يحيون.. إن كان انتصارا عسكريا، فإن مظاهر القوة ومعالمها تطبع وقائع الاحتفال.. وإن كان استقلالا عن الاستعمار.. أو تحريرا للثروات.. أو استرجاعا للأرض.. أو غير ذلك، صبغت معاني الذكرى احتفالات الذين يتذكرون ويحتفلون.. فإن احتفال المسلمين، عندما يصومون شهر رمضان، بذكرى "اللحظة" التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب رسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم، مطلوب منه - من هذا الاحتفال - أن يصطبغ بصبغة ذلك الحدث العظيم.. نزول القرآن، الذي كان الرحم الذي ولدت منه المقومات التي صنعت أمة الإسلام، ومثلت الروح السارية والضامنة لتواصلها الحضاري على مر الدهور.. إن تأمل هذه المعاني، وتدبر هذه الحقائق، سيضع يدنا على حجم "الخلل.. والقصور" اللذين أصابا ويصيبان "معاني.. ومعالم" احتفالنا في رمضان بذكرى نعمة نزول "النبأ العظيم"..

وليس، فقط، في تحول شهر الصوم إلى شهر للكسل وتدني الإنتاج.. بينما هو في حقيقته، "مدرسة تربية الإرادة، على الفتوة التي تجعل منه التجديد للطاقات والملكات والقدرات التي تعين الأمة على قهر المخاطر والتحديات، وتنمية معالم الابتكار والإبداع.. وليس، فقط، عند وقوف الأكثرين عند "الطرب" لسماع القرآن.. واكتفاء الكثيرين بمجرد "تلاوته".. بينما لا "يتدبره" إلا الأقلون!.. فلا طرب السماع.. ولا مجرد التلاوة.. بل ولا حتى الوقوف عند "التدبر للمعاني" .. بكاف في الاحتفال الذي يحيي المعنى الحقيقي لهذا العيد الذي ولدت فيه أمة الإسلام..

إن نزول القرآن الكريم، إنما مثل لحظة الميلاد لأمة الإسلام، لأنه مثل "النور" الذي خرجت إليه الأمة من ظلمات الجاهلية.. ومثل "الهدى" الذي نعمت به بعد حيرة الضلالات.. وفي كلمة واحدة جامعة، فلقد مثل القرآن ينبوع "الإحياء" الإسلامي، الصالح دائما وأبدا لطي صفحات الموات والجمود والتقليد، بما يقدم من سبل للاجتهاد والتجديد والإبداع..

في "الإحياء" في كل ميادين العمران.. النفس الإنسانية بما يهذبها ويرتقي بملكاتها.. وعمران الواقع المادي بما يحسنه ويجمله من ألوان المدنية.. هذا "الإحياء" الإسلامي هو أخص المصطلحات المعبرة عن رسالة هذا "الينبوع"، الذي نصوم رمضان احتفالا بذكرى لحظة نزوله على قلب رسولنا محمد ابن عبدالله، عليه الصلاة والسلام.. وصدق الله العظيم إذ يقول: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون.

ليلة نزول النبأ العظيم

فنحن، إذ نصوم رمضان، إنما نحتفل بذكرى اللحظة القدسية التي بدأ فيها نزول "النبأ العظيم"، ذلك الينبوع الإلهي الذي مثل "الرحم" الذي ولدت منه الأمة الخاتمة، ومن بين دفتيه خرجت المقومات الثوابت للرسالة العالمية، في " العقيدة" و"الشريعة" و" القيم "، وهي التي ميزت "الحضارة" بالروح الخالدة، رغم تطورها عبر الزمان والمكان.. كما وحدت "الأمة"، مع التنوع في القبائل والشعوب والأقوام.. وكذلك وحدت "دار الإسلام "، مع التمايز في خصوصيات الأقاليم والأوطان. وإذا كانت مصداقية "رسالة" أي احتفال بذكرى لحظة الميلاد، هي في مدى النجاح الذي يحققه الاحتفال في حضور "المعنى والمغزى" إلى واقع الذين يحتفلون.. فهل ننجح، في رمضان، في استعادة روح "الإحياء" الإسلامي، الذي مثله القرآن العظيم، عندما أخرج هذه الأمة "من الظلمات إلى النور"؟!..

لقد منّ الله، سبحانه وتعالى، على هذه الأمة عندما تعهد "بحفظ" هذا "الينبوع" وصيانته عن الخلط والتحريف والتبديل إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.

لكن "إقامة" هذا الدين.. وتجديد دنيانا بفكره المتجدد هي "الأمانة" التي حملناها نحن عندما سعدنا بنعمة التدين بهذا الدين.. فطوبى للسالكين سبل التجديد والإحياء للعمران الإسلامي.. الساعين إلى أداء "الأمانات" في مختلف ميادين العمران.. أولئك الذين يجعلون من صيام رمضان الاحتفال اللائق بإحياء ذكرى لحظة الميلاد العظيم لأمة محمد، عليه الصلاة والسلام.

 

محمد عمارة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات