جمال العربية: في الذكرى الثمانين لرحيل شوقي

جمال العربية: في الذكرى الثمانين لرحيل شوقي

شوقي والولع بالتاريخ في قصيدته
«كبار الحوادث في وادي النيل»

أ- تحقيقات لغوية:

في تقديمه لقصيدته «رومة» - كما جاءت صورتها في ديوانه -، يقول شوقي مخاطبًا صديقه المؤرخ إسماعيل بك رأفت: «بلَغْتُها، وإذا أنا بين أثرٍ يكاد يتكلم، وحجرٍ كاد لكرامته يُستلم، فوقفت أتأمَّل ذا الجدار وذا الجدار، وأنشُدُ ذلك القصر وتلك الدار، إلى أن ثار الشعر - والشعر ابن أبوين : التاريخ والطبيعة - فنظمتُ، وكأني بها في يديك تُقرأ»!

الشعر إذن ابن أبوين: التاريخ والطبيعة في رأي شوقي، ولا أظن قصيدة من بين قصائده تصوِّر ولعه وعشقه للتاريخ، وافتنانه به، وعكوفه الشعري على صياغة ما اختار من شخوصه وأحداثه ووقائعه، مثل قصيدته «كبار الحوادث في وادي النيل» التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين الدولي، المنعقد في مدينة جنيف في سبتمبر 1896، مندوبًا عن الحكومة المصرية فيه. وهي أطول قصائده على الإطلاق.

وكأنه - بهذه المطوَّلة - قد أحبّ أن يقول للعالم - بلغة الشاعر الذي كان وقتها في السادسة والعشرين - هذه مصر، التي أمثِّلها بينكم، تاريخًا وحضارةً، إشراقًا وعبوسًا، انتصارات وهزائم، قفزات وانكسارات. مستهلاً قصيدته بلوحة شعرية شديدة الحيوية بالغة التأثير. يستشعرها كلّ مسافر في البحر، خوفًا ورهبة، وتوقفًا أمام

ما يمثله من عظمة وجلال. وكأنه - في حدود المعنى القريب والدلالة السريعة - يصور رحلته إلى أوربا - والسفر بالبحر هو المتاح الوحيد في ذلك الوقت -، أما المعنى العميق والأبعد، فيأخذ بنا إلى بحر التاريخ الأعظم، المتلاطم الأحداث والوقائع، وإلى كتاب التاريخ الطويل العريض، الذي يماثل امتداد أمواجه المتلاطمة، في حال جيشانها واضطرابها، ويشبه البساط في حال هدوئها وانبساطها في سجودها لهيبة الخالق، وتعظيمها لقدرته.

من هنا، لا يفوت شوقي، في مدخله الشعري المدهش، هذا المزج البديع بين صورة السفينة في عباب البحر، تحيط بها الأمواج الهائلة كأنها الجبال، والهضاب التي تموج بها البيداء (الصحراء) حين تعبرها القافلة. وعندئذٍ تصبح الجبال الموائج في البحر، مساوقة للهضاب الموائج في البيداء. وعلى حين تلوح السفينة وتخفى تبعًا لحركة الأمواج، فإن الهوادي التي يهزّها الحداء في الصحراء تهبط وتصعد، طبقًا لجغرافيا الصحراء، تجاوبًا واهتزازًا مع درجات الغناء الذي يقوم به حداة الركب.

يقول شوقي في استهلاله لقصيدته:

همّت الفُلْكُ، واحتواها الماءُ
وحداها بمن تُقلُّ الرجاءُ
ضرب البحر ذو العباب حواليـ
ـها سماءً، قد أكَبرتْها السّماءُ
ورأى المارقون من شركِ الأر
ضِ، شباكًا تمدُّها الدأماءُ
وجبالاً موائجًا في جبالٍ
تتدجّى، كأنها الظلماءُ
ودويًا كما تأهبت الخيـ
ـل، وهاجت حُماتَها الهيجاءُ
لُجّةٌ عند لجةٍ عند أخرى
كهضابٍ ماجت بها البيداءُ
وسفين طورًا تلوح، وحينًا
يتولّى أشباحهنَّ الخفاءُ
نازلاتٌ في سيرها صاعداتٌ
كالهوادى يهزُهن الحُداءُ
ربّ، إن شئْتَ فالفضاءُ مضيقٌ
وإذا شئت فالمضيق فضاءُ
فاجعل البحر عصمةً، وابعث الرَّحـ
ـمةَ، فيها الرياحُ والأنواءُ
أنت أُنسٌ لنا إذا بعُدَ الأنـ
ـسُ، وأنت الحياةُ والإحياءُ

هذه الصورة الشعرية البديعة - في مستهل قصيدته - لم تخْل من حسٍّ تاريخي وهو يقارن بين زمان البحار الذي يقوم على البُخار، وزمان الوجناء الذي كانت فيه الناقة الشديدة سفينة الصحراء ووسيلة السفر، وفي كلا العصرين ظلّ الشرق محتفظًا بإمرة البحار كما كان - في القديم - محتفظًا بإمرة الصحراء:

وبنينا، فلم نُخلِّ لبانٍ
وعلونا، فلم يجزنا علاءُ
قل لبانٍ بنى، فشاد، فغالى
لم يجُزْ مصْرَ في الزمان بناءُ
ليس في الممكنات أن تُنقلَ الأجـ
ـبالُ شُمّا، وأن تُنالَ السّماءُ
أجفل الجنُ عن عزائم فرعو
ن، ودانت لبأسها الآناءُ
شاد ما لم يشدْ زمان ولا أَنْـ
شأ عصرٌ، ولا بنى بنّاءُ!

هي إذن صفحة مشرقة من صفحات المجد القديم، يمضي إليها شوقي - البنّاء العظيم - في طواعية ويُسْر، والتفاتته هنا إلى مجدٍ خالد سجّله التاريخ وهو يتحدث عن رمسيس وسيزوستريس وآمون وكهان الهيكل، تتلوها صفحة سوداء كالحة الوجه، حين يعرض لقمبيز - ملك الفرس - الذي استولى على مصر سنة 525 قبل الميلاد، وخرّب المعابد والهياكل واستذلّ المصريين، وبينهم ملكهم الأسير بِسْماتيك الذي هُزم في يوم منفيس فصارت البلاد خاضعة لكسرى، والسيف يأمر في الرقاب وينهى.

وهنا، تبلغ عبقرية شوقي الشعرية مداها، وهو يصور مشهدًا فاجعًا، تستعبدُ فيه ابنة فرعون، يُذلّون بإذلالها أباها، حتى يروا دمعه وضعفه، يقدمون إليها الجرّة لتملأها من ماء النيل شأن الإماء، لكن الفرعون الأب صامد محتمل لمرارة المشهد وذلّ ما يحدث فيه وكأنه الصخرة الصماء، دمعه لا يسيل إلاّ عندما يعرضون عليه صديقًا له في ثوب فقرٍ وأسمال بالية، وهو يسأل الناس أن يعطوه، فيهتزّ الفرعون لرؤية صديقه على هذه الحال البائسة المزرية، وعندئذٍ تسيل دموعه.

ترى. ماذا يقول شوقي الشاعر، الذي جعل من هذا المشهد - سواء كان مشهدًا تاريخيًّا حقيقيًّا أم لم يكن - لوحة شعرية في الذروة من التعبير والتصوير والتجسيد:

يوم منفيس، والبلاد لكسرى
والملوك المطاعةُ الأعداءُ
يأمر السيف في الرقاب وينهى
ولمصرٍ على القذى إغضاءُ
جيء بالمالك العزيز ذليلاً
لم تزلزل فؤاده البأساءُ
يبصرُ الآلَ، إذ يراحُ بهم في
موقف الذلِّ، عنوةً، ويُجاءُ
بنت فرعون في السلاسل تمشي
أزعج الدهْرَ عُرْيُها والحفاءُ
فكأن لمْ ينهض بهودجها الدَّهْـ
ـرُ، ولا سار خلْفَها الأمراءُ
وأبوها العظيمُ ينظرُ لمَّا
رُدّيتْ مثلما تُردَّى الإماءُ
أعطيَتْ جرّةً، وقيل إليكِ النّـ
ـهر، قومي كما تقوم النساءُ
فمشَتْ تُظهر الإباءَ، وتحمى الدَّمـ
ع، أن تسترقّهُ الضراءُ
والأعادي شواخصٌ، وأبوها
بيد الخطْبِ صخرةٌ صمّاءُ
فأرادوا لينظروا دمع فرعوْ
نَ، وفرعونُ دمعهُ العنقاءُ
فأروْهُ الصديقَ في ثوبِ فقرٍ
يسأل الجمع، والسؤالُ بلاءُ
فبكى رحمةً، وما كان من يبـ
ـكي، ولكنما أراد الوفاءُ
هكذا المُلْك والملوكُ، وإن جا
رَ زمانٌ، وروّعتْ بلواءُ!

من بين محطات شوقي في قصيدته «كبار الحوادث في وادي النيل» توقفه مرة عند مولد «عيسى»، وأخرى عند ميلاد «أحمد» وهو الاسم الذي اختاره له في القصيدة. والوقفتان معًا بالغتا الدلالة في صفاء الإشراق الروحيّ لوجدان هذا الشاعر الكبير، تصدران عن نبع واحد نبع العبقرية والإيمان الذي يجسّده شوقي، امتدادًا لإيمان المصريّ القديم - من قبل عصور الأنبياء والديانات السماوية - بآمون وإيزيس وأوزيريس وأخناتون. وميلاد عيسى - في مرآة شوقي - هو ميلاد الرفق والمروءات والهدى والحياء، أما أحمد أو محمد فهو في مرآته أشرف المرسلين، آيته البيان، وقومه الفصحاء، وآي القرآن التي نزل بها جبريل ضياء يهدي به الله من يشاء، وقد نسخت سُنّة النبيّين والرسل كما ينسخ الضياءَ الضياءُ. يقول شوقي في مولد عيسى:

وُلد الرفقُ يوم مولد عيسى
والمروءاتُ، والهدى، والحياءُ
وازدهى الكون بالوليد، وضاءت
بسناهُ من الثرى الأرجاءُ
وسرت آية المسيح، كما يَسـْ
ـري من الفجر في الوجود الضياءُ
تملأ الأرض والعوالم نورًا
فالثرى مائجٌ بها وضّاءُ
لا وعيدٌ، لا صولةٌ، لا انتقامٌ
لا حسامٌ، لا غزوةٌ، لا دماءُ
مَلكٌ جاور التراب، فلمّا
ملَّ نابت عن الترابِ السّماءُ
وأطاعتْهُ في الإله شيوخٌ
خُشّعٌ، خُضَّعٌ له، ضعفاءُ
أذعن الناسُ والملوكُ إلى ما
رسموا، والعقول، والعقلاءُ
فلهم وقفة على كلِّ أرضٍ
وعلى كلِّ شاطئٍ إرساءُ
دخلوا طيبةً، فأحسن لقيا
هم رجال بطيبةٍ حكماءُ
فهموا السِّرَّ حين ذاقوا، وسهلٌ
أن ينال الحقائقَ الفهماءُ
فإذا الهيكل المُقَدَّسُ ديْرٌ
وإذا الدّيْرُ رونق وبهاءُ
وإذا طيبة لعيسى، ومنفيـ
ـسُ، ونيلُ الثراءِ، والبطحاءُ
إنما الأرض والفضاء لربِّي
وملوك الحقيقة الأنبياءُ

وشوقي في هذه الأبيات الخمسة الأخيرة يصور انتقال المصريين من ديانتهم القديمة إلى المسيحية، التي استقرت في طيبة ومنفيس، فإذا بالهيكل المقدس - لدى المصريين - القدماء - يصبح ديرًا، وإذا بالدير يتوهج بالرونق والبهاء. وإذا كانت عبادة المصريين القدماء تقوم على أركانها الثلاثة: إيزيس وأوزيريس وحورس، فقد كان من الميسور أن يجد المصريون في الآب والابن والروح القدس مرْقًى أسمى إلى جوهر الديانة المسيحية التي دان بها المصريون من أتباع عيسى.

ثم يقول شوقي في يوم ميلاد محمد:

أشرق النور في العوالم، لمّا
بشَّرتْها بأحمد الأنباءُ
باليتيم الأميّ، والبَشرِ المُو
حَى إليه العلومُ والأسماءُ
قوة الله إن تولَّت ضعيفًا
تعبت في مِراسهِ الأقوياءُ
أشرفُ المرسلين، آيتهُ النُّطْـ
ـقُ مُبينًا، وقومهُ الفصحاءُ
لم يفُهْ بالنوابغِ الغُرِّ، حتى
سبق الخلْقَ نحوهُ البلغاءُ
وأتتْهُ العقولُ مُنقادةَ اللُّـ
ـبِّ، ولبَّى الأعوانُ والنُّصراءُ
جاء للناسِ، والسرائرُ فوضى
لم يُؤلِّف شتاتهنَّ لواءُ
وحمى الله مستباحٌ، وشرع اللـ
ـه، والحقِّ والصوابُ وراءُ
فلجبريل جَيْئةٌ، ورواحٌ
وهبوط إلى الثرى، وارتقاءُ
يُحسَبُ الأفقُ في جناحيْه نورًا
سلبتْهُ النجومُ والجوزاءُ
تلك آيُ الفرقانِ، أرسلها اللـ
ـه ضياءً يهدي به من يشاءُ
نسخت سُنَّةَ النبيِّين والرُّسْـ
ـلِ، كما ينسخُ الضياءَ الضياءُ

لقد اتسع نَفَسُ شوقي الشعري لأطول قصائده «كبار الحوداث في وادي النيل»، في مئتين وثمانية وثمانين بيتًا، بدءًا بتاريخ مصر الفرعوني، في وجهيه المضيء والمظلم، مرورًا بقيصر وكليوباترا في العصر البطلمي، فميلاد عيسى وانتشار المسيحية في مصر، فميلاد أحمد ودخول الإسلام إلى مصر، وصولاً إلى آل أيوب، والتُّرْك، وأسرة محمد علي، صاحبة آخر العصور الملكية في تاريخ مصر، متوقفًا عند عباس حلمي الذي أبدع شوقي قصيدته في زمن حكمه، وقد كان وطنيًّا صديقًا لمصطفى كامل ولشوقي في الوقت نفسه، ولما غضب الإنجليز عليه نُفِيَ ومعه شوقي، الأول إلى تركيا وشاعره إلي إسبانيا، وهكذا جنت الوطنية والتغني بحب الوطن على الأمير وشاعره معًا.

ويبقى سؤال الشعر بعد هذه القصيدة التي يتكشَّف فيها ولع شوقي بالتاريخ: وقائعه وأحداثه وشخوصه، على نحو غير معتاد: كيف استطاع الشاعر أن يؤكِّد وجوده وصبغته الفنية الإبداعية في وجه المؤرخ؟ فبالرغم من احتشاد القصيدة بالوقائع والشخوص، يظلّ الشعر منسابًا ومتدفقًا، ومحلقًا في كثير من المشاهد واللوحات إلى الذرى المعتادة لشعر شوقي في تجلياته العليا، في سائر قصائده، كما رأينا في استهلال القصيدة، وفي لوحته الشعرية البديعة عن فرعون وابنته، وفي اتساع وجدانه المشعّ بالألق النوراني لمشهديْ عيسى وأحمد.

ذلك هو شعر العبقرية.

 

 

فاروق شوشة