د. شاكر الفحام وجان ألكسان


  • وحدة العرب مطلوبة بالصورة الملائمة والممكنة التحقيق.
  • تطور مناهج التربية العربية مشروط بربطها بخطط التنمية
  • التنسيق والتكامل في البحث العلمي العربي يوفران الطاقات المهدورة
  • انحسرت اللغة العربية الفصحى لصالح اللهجات المحكية حتى التدريس
  • مهمات جديدة تنتظر مجامع اللغة العربية وموسوعات التوثيق الشاملة

بعد أكثر من نصف قرن في موقع المسئولية والقيادة الفكرية مازال الدكتور شاكر الفحام عضوا نشطا وفعالا في حقل الثقافة العربية. لقد كان آخر المناصب التي تولاها هو انتخابه رئيسا لمجمع اللغة العربية في دمشق وفي الوقت نفسه مازال رئيسا للموسوعة العربية الكبرى. لذا فإن الحوار معه يقود بالضرورة إلى اتجاهات متشعبة تفرضها تجربته الغنية. وقد شغل الدكتور الفحام منصب وزير التربية في سوريا ثم وزير التعليم العالي بها كما أنه لم ينقطع عن التدريس في جامعة دمشق وعن ممارسة مجاله المفضل في تحقيق التراث. كما أن له دوره السياسي البارز من أجل دعم مبادئ الوحدة العربية. وقد أجرى معه الحوار الكاتب والناقد السوري المعروف جان الكسان.

* في الحوارات التي عقدت معك، كنت تفضل الحديث عن جيلك لا عن نفسك.. فهل نبدأ حوارنا هذا معك بقضية جيلك؟.

- لقد كنت أفضل الحديث عن جيلي لا عن نفسي في القضايا القومية التي تتناول قصة الكفاح العربي في تلك المرحلة القاسية الصعبة من حياة أمتنا العربية، بعد أن وقعت بلادنا فريسة للاستعمار الخبيث الذي نكث بعهوده التي قطعها، واستباح الأرض العربية فمزقها وجزأها دويلات صغيرة، ونهب خيراتها، وفرض عليها الجهل والتخلف، وأقام فيما بينها السدود والحدود، يريد أن يفرض الغربة على أبنائها، ويقطع أوصال الوحدة التي جمعتها، ويفصم العرى الوثيقة التي ربطت بينها على مر التاريخ.

كنت من الجيل الذي نشأ عقب غدرة ميسلون، التي قوض الاستعمار الفرنسي على أثرها الحكومة العربية التي قامت في بلاد الشام (1918- 1920)، وكانت الغطرسة قد استبدت بالغزاة استبداداً دفع قائد الحملة أن يقصد قبر السلطان صلاح الدين الأيوبي ليقول له: "ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين". كنت صبياً يعي ويسمع أنباء الثورة السورية الكبرى التي ضحى فيها المجاهدون أكبر التضحيات، وإذا لم يقدر للثورة السورية الانتصار، فقد غرست البذور الطيبة في نفوس جيلنا الذي آمن بالكفاح مبدأ لنيل الحرية والاستقلال.

وحدة العرب.. والمتغيرات الدولية

* كنت من الداعين لوحدة الأمة العربية. ونرى اليوم أن مفهوم الوحدة بين الأمم والشعوب قد تجاوز الطروحات التقليدية لمفهوم الوحدة العربية (كما في الوحدة الأوربية مثلاً)، فكيف تتصور وحدة العرب في ضوء هذه المتغيرات الدولية، وهل هي ممكنة، أم ستظل مجرد شعار أو حلم تحمله الأجيال العربية المتعاقبة؟..

- لقد آمنت بوحدة الأمة العربية منذ عهد مبكر، وزادتني الأيام إيماناً بأن وحدة الأمة هي ملاذها الآمن وطريقها إلى التقدم والازدهار، ووسيلتها الناجحة لعودتها إلى خضم التاريخ تشارك الأمم مشاركة فعالة في تشييد حضارة الإنسان، فالأمة العربية، بموقعها الفريد، وطاقاتها البشرية، وثرواتها الغنية، ورسالتها الإنسانية وحضارتها العريقة، مؤهلة لتحتل مكانة سامية في الركب العالمي، وتكون عنصراً مؤثراً في صنع حضارة المستقبل، حضارة تقوم على الإخاء والتعاون بين الأمم، والسعي لينعم البشر بالرخاء والخير، ترفرف عليهم رايات السلام والمحبة.

وإني أدرك أن تحقيق هذا الهدف يتطلب نضالاً شاقاً، ويبقى لزعماء العرب وقادتهم المخلصين أن يهيئوا لصنع هذه الوحدة، على الصورة الملائمة الممكنة التي تساعد على تقدم الوطن العربي وازدهاره.

*من خلال تجربتك في ميدان التربية والتعليم، كوزير للتربية، وكوزير للتعليم العالي، وكمشارك في عدة ندوات تربوية: محلية وإقليمية ودولية، ما تقويمك لواقع مناهجنا التربوية بشكل عام، وهل يتحقق على أرض الواقع الآن الشعار المطروح حول ربط مناهج التربية بخطط التنمية؟.

- إذا أردنا أن نتحدث عن التربية من هذه الزاوية المحددة، دون أن نتطرق إلى دورها الكبير الذي تنهض به في تنشئة الأجيال، فإننا نلحظ أن رجال التربية في البلاد العربية قد بدأوا يولون هذا الاتجاه جانباً كبيراً من عنايتهم ويسعون لربط المناهج التربوية بخطط التنمية.

وتحقيق مثل هذا الربط يستدعي كثيراً من الجهد والمتابعة والتبديل.. إنه يتطلب من رجال التربية أن يتبينوا حاجات المجتمع، ويتصوروا ما يمكن أن تفضي إليه حركة التطور المتسارعة لتأتي مناهجهم ملبية لهذه الحاجات والتطورات، وأن يبادروا إلى تعديل خططهم ومناهجهم بها يوائم ما توافيهم به حركة التقدم العلمي من أشياء لم تكن منظورة. فتتحقق للمناهج  بذلك مواكبة العصر والتهيئة للمستقبل معاً.

موظفون.. أم مثقفون؟

* يؤخذ على الجامعات العربية أنها تخرج موظفين يحملون شهادات، لا مثقفين، وذلك بسبب افتقارها إلى البحوث العلمية والعملية، مما يضعف دورها في بناء الدولة العصرية.. ما مدى صحة هذا الاتهام؟.

- إن البحث العلمي هو شعار العصر، وتقدم الأمم رهن بما تحققه في ميدان البحث العلمي، ومن هنا فإن الأمم تتسابق في هذا المضمار، وتهيئ الظروف الملائمة التي تتيح للعلماء أن يتفرغوا للبحث والإبداع.

ولقد بدأت الجامعات العربية والمؤسسات العلمية أولى خطواتها في البحث العلمي، ولكنها مازالت تمضي بخطى بطيئة لا تستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة، وتعترضها عوائق وصعوبات متنوعة، مادية وإدارية.

لا بد أولاً من إيجاد المناخ العلمي بكل متطلباته، الذي يفسح للعلماء أن يبحثوا ويطوروا، ومن الشروط الأولى لنمو البحث العلمي استخدام أحدث وسائل الاتصال التي وفرتها لنا التقنيات الحديثة لتسهيل الاطلاع على حركة البحث العلمي في البلاد المتقدمة، وترجمة أحدث ما يصدر عنها لترفدنا في حركتنا العلمية الراهنة، ثم قيام التخطيط والتنسيق في ميادين البحث العلمي في البلاد العربية حتى لا تكرر الجهود وتهدر الطاقات، ويأتي قيام تعاون بين المؤسسات العلمية العربية في مقدمة الظروف المواتية والمساعدة في تطوير البحث العلمي العربي.

لغتنا الفصحى.. كيف نحميها؟

* الضعف اللغوي، سمة من سمات الثقافة والتعليم هذه الأيام، لدرجة اتهام اللغة العربية الفصحى بنوع من الانحسار لصالح اللهجات المحكية. ما أسباب هذا الانحسار؟ وهل تكفي بعض الزوايا اللغوية في الصحف وأجهزة الإعلام لتدارك هذه المشكلة؟.

- الضعف اللغوي واقع نعاني منه، وقد تضافرت جملة أسباب أدت إلى انحسار اللغة السليمة الفصيحة أمام هجمات اللهجات المحكية التي أصبحت الناشئة تسمعها في أجهزة الإعلام والمسارح والسينما، بل وفي قاعات التدريس، وتميل إلى محاكاتها.

وإذ كانت اللغة مقوماً أساسياً من مقومات الأمة، فلا بد من نهوض المؤسسات الثقافية جميعها بتبعاتها لتكون اللغة العربية السليمة الفصيحة هي اللغة السائدة في وسائل الإعلام والثقافة، ونحن نعلم أن المحاكاة هي من أهم وسائل تعلم اللغة، فإذا رددت اللغة السليمة على السامع، وتداولتها الأقلام، سهل تعلمها، وازدهرت، وسمت أساليبها.

في رحاب بشار بن برد

* أثيرت ضجة في منتصف عقد الثمانينيات حول تحقيق ديوان الشاعر بشار بن برد من قبل الأستاذ محمد الطاهر بن  عاشور، شيخ جامع الزيتونة بتونس، وما قام به الأستاذان: محمد رفعت فتح الله ومحمد شوقي أمين من مراجعة، بحيث ظلت فيه هفوات عزيت إلى ناسخ المخطوط، وهو مخطوط وحيد، وقد عشت أنت في صحبة آثار الشاعر، وأصدرت (نظرات في ديوان بشار بن برد)، ضمن منشورات مجمع اللغة العربية بدمشق، ما حقيقة هذه الضجة والهفوات التي وقعت في الديوان المحقق؟.

- الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور (1879- 1973 م) رحمه الله من أكبر علماء العصر، وقد أغنى المكتبة العربية بمؤلفاته النفيسة، ويكفي أن نذكر كتابه القيم في تفسير القرآن الكريم (التحرير والتنوير) لندرك المكانة الرفيعة التي تبوأها بين علمائنا الأعلام.

ولقد كان له الفضل، رحمه الله، في نشر المخطوطة التي عثر عليها من ديوان بشار، وتضم القسم الأول من ديوانه، وهي مخطوطة يتيمة تمور بالتصحيف والتحريف، فحقق وصحح، وفسر الغامض، وشرح المشكل. وعلق الأستاذان محمد رفعت فتح الله ومحمد شوقي أمين جملة تعليقات نافعة.

ولكن الديوان، على ما بذل في تصحيحه، مازال يفتقر إلى جهود العلماء الأعلام، وقد قدمت جهدي في هذا الباب وعرضت ما قادني إليه اجتهادي، وتخيلت جملة صالحة مما بدا لي أنه زاغ عن الصواب، جعلتها شاهد ما وراءها، ولم أقصد إلى الاستقصاء، وأرجو أن تتضافر جهود العلماء لتنقية الديوان مما أصابه من التحريف والتصحيف.

مهمات جديدة لمجامع اللغة العربية

* تتهم المجامع اللغوية العربية بأنها مجرد هياكل باردة، ولا أثر مباشرا لها في الحياة الثقافية، بل إن أعمالها تقتصر على تحقيق بعض المخطوطات، وإصدار مجلة دورية يقتصر تداولها على النخبة.. ماذا تقول في هذا؟.

- لكل مؤسسة من المؤسسات العلمية والثقافية مهمات خاصة تناط بها، ورسالة محددة تؤديها، وأبرز مهمات المجامع اللغوية: المحافظة على سلامة اللغة، وجعلها وافيه بمطالب الآداب والعلوم والفنون، تستجيب لحاجات الحياة المتطورة، ثم العناية بوضع المصطلحات العلمية والفنية والأدبية والحضارية، والاهتمام بإحياء تراث العرب في العلوم والفنون والآداب. وعندما أسس مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1919م كان له الشأن الأكبر في تعريب دواوين الدولة التي كانت لغتها التركية، وفي إرساء دعائم تعريب التعليم العالي الجامعي بالتعاون مع أساتذة الجامعة السورية، فنجحت الجامعة في التعليم بالعربية، وأثبتت طواعية اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن كل ما يراد منها من مستحدثات العصر أو متطلبات العلوم.. ومن غير الجائز ألا تقدر هذه الأعمال حق قدرها لأنها لا تقع ضمن دائرة الإعلام، وإني أرى فرصة ثمينة لعمل واسع جليل أمام المجامع بعد أن أصبحت فكرة التعليم بالعربية في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في البلاد العربية مقبولة، وأحب أن أشير إلى أنه تم هذا العام إنشاء مجمعين عربيين جديدين في السودان وفي تونس.

الجوائز.. والحوافز

* الحديث عن نيلك جائزة الملك فيصل يقود إلى السؤال عن جدوى الجوائز التي كثرت، ونوعيتها، حتى أن أشخاصا عاديين يملكون أموالاً، أو مؤسسات خاصة لا علاقة لها بالثقافة، تعلن عن جوائز للأدب والفكر والعلم والثقافة..

- لايزال قادة الفكر والعلم والثقافة في الوطن العربي لا يلقون من الاهتمام والرعاية ما يستحقون، ولست أنكر أن شيئاً من التشجيع قد ظهر على الساحة في الآونة الأخيرة، وأجد في ظاهرة الجوائز الجديدة بادرة طيبة تعبر عما يحسه المجتمع من تقصير إزاء المفكرين والعلماء والأدباء والفنانين وأمثالهم من المبدعين، علماً بأن لكل جائزة مستواها وشروطها وتحكيمها.

الموسوعة العربية الكبرى

* في دمشق مؤسسة هي (الموسوعة العربية الكبرى) تعمل برئاستك.. ما مهام هذه الموسوعة، وما الغرض من إنشائها؟..

- أصبحت الموسوعات العامة الشاملة، والموسوعات المتخصصة، معلماً بارزاً من معالم حضارتنا الحديثة، وإنجازاً ثقافياً من أهم منجزاتها، ذلك لأن العصر الحديث- وهو عصر التخصص الدقيق الضيق وعصر تفجر المعرفة وتدفق المعلومات وتنوعها- قد أصبح أشد حاجة إلى الموسوعة وأكثر تطلباً فيما ينشده من المعرفة، إنها تحمل إليه ثقافة العصر بكل جوانبه واهتماماته، وتضع بين يديه خلاصة ما انتهى إليه التقدم الإنساني في جميع ميادين المعرفة.

ولقد شعر العرب، منذ أشرق فجر النهضة العربية الحديثة بحاجتهم إلى موسوعة عربية شاملة تلبي مطالبهم في المعرفة، وقامت محاولات جادة في هذا السبيل منها: دائرة المعارف لبطرس البستاني، ودائرة معارف للقرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) لمحمد فريد وجدي، وصدرت بعد ذلك الموسوعة الموسوعة العربية لألبرت الريحاني وزملائه، ودائرة المعارف لفؤاد البستاني والموسوعة العربية الميسرة، وموسوعة بهجة المعرفة، وهذه الموسوعات العامة الشاملة، وكلها صدر بالعربية، قسم منها لم يقدر له التمام، والقسم الآخر قصر عن أن يكون في المستوى المطلوب.

أما موسوعتنا الجديدة في دمشق فأبرز منطلقاتها أن تكون موسوعة عربية شاملة، تتناول مختلف جوانب المعرفة الإنسانية وتقدم خلاصة ما انتهى إليه التطور العلمي العالمي، وأن تلبي حاجة الناشئة العربية المتزايدة للعلم، وأن تتصف بالدقة العلمية الموضوعية، وأن تتوخى حداثة العصر، وأن تبرز صورة صادقة لحضارة العرب في عصورهم الزاهرة، وتبين مدى  المشاركة العربية المبدعة في الحضارة الإنسانية..

ومن المقرر أن يصدر المجلد الأول من الموسوعة في هذا العام إن شاء الله.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




د. شاكر الفحام





جان ألكسان