حتى لا تموت فاطمة مرة أخرى محمد الرميحي

حتى لا تموت فاطمة مرة أخرى

حديث الشهر
تأملات وأحزان بعد ثلاث سنوات من التحرير

سوف أحدثكم عن فاطمة، فرغم مرور سنوات ثلاث على مرارة الغزو وفرحة التحرير لم تترك ذاكرتي.

لم تكن فاطمة عبدالقادر الفتاة التي تهتم بما يخبئه المستقبل، فهي وقد تفتحت عيناها على حياة سهلة، توفر لها - ما توفر لأقرانها - في كويت الستينيات من دعة واستقرار وأمل بالمستقبل. فها هي تلتحق بالمدرسة منذ السادسة وتنتقل من فصل إلى آخر في سهولة ويسر، يؤهلها لذلك ذكاؤها فوق المتوسط، وعندما اجتازت إلى الجامعة كانت شعلة متوقدة من النشاط في اتحاد الطلبة، وتحول هذا النشاط بفيض من نفس مرهفة إلى بعض الجمعيات الخيرية. وجدت نفسها تهتم بالجانب الأضعف من المجتمع والمعوقين على وجه الخصوص، ولم تجد أن هناك تناقضا بين عملها كمدرسة للغة الإنجليزية وبين نشاطها الاجتماعي، بل لقد يسرت لها الوظيفة والراتب الذي لم تكن تحتاج منه الكثير أن تكون أكثر نشاطا في المجال الاجتماعي، لم تفكر بالزواج، لأنه قادم ولا شك، كانت فقط تنتظر الرجل المناسب. فوق ذلك كله فإن نشاطها في الجامعة وما قبلها وحتى في جمعية المعلمين التي انضمت إليها بسبب عملها لا غير.. كان كل ذلك بعيدا عن السياسة، وفجأة وجدت نفسها وسط أتون السياسة.. بل وفي الجانب المظلم والمعتم منها.

فقد استيقظت في اليوم الثاني من أغسطس 1995 على حركة غير عادية لم تتبين كنهها. وكعادتها في صباح الإجازة كانت تذهب إلى الجمعية الخيرية التي تقضي فيها وقتها الصباحي، وفي الطريق استرعى انتباهها على غير العادة طابور من السيارات، غير السيارات التي اعتادت أن تراها كل صباح، ذات لون بني لم تألفه على السيارات العسكرية، لم تكن فاطمة وقتها تفرق بين ناقلة الجنود أو العربات المصفحة كانت فقط تعرف شكل الدبابات لكثرة ما شاهدتها في الأفلام الحربية التي تعرضها الشاشة الصغيرة، لم يسعفها ذكاؤها لتتبين ما يحيط بها، حتى وصلت إلى قرب أحد مداخل المدينة فاستوقفتها ثلة من الجنود، أحست لأول وهلة أنهم جنود من وطنها وتكلم أحدهم بلهجة آمرة أن تعود من حيث أتت، وتبينت من تلك اللهجة أنها.. عراقية.

منذ تلك اللحظة وقد أفاقت فاطمة عبدالقادر على وعي جديد بأن وطنها محتل، وأنها أمام خيارين أحلاهما مر، أن تخضع للاحتلال وتعيش تحت الخوف المضاعف الذي يفرضه على نفسها وأسرتها المكونة من والد ووالدة طاعنين في السن، وأخوات وإخوة يعيشون متناثرين في أحياء المدينة، أو تترك بيتها ووطنها إلى أرض أخرى.

بعد مراجعة للنفس قررت فاطمة أن تأخذ منحى آخر.

لن تعرض أسرتها وأخواتها لخطر لا تستطيع رده، ولن تغادر وطنها أيضا، ولكنها سوف تقوم بالدور الذي يفرضه عليها إحساسها بالواجب الإنساني، وانخرطت بعد أيام من احتلال وطنها، وبعد مرور الصدمة الأولى، في مجموعة من الأصدقاء والصديقات من أجل المقاومة، ليست السلبية فقط وإنما الإيجابية أيضا، فبعد تشاور مع الأصدقاء ومعرفة ردود الفعل التي كانت تأتي من الخارج بدا كأن العالم كله يصحو من الذهول عربا وأغرابا، وأن بلادا مسالمة وصغيرة كبلدها لا يمكن أن تلغى من الجغرافيا والتاريخ بنزوة ديكتاتور متسلط، وتتراكم في الأجواء نذر مقاومة على المستوى الدولي والإقليمي وفي الجوار.

بدأت فاطمة مقاومتها بطريقتها الخاصة، وهي أن تواصل عملها الإنساني تجاه المعوقين الذين التزمت برعايتهم. كان الموقف مرعبا.. فقد رحل معظم الأطباء والممرضين وانقطعت إمدادات الأدوية والغذاء، وبدت هذه المخلوقات غاية في التعاسة، فقد تخلى عنها كل الذين تعودت أن تعتمد عليهم.. فهي لا تستطيع أن تطعم نفسها.. أو تنظف نفسها.. وتولت فاطمة هذا الأمر هي ومجموعة من صديقاتها.. بدأت تنقل الطعام والأدوية وأدوات التنظيف.. وتداوم الاتصال بالأطباء وتحافظ على الإنارة والمياه وتدفع الجنود العراقيين المتلصصين وتخبئ كل ما تعتقد أنه جدير بالسرقة بواسطة جنود الاحتلال.. كان هاجسها الأساسي هو ألا تدع هؤلاء المعوقين يذوون من الإهمال ويدفنون في صمت عجزهم. وفي الأسبوع الأول من أكتوبر 1990 أوقفتها مجموعة تفتيش حول أحد المحاور، واكتشفوا معها كمية كبيرة ومتنوعة من الأدوية والأطعمة المحفوظة. وكان أول ما تبادر إلى أذهان الجنود أنها تنقل هذه الأشياء لرجال المقاومة، لم يقبلوا منها أي عذر، ولم يقتنعوا بأي مبرر، وكانت الأدوية في نظرهم لا تقل خطورة عن الأسلحة المهربة. وهكذا اقتادوها إلى أحد مراكز الاعتقال، ولا بد أن التحقيق كان قاسيا ومريرا.. فبعد ثلاثة أيام أخذوها إلى منزلها وهي بين الحياة والموت، ودعوا أبويها وجيرانهما إلى الخروج من المنزل.. وعلى مرأى منهم ومن بقية أهالي الحي شدوا فاطمة بملابسها الممزقة إلى أحد أعمدة النور، وتقدم ثلاثة من الجنود ومزقوا جسدها بالرصاص تحت أعين الجميع.

كان الجميع شهودا على مجزرة هذه الفتاة.. وكانوا يعرفون كيف بذلت من ذات نفسها من أجل الآخرين، لذا كانت قتلتها مروعة مثيرة للفزع والخوف.

العراق ونزيف الخسائر

لماذا أتذكر هذه القصة الآن، ولماذا سوف أظل أتذكرها..؟.

ليس فقط لمجرد إثارة العاطفة أو للتباكي على مصير هذه الفتاة التعسة التي تولاها الله برحمته، ولكن لأن حكايتها هي تجسيد حي لمرض الاحتلال.. اغتصاب أراضي الآخرين وبيوتهم تحت وطأة الاحتلال.. وهو مرض يشوه الجميع ويصيب برذاذه القاتل أعماق النفس الإنسانية. فكل الفظاعات التي ارتكبها جنود الاحتلال، سواء أثناء الحكم النازي أو في الأراضي العربية المحتلة أو أثناء الغزو العراقي للكويت، تجعل الجنود يتصرفون بوحشية أكثر من حد احتمال النفس البشرية. وبعض الجنود يظلون يعانون من كوابيس هذه الأعمال لفترات طويلة.. وهكذا نجد أن الجلاد وضحيته في حاجة - معا - إلى العلاج، فالإحساس بالذنب والخوف المبالغ فيه من الضحية. وإحساسه بأنه قد تحول إلى قوة قاهرة تنزع الأمان عن الآخرين. كل هذا كفيل بأن ينزع الأمان من نفس المحتل ويحول تصرفاته إلى أشبه بالتخبطات الحيوانية بعد أن افتقدت المنطق الإنساني.

ولن نستطيع تجنب تكرار مثل هذه المآسي إلا بتحكيم العقل وتوجيه النقد القاسي إلى النفس قبل أن نوجهه إلى الآخرين. ولعلنا نتساءل - حتى لا يحدث ما حدث مرة أخرى- ما الذي دفع النظام العراقي للقيام بالغزو؟.. إنه سؤال لا يبدو قديما كما يتبادر إلى الذهن.. فقد تكشفت الصورة الآن، وزالت كل مبالغات الانفعال لتترك الفرصة للحقائق الباردة كي تعبر عن نفسها، هل كانت حقا دوافعه هي ما زعمه النظام من أن الكويت - وبقية الخليج - قد زادوا من إنتاجهم النفطي بحيث أوصلوا أسعار النفط إلى الحضيض؟. وهل كان هدف النظام - كما زعم - هو إعادة توزيع الثروة؟.

قبل وقوع الاحتلال مباشرة، أوردت وكالة رويتر تقريرا مهما عن خسائر العراق في الحرب العراقية الإيرانية، وكانت جملتها حوالي 150 بليون دولار، ثمن الأسلحة والذخائر، وبلغ الاقتراض العراقي الخارجي "غير العربي " 35 بليون دولار، ومثّل الاقتراض العربي من السعودية والكويت رقما مماثلا.

وكان على العراق أن يغطي ذلك الثمن الباهظ الذي تستهلكه آلته العسكرية، لذلك فقد قرر أن يرفع مستوى إنتاجه النفطي إلى أعلى سقف ممكن للإنتاج، وقد أعطته الأوبك حصة عالية تبلغ 8 ر 2 مليون برميل يوميا تحت مبرر احتياجاته الشديدة، ولكن الطاقة التصديرية العراقية وقتها كانت تصل إلى الضعف تقريبا وتتراوح بين 4- 4.5 مليون برميل يوميا، وفي ظل هذا السباق المحموم للإنتاج هبطت الأسعار إلى أدنى مستوى لها.

وبعد انتهاء الحرب مع إيران واجه العراق أزمة من نوع جديد، هي عودة آلاف المجندين وتوقف عمليات التنمية وهروب الاستثمارات الأجنبية، وكان التحدي الذي يجب أن يواجهه هو إحداث نقلة نوعية في إدارة الاقتصاد تكفل له حسن استخدام الموارد، بحيث تنتقل الدولة من الاقتصاد العسكري إلى المدني، ولكن هذا الأمر لم يكن مقبولا من وجهة النظر السياسية، فقد كان مطلوبا لتحقيق ذلك نوع من الانفتاح السياسي والتعددية وتخفيف قبضة الديكتاتورية بحيث يمكن كسب ثقة المستثمرين الخارجيين وأن يستعيد القطاع الخاص عافيته، وكل هذا يعني في نهاية الأمر فقدان السلطة على حد تصور النظام الحاكم، وكان هذا هو المستحيل بالنسبة له.

وليست الحرب فقط هي التي أحدثت كل هذه التشوهات في بنيان الاقتصاد العراقي، فالنظرة الأحادية للديكتاتورية جعلت كل الاحتمالات تسير في الاتجاه اَلْخَاطِئ بحيث دفعت البلاد إلى حافة الهاوية.

فقد كان عدد سكان العراق عام 1970 حوالي 9.5 مليون نسمة، وارتفع حسب إحصائيات 1987 إلى أكثر من 16 مليونا بزيادة قدرها 3.3 - 3.5% سنويا وهي واحدة من أعلى النسب في العالم، وكان جزء من الدوافع وراء هذه الزيادة سياسيا، فقد شعر النظام أن كبر حجم السكان هو الاتجاه الأفضل لتلقيم ماكينة الحرب، وكأن القضية في نهاية القرن العشرين هي قضية عدد وليس نوعية، وتحول الأمر من منع تعدد الزوجات بموجب قانون إلى إباحة هذا الأمر وتحبيذه بواسطة قانون آخر.

وفي مواجهة هذه الزيادة في عدد السكان لم يكن في خطط النظام العراقي أي نية لتطوير الإنتاج أو تنويع النشاط الاقتصادي، بل إن المؤسسة العسكرية لعبت دورها المدمر في إهدار الطاقات العراقية، حيث أفرغت الطاقات المؤهلة بالتعليم من كفاءتها وقدرتها على كسب المهارات وشنت الحروب غير المبررة كي تقضي عمليا ونفسيا على ملكات التعلم المهني لدى الأفراد.

وهكذا نمت في نحيلة النظام العراقي أوهام أوصلته إلى أن دخوله الكويت هو الحل الوحيد لكل مشاكله المتفاقمة، أو أنه البديل الواقعي للأزمة الاقتصادية والسياسية الطاحنة التي يواجهها، حتى أن سعدون حمادي نائب رئيس الوزراء العراقي في ذلك الوقت تحدث إبان الاحتلال العراقي للكويت عن "القدرات الاقتصادية الهائلة التي أصبح العراق يمتلكها بفضل الاحتلال".

هكذا بدأت الكارثة بمثل هذه التخيلات المرَضية.. وتواصلت وراء الإصرار الأعمى من دمار البنية الأساسية إلى حريق النفط إلى نزيف البشر دون أي مراجعة للنفس حتى هذه اللحظة. ولن أركز هنا على الخسائر المادية التي منيت بها الكويت وهي كثيرة، ولا الخسائر النفسية والاجتماعية التي أصيب بها أفراد الشعب وهي جسيمة، ولكن لنر المسألة في إطارها الأوسع في تلك الخسارة الاقتصادية والسياسية التي أصابت معظم البلدان العربية بسبب هذا الغزو.

العالم العربي وخسائره الباهظة

تفيد تقارير صندوق النقد الدولي أن خسارة البلاد العربية من جراء الاحتلال العراقي للكويت بشكل مباشر أو غير مباشر تفوق قيمتها 650 بليون دولار، أو ما يكفي لبناء 250 مليون منزل تسع ملايين الأسر العربية، وهذا المبلغ يعادل قيمة كل الأموال العربية المستثمرة في الخارج.

لقد أدت هذه الخسائر إلى تداعيات كثيرة دفعت الأوضاع الاقتصادية إلى الوراء وخلقت في البلاد العربية ضغوطا مالية أدت إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي بشكل عام والاستثماري بشكل خاص، وأصبحت المنطقة العربية بالنسبة إلى العالم الخارجي وفق المنطق الاستثماري منطقة "ذات مخاطر" والتنمية فيها غير مأمونة، ووُضعت ظلال من الشك حتى على العملة العربية حيث بدأت بعض البنوك وأسواق المال العالمية في التحفظ على التعامل بها.

وقد تأثرت دول بعينها بأيام الاحتلال الطويلة، فحسب تقرير البنك الدولي فإن مصر وحدها قد انخفضت مواردها من النقد الأجنبي عام 1991 بنسبة 30% دفعة واحدة من جراء فقد التحويلات النقدية الخارجية، بجانب انخفاض إيرادات السياحة وقناة السويس.

وقد بلغ إجمالي خسارة مصر ولبنان والأردن وسوريا وفلسطين المحتلة حوالي 4.2 بليون دولار، بسبب عودة مليوني عامل إلى بلادهم من النشطين اقتصاديا، فما بالك بالعدد الكلي للعائلات المختلفة.

هذا هو الجانب المنظور فقط من الخسارة، غير أن هناك جوانب أخرى غير قابلة للحساب والتقدير، فقد اهتز هيكل النظام العربي، وأصيبت العلاقات العربية - العربية إصابات مباشرة، وحلقت في سماء المنطقة ظلال الشك والتخوف والحذر، ولقد كشفت أزمة الخليج ضمن ما كشفت عن هشاشة النظام الأمني العربي وطفولة اتخاذ القرار السياسي المصيري، وجعلت المنطقة برمتها نهبا لأطماع الآخرين.

ماذا أخذت التجربة من الكويت؟

ربما كان هذا رصدا مطولا لنزيف الخسائر الذي ما زال مستمرا، وكان من الممكن أن نتجنب مثل هذا الرصد المؤلم لو أن خالقي الأزمة والمتسببين فيها قد راجعوا أنفسهم ووجهوا إليها بعضا من النقد الذاتي، وكان من الممكن الرثاء لحالة العراق الذي ما زال يعيش تحت حالة الحصار لولا إصرار قادة نظامه على ممارسة نفس الأساليب الديكتاتورية الشرسة، فهو ما زال حتى الآن لا يعترف بوجود الأسرى الكويتيين لديه، قبل ذلك لم يعترف أيضا بوجود الأسرى الإيرانيين، كأنما لا يكفيه ملايين العراقيين المعتقلين تحت قبضته، وما زال يراوغ في الاعتراف بترسيم الحدود العراقية / الكويتية الذي أقرته الأمم المتحدة، وما زالت التضاريس العراقية وشعاب الجبال تكشف عن المزيد من مَخَابِئ الأسلحة الكيميائية.. وبالتالي ما زال الحصار متواصلا.

وإذا كنا قد ألقينا هذه النظرات المطولة على كل ما يحيط بهذه الأزمة وملابساتها التي ما زالت آثارها مستمرة، فإن الحديث يستلزم أيضا نظرة مطولة وتحليلية على البيت الكويتي من الداخل، وعلى آثار الأزمة وتداعياتها. إنها آثار بعضها واضح غاية الوضوح وبعضها رابض تحت الجلد الكويتي الذي التهب وسط أتون الأزمة، وما زال يعالج جراحها حتى الآن.. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه الآن على الجميع هو: ماذا أخذت منا التجربة.. وماذا أبقت؟.

سؤال حائر يدور في أذهان أهل الكويت بعد سنوات ثلاث من عمر التحرير. ودائما ما تبقى هذه الأسئلة التي تتعلق بالمصير والهوية والانتماء تحيط بها الحيرة. فهي ترسم ملامح الكويت - الدولة، والكويت - الانتماء، والكويت - الناس. وكل ملمح من هذه الملامح يثير إشكالية خاصة.

فالكويت - الدولة تعودت دائما أن يكون دورها السياسي أكبر من حجمها الجغرافي. وما يحدث الآن هو محاولة لتقويم طموح هذا الدور إزاء واقعية الحجم والبحث عن الخطأ الكامن في نسبة المبالغة في هذا الأمر. وكما قال سمو أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح في إحدى خطبه: "لكي تكون خطواتنا نحو أهدافنا ثابتة، فعلينا أن نتوخى الواقعية، وأن ندرك حجمنا، وأن تكون طموحاتنا في حدود قدراتنا حتى لا نصاب بخيبة أمل، وأن تكون تطلعاتنا في حدود إمكانياتنا حتى لا نشعر بالإحباط، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه". فهل تعود الكويت إلى زمن الدولة - الديرة حيث كانت الأمور أكثر بساطة وأقل تعقيدا؟ أم عليها أن تظل تمارس الدولة - الدور بكل ما يحمله هذا الأمر من تبعات؟.

والكويت - الانتماء عملت دائما على أن تكون وسيطا وعاملا مهدئا بين كل الخلافات العربية - العربية، التي كثيرا ما تثور ونادرا ما تهدأ. وها هي الآن تجد نفسها رغما عنها طرفا في واحدة من أشد هذه الخلافات مرارة. فهل يمكن أن تضمد جراحها وتعلو على آلامها وتعود إلى زمن التوازن مهما كان حرجا.. وكيف يتأتى لها أن تتجاهل أنه على حدودها الشمالية يربض جار حانق وطامع لا يريد أن يستمع إلى صوت العقل رغم كل ما أريق من دماء وما أحترق من آمال؟.

والكويت - الناس ألفت ريح الديمقراطية مهما كانت لافحة، فلا يكفي ذلك البرلمان الذي أقرته جموع الناخبين تحت اسم مجلس الأمة، ولكن تجربتها الديمقراطية تمتد إلى عشرات البرلمانات الصغيرة التي تأخذ كل ليلة شكل "الديوانيات"، ويكون للمناقشات التي تدور فيها نفس التأثير الذي يحدثه البرلمان الكبير على صانع القرار.. وفي كل هذه المنتديات لا يطرح الناس أسئلتهم حول مؤسسات الدولة الحاضرة فحسب، ولكن النقاش يمتد أيضا ليشمل كل المؤسسات المستقبلية التي كان طموح الكويت أن تنفذ من خلالها إلى عالم الغد.

فهل يمكن أن تتنفس الكويت ريح الديمقراطية الطيبة دون أن تحرق أصابعها في رمضائها المحرقة؟.

أسئلة حائرة.. الإجابة عنها لا تبتغي الراحة المؤقتة أو اليقين الزائف بقدر ما تسعى إلى سبر أغوار الحقيقة، مهما كانت قاسية على النفس.

الكويت تغيرت

هل تغيرت الكويت كثيرا؟ وهل استطاعت أن تستعيد ملامحها القديمة؟.

سؤال أواجهه كلما سافرت إلى الخارج في مؤتمر أو ندوة علمية، وهو سؤال يحمل أحيانا نوعا من محاولة الاطمئنان، وأحيانا يكمن في طياته نوع من التشفي الخفي. وتكون الإجابة بعد ثلاث سنوات من الغزو: "لقد تغيرت.. ولم تتغير.." لأنه لا شيء يعود لسابق عهده القديم.

في كل مكان بالكويت يوجد شعاران.. الأول هو شعار فرحة التحرير "الكويت حرة"، والثاني شعار ما زال يعبر عن آثار الحزن الإنساني الذي ما زال باقيا هو "أين أسرانا؟".. وما بين الشعارين تعيش أزمة من انعدام الثقة لا يبدو أنها سوف تنتهي بسهولة.

فعلى المستوى الخارجي ما زال النظام العراقي يواصل تهديداته واختراقاته للحدود. ولاتزال أصداء أجهزته الإعلامية تصم آذان أهل الكويت وأشقائهم العرب وعلى امتداد الساحة الدولية تؤكد أطماعها وتواصل تهديدات العودة إلى الغزو من جديد.. آلة جهنمية مشحونة بكل نوايا الشر والعدوان موجهة ضد شعب صغير ورقعة ضيقة من الأرض تحاول أن تنزع أمنها الخاص ليلا ونهارا.

وعلى المستوى الداخلي هناك افتقاد لروح العمل الجاد الذي ولدته ظروف الاحتلال في نفس الإنسان الكويتي. فخلال هذه الأيام العصيبة لجأ آلاف من الكويتيين إلى العمل اليدوي، وبرزت بينهم درجة عالية من روح التعاون والاندفاع إلى العمل التكافلي والتطوعي، وكان الهدف الأساسي من وراء هذا هو الإبقاء على درجة "تشغيل" الدولة والدفاع عن الوجود والبقاء ضد محاولات التغيير والطرد إلى الخارج. إن هذه الروح التي كانت طفرة ونقطة أساسية قد ربطت تلك الأجيال الحالية بروح الماضي البعيد عندما كان أهل الكويت ينزعون رزقهم من ركوب الخطر مسافرين بعيدا في مراكبهم الشراعية أو غوصا في أعماق الخليج.

هذه الروح مهددة بالضياع. وفي ظل مشاعر الخوف والتوتر تمتد آثار الصدمة كي تقضي على كل ما هو إيجابي والذي يمكن أن تخلفه أي تجربة إنسانية مهما كان ثمنها فادحا.

ولا يمكننا إنكار أن المستوى الاقتصادي الذي تعوّد عليه أهل الكويت والوافدون بها قد تغير بعض الشيء، فبالإضافة إلى فاتورة الحرب الباهظة، وكلفة إعادة البناء فإن إنتاج النفط لم يعد بعد إلى مستواه الطبيعي قبل الغزو، ولم تعط الأسعار المردود المتوقع منها، ولكل هذا تأثيره الحاد على عمل الدولة وعلى نظرتها للمستقبل. إن تقرير صندوق النقد الدولي يدعو الكويت إلى تخفيض الرواتب وزيادة أسعار الوقود ووضع أسعار للخدمات التي تقدمها الدولة بالمجان مثل الصحة والتعليم والاتصالات، ولكن الحكومة لا تريد أن تلجأ إلى هذه الوسائل الآن، على حد التعبير القائل "إننا نستطيع أن نقتطع من الدهن، ولكن كيف يمكن أن نمس العظم؟ "، وهذا ما دعا سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح إلى اتخاذ إجراءات فعالة قال عنها: "لقد تم تكليف الجهات المختصة بإعداد دراسة وافيه للوضع الاقتصادي في البلاد لمواجهة العجز في ميزانية الدولة مع مراعاة الظروف المعيشية لأصحاب الدخل المحدود، ولإنعاش الاقتصاد الوطني واسترداد عافيته".

فهل يمكن أن نعود مرة أخرى لنجيب عن سؤال: هل تغيرت الكويت؟.. إنها نفس "الديرة" العزيزة ذات التوجه العربي الأصيل. ولكنها تعاني من جروح عربية كثيرة وهي تحاول أن تتغلب عليها، وربما تستطيع خلال هذا أن تعيد اكتشاف نفسها وأن تواصل الإجابة عن الأسئلة الصعبة المطروحة عليها.

ريح الديمقراطية الساخنة

تطرح الديمقراطية نفسها كقضية ساخنة على الساحة الكويتية.. وفي كل الأوقات كانت هذه التجربة تكتسب سخونتها من حرارة الجو ومن الاختلاف في الآراء والاجتهادات في الرؤى.. ولكن من يراقب تجربة مجلس الأمة الحالي الذي يحمل الرقم سبعة والذي تم انتخابه منذ أكثر من عام تقريبا يكتشف أن درجة السخونة بالغة الارتفاع هذه المرة.

إنها مسيرة طويلة أخذت جذورها من تراث الحكم العربي الرابض في هذه المنطقة. وإذا كنا نتمسك أحيانا بالمصطلح الغربي الذي يتحدث عن حكم الشعب بالشعب، فإن الديمقراطية في الكويت تستمد الكثير من أصولها من مبدأ الشورى الإسلامي. وهو الأمر الذي يبرر كثيراً عوامل نشأتها.. وربط يوضح أيضا الدروب التي سارت فيها فيما بعد.

ففي أتون محنة الغزو العراقي للكويت وبين أخبار تحركات الجيوش والأساطيل وصرخات القتال برزت الديمقراطية كقيمة أساسية ومستقبلية أيضا. فعلى مدى يومين وفي الفترة من 13 إلى 15/10/1990 اجتمع ما يزيد على 450 شخصية قيادية كويتية، فكرية واجتماعية واقتصادية وإدارية، في مؤتمر شعبي في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، ليعلنوا تمسكهم بالشرعية الدستورية وليضعوا معا تصورا لبناء كويت جديدة.

كان هذا المؤتمر الذي عقده الأمير وولي عهده مع هذه الشخصيات الكويتية المختارة بمثابة عقد جديد، يعيد إحياء كل التعاقدات السابقة التي أبرمت بين حكام الكويت وشعبها.. يعلن الأولون تمسكهم بطريق الديمقراطية والشورى، ويؤكد الآخرون تمسكهم بالشرعية والدستور. ويعود هذا التقليد إلى حوالي 70 عاما إلى الوراء مع بذور الديمقراطية الأولى، عندما تنادى كبار التجار والأعيان في الكويت في فبراير من عام 1921 إلى اجتماع للنظر بشأن المشاركة الشعبية في إدارة شئون بلادهم، لقد أصدروا وثيقة أشبه "بالماجنا كارتا" الإنجليزية تحدد هذه العلاقة بين الأمير ورعيته، وتمخض عنها قيام أول مجلس للشورى عام 1921 وتبعه قيام المجلس التشريعي عام 1938، ثم تلته التجربة الديمقراطية الحديثة.

هذا التقليد الكويتي أثبت أنه ما زال مرعيا حتى وسط أحلك الظروف. وهو اليوم يؤكد نفسه من خلال هذه المناقشات الساخنة التي تتعرض لتداخل السلطات ومحاسبة الوزراء ومناقشة الاستثمارات الكويتية في الخارج. ومهما شطت هذه المناقشات فقد أثبتت تجربة الطائف أن أساس فكرة الشرعية الدستورية راسخ في أعماق النخبة الكويتية، وأن مبدأ تبادل الحوار - ولو كان ذلك بالصراخ أحيانا - له إقراره في ضمير الحاكم والمحكوم لأنهما أسرة واحدة.

جرح العلاقات العربية

"لقد حطموا الجامعة العربية، وزادوا الفرقة، وأبعدوا المصالحات. وقبل أي مصالحات كان يجب أن نحل مشاكلنا ولم نفعل شيئا من ذلك حتى الآن".

هذه بعض كلمات الشيخ صباح الأحمد النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الكويتي، وأقدم وزير خارجية عربي. لقد عاش الرجل كل المحن العربية وكان عاملا للوساطة في معظمها، ولكن محنة الوطن الكويتي كانت أمرها على النفس، لأنها حولته إلى طرف متشابك لا يقدر كرّ الليالي على مداواة جروحه.

فلم تشق قضية الكويت الوطن العربي فقط، ولكنها شقت المنطق العربي والعقل العربي أيضا. فلم يتعرض العرب في تاريخهم الحديث إلى قضية بهذا الوضوح والحسم، ومع ذلك لم تكثر البلبلة والشكوك والاختلافات حول قضية مثلما كثرت حول هذه القضية.

ومشكلة الكويت أن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس، فقد اكتشفت أن العديد من الدول العربية التي طالما وقفت معها في نفس الخندق أصبحت تقف ضدها، وأصبح عليها أن تضع تسمية جديدة للوطن العربي تقسمه إلى نصفين: نصف الـ "مع "، ونصف "الضد". وهي تسمية لم يرض عنها الكثير من المثقفين الكويتيين الذين كانوا يودون بشدة عبور نفق الأزمة المظلم، ولكن أحدا لم ينر شمعة هادية حتى الآن.

لقد كانت أصوات الشعب الكويتي والإدارة الكويتية متشددة في أول الأمر، كانت تصر على أن تقدم كل دول الضد اعتذارا رسميا وواضحا عن كل مواقفها إبان الأزمة، وفي وقت لم يقدم فيه أي من الأطراف نقدا ذاتيا، فما بالك بالاعتذار؟.

بعد ثلاث سنوات خفت حدة التشدد، وبدأ البحث عن معايير موضوعية لعودة هذه العلاقات، فقد طالبت الحكومة الكويتية هذه الدول التي اختلفت عنها بالاعتراف فقط بكل القرارات السبعة والعشرين التي أصدرتها الأمم المتحدة، بما في ذلك قرار ترسيم الحدود بينها وبين العراق. وقد عبّر عن هذا الموقف سمو ولي العهد مرة أخرى عندما أكد أن الكويت قادرة على تجاوز مواقف هذه الدول التي انحازت للنظام العراقي "إذا أكدت تأييدها ودعمها لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالعدوان العراقي الآثم على الكويت بما في ذلك القرار رقم 833 الخاص بترسيم الحدود الكويتية العراقية، وطالبت العراق بالتنفيذ الكامل لجميع تلك القرارات وإطلاق سلاح الأسرى والمرتهنين الكويتيين، أما أولئك الذين ما زالوا على تأييدهم الأعمى للنظام العراقي ضد الكويت رغم انكشاف حقيقته العدوانية وثبوت بطلان مزاعمه، واتضاح طبيعته الإجرامية، فإن الشعب الكويتي لن ينسى إساءتهم ولن يتجاوز مواقفهم المشينة". والكويت عندما تفعل ذلك لا تطالب فقط بالحق الذي أقرته أكثر من 150 دولة من دول العالم، ولكنها تسعى أيضا لتضميد الجراح العربية التي طال نزيفها، فهي تدرك أنها جزء من هذه الأمة.. جزء من "غزية" رشدها بعض من رشد هذه الأمة، أما الغواية فإن ثمنها يكون دائما باهظا.

فاطمة.. وبقية "الفواطم"

فاطمة الكويتية العربية يجب ألا تُغتال مرة أخرى. لا في الكويت ولا في أي عاصمة أو مدينة أو قرية عربية. وعلينا أن نتعامل مع خلافاتنا العربية بوعي وعقلانية حتى لا يتكرر هذا الأمر، وحتى نوقف الاغتيالات اليومية التي تتعرض لها "فواطم" الأرض الفلسطينية المحتلة وفواطم الشعب العراقي. هاجس الكويت أنها عربية ولها دور عربي مصرة عليه، وراغبة فيه، وساعية نحوه، وهي على استعداد لأن تتحمل أعباء هذا الدور ولكنها تطالب الآخرين أيضا بأن يساهموا معها في رفع الأحمال العربية.. وما أثقلها.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات