ثورة الاتصال والمجتمع نبيل الجردي

ثورة الاتصال والمجتمع

تلعب المعلومة الآن نفس الدور الذي لعبته الآلة في الثورة الصناعية، بل إنها تضاهي أقوى الصناعات لأنها تخاطب العقول وتساهم في صنع القرارات، وهي بذلك تصنع ثورة جديدة هي ثورة المعلومات.

منذ آلاف السنين اعتمد الإنسان واعتمدت المجتمعات البشرية في تواصلها مع الآخرين على وسائل بدائية تقليدية قديمة، إشارات الدخان على الجبال، حمل الرسائل الإعلامية على الخيل، أو سيرا على الأقدام، أو عبر القوارب، أو استخدام الحمام الزاجل، كلها تلبية لحاجة الإنسان للتواصل، للاحتكاك، لنقل المعرفة، لنقل الخبرات والعادات والتقاليد والثقافات، وهي حاجة أساسية نشأت منذ نشوء المجتمعات البشرية، ورغم بدائية هذه الوسائل الإعلامية إلا أنها كانت وسائل مناسبة وملائمة لتلك العصور، هذه الوسائل البدائية وجدت في زمن معين لمجتمعات معينة ولخدمة أغراض واحتياجات اجتماعية معينة، لكن المجتمعات تغيرت، وتغيرت معها وسائل الإعلام تغييرا بلغ حد الثورة الشاملة في هذا الحقل. ومع تطور الوسائل الإعلامية التقليدية إلى وسائل إعلامية جديدة: اختراع الطباعة، رموز مورس، وظهور الكابلات عبر الأطلنطي، ووجود الآلة الكاتبة والسينما، والإذاعة والأقمار الصناعية، لم تتغير الظاهرة الاجتماعية للرغبة في التواصل الإنساني، بل أدت إلى خدمة أكبر وأكثر شمولا وبالتالي ساعدت في عملية الإنماء الشاملة وزيادة التواصل بكل ما يحققه من أهداف اجتماعية.

الحضارات ووسائل الإعلام

إن التغيير المستمر في أي مجتمع من المجتمعات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يحصل باستمرار، وهناك احتياجات جديدة تظهر للوجود، واحتياجات أخرى قديمة قد وفت بالمطالب وأشبعت الرغبات، منظمات ومؤسسات أنشئت لتدير نشاطات معينة في المجتمع، فأصبحت بعد مدة من الزمن غير فعالة وغير مؤثرة، ولضمان تأثيرها وفعاليتها يجب أن تكون سريعة الاستجابة إلى الاحتياجات الحقيقية وأن تتميز بقابلية التغير للوصول إلى الاحتياجات المرسومة، وللوصول إلى هذا الهدف يجب ضمان استمرار عملية التواصل وخاصة بالنسبة لهؤلاء المعتمد على خدمتهم. نمت حضارات وإمبراطوريات ونظم سياسية ومؤسسات اجتماعية وترعرعت وتقدمت ثم اضمحل العديد منها وتفتت، وظلت وسائل الاتصال عبر العصور تزداد قوة وتزداد فعالية من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي حتى عهدنا هذا الذي نعيشه اليوم والمعروف بالمجتمع الإعلامي.

إن وسائل الاتصال الجماهيري متصلة بالنظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهذا التلاحم بين هذه الأنظمة في المجتمعات المختلفة قد زاد خلال القرون الأخيرة، لذلك على الباحثين في هذا المجال المعاينة والبحث والتمحيص في الوسائل الإعلامية ومضمونها، فإن لم نستطع ذلك يكون بحثنا ضيقا معزولا، في هذا المجال كتب الباحث البريطاني المشهور جيمس هالوران قائلا: "وجب علينا أن نضع وسائل الإعلام تحت المجهر بين الحين والآخر، وعندما نفعل ذلك علينا أن ننظر إلى الصورة ككل، نحن دائما ندرس عمليات الاتصال وتفاعل الاتصال والمجتمع، ولكن علينا أن ندرس عمليات الاتصال كوحدة عامة وجزء من نظام اقتصادي وسياسي وتكنولوجي، وعدم نجاح الأبحاث الإعلامية اليوم يعود إلى أن عددا كبيرا من الباحثين يرفض دراسة الاتصال ضمن الجهاز العام". وإذا كان الاتصال الجماهيري هو جزءا مهما من العضو الاجتماعي فليس من الكافي أن ننظر على ما يحصل داخل الوسائل ونحاول تغيير السياسات، بل علينا أن ننظر إلى خارج النظام كذلك، خاصة الركائز، والوحدات الموجودة في المجتمع لينهض بأفراده ومؤسساته المختلفة ومن هذه الاحتياجات: التعليم، الاعتناء بالصحة العامة والمؤسسات النقلية، البرق والبريد، البوليس ومؤسسات الاتصال السلكية واللاسلكية، وواجب وسائل الاتصال الجماهيرية المختلفة من كلمة مسموعة أو مسموعة مرئية أو مكتوبة أن تواجه مسئولياتها لهذه الاحتياجات المتعددة لتضمن نجاح عملية إنماء المجتمع الشامل. وفي الدول النامية: المبدأ الأساسي هو التأكيد على المشاركة لغالبية المجتمع في المشاريع الإنمائية من حيث ضبط الحاجات، والتنفيذ والمتابعة وذلك لزيادة خبراتهم ومعلوماتهم، لتقريبهم بعضهم لبعض في الحي الذي يعيشون فيه، ومساعدتهم للكشف عن حضارتهم وتقاليدهم وماضيهم وكيانهم الشخصي، وبدون التواصل وعدم الاستخدام الأقصى لوسائل الاتصال مع استخدام الطرق القديمة للتواصل الاجتماعي، لن يكون هناك أمل للوصول إلى أهدافنا. إن العامل المشترك بين الباحثين في مجال الاتصال هو الاتفاق على أن ما نواجهه اليوم وما نشهده أمامنا هو ثورة بكل معاني الثورة، انقلاب جذري يعتمد اعتمادا كليا على المعلومات، وإذا كانت الآلة قد قامت بالدور الحاسم في تقسيم العالم إلى دول صناعية متقدمة غنية ومسيطرة، ودول زراعية نامية متخلفة فقيرة، فإن المعلومات تقوم اليوم بإعادة تقسيم العالم على أساس "معلوماتي" بحيث يصبح امتلاك المعلومات من أهم المعايير التي تحكم التقدم والتخلف والسيطرة والتبعية، وفي مقابل بنوك المال والأسهم، بدأت تظهر بنوك المعلومات ذات النشاط الاحتكاري، أو النفوذ الواسع والهيمنة المتعاظمة، ولم تعد الدول المتقدمة تعتمد في تقدمها وسيطرتها على الصناعات التقليدية مثل الحديد والصلب والسيارات والصناعات البترولية، وإنما على الصناعات الكثيفة - المعلومات - مثل الصناعات الإلكترونية ونظم المعلومات والاتصال السلكي واللاسلكي والكمبيوتر والأقمار الصناعية.

إن ثورة الإلكترونيات هي أحدث أدوات الاتصال الإعلامي وهذه الثورة لا شك يمكن اعتبارها انتصارا حقيقيا للديمقراطية والإنسانية، ومن هنا يتضح في استعمالنا لكلمة صحافة أننا نستعملها لإبراز هذه التطورات المستحدثة، فنتحدث عن الصحافة المكتوبة والصحافة المسموعة أو الإذاعة المرئية وكذلك نتحدث عن الصحافة السحرية بالنسبة للإلكترونيات، لأن هذا النوع من الصحافة كالسحر يصل في التو واللحظنة.

عصر المعجزات

وإنه بفضل الوسائل التكنولوجية التي تستخدم الآن في مجالات الإعلام فإننا نعيش ظاهرة فريدة من نوعها في تاريخ الإنسان وفي الحضارة الإنسانية أيضا، وهو ما يمكن أن نسميه بلحظة التواصل الإنساني، فالإنسان الذي كان في الماضي يحتاج لشهور أو سنوات للاتصال بشخص أو قبيلة ما، يستطيع هذا الإنسان أن يتصل اتصالا مرئيا أي يمكن محادثته ومشاهدته في لحظة واحدة، ومفتاح تقدم هذه الأجهزة مادة تسمى "الجزئيات المرئية" توصلت إليها المعامل العلمية، واكتشفت إمكاناتها الهائلة، إنها مادة تسمح لأشعة الليزر بأن تنفذ خلالها، وهي تحمل عددا كبيرا من القنوات الاتصالية في اتجاهات مختلفة في الوقت نفسه، وتقوم هذه القنوات الاتصالية التي تسمح لها هذه المادة بالنفاذ، بدور يشبه دور الأسلاك التي تحمل التيارات والكلمات. لقد أصبح التواصل بفضل هذه التطورات التقنية والتكنولوجية في عالم الاتصال تطورا إعجازيا شيئيا، وهذا التطور الإعجازي جعل التواصل الإنساني تواصلا كونيا، هذه اللحظنة للتواصل الإنساني نستطيع أن نصفها بأنها من معجزات إعلام الوقت الحاضر، وهي المعجزة التي سوف تحدث من الآن حتى نهاية هذا القرن.

ستحدث تغييرات في المجتمع الإنساني، بحيث ينشأ مجتمع يمكن أن نطلق عليه بالعربية مجتمع التواصل الإعلامي، وهو المجتمع الذي تسود فيه وسائل الإعلام، وقد بدأ علماء النفس بدراسة وتحليل احتمالات ونتائج هذه الثورة التكنولوجية الإلكترونية في هذا العلم الحديث على الإنسان والمجتمعات وخاصة على دول العالم الثالث، التي تعاني من القصور والتخلف، وإن لم تعد الدول النامية نفسها لمواجهة نتائج هذه الثورة التكنولوجية فإنها ستكون مدمرة أكثر منها مفيدة، فهذا الإعداد مهم للدول النامية وذلك لاحتواء التغييرات التي ستحدثها التطورات المذهلة في مجال الاتصالات الإلكترونية، ومن أهم الأدوار التي تلعبها وسائل الإعلام بمختلف فروعها وأجهزتها هو دورها الفعال في العملية الإنمائية الشاملة، والإنماء هو حركة تغيير وتطوير للمجتمع في حقل معين يصب في قنوات التنمية، والفرق بين الإنماء development والنمو Growth أن النمو هو التغيير الذي يحصل بصورة طبيعية للإنسان، فمثلا ينتقل الإنسان من شاب إلى كهل، ولكن تحقيق الإنسان لهذه المراحل هو عملية إدارية - ثقافية ولذلك نسميها إنماء لا نموا فنقول إنماء تربويا - إنماء ثقافيا. ونذكر تمييزا آخر هو التمييز بين المفهوم الشائع الخاطئ للإنماء بأنه اقتصادي أي زيادة كمية في الدخل أو زيادة كمية في الإنتاج أو زيادة كمية في الموارد، والإنماء الحقيقي حددته الأمم المتحدة فيما يأتي: "الإنماء هو النمو مع التغيير" أي بمعنى أن المجتمع الزراعي المتخلف يتطور إلى مجتمع زراعي ثنائي، فإذن لم نكتف فقط بزيادة إنتاجنا الزراعي ليكون لدينا نمو زراعي ولكننا أحدثنا ما يسمى بالتغيير النوعي أيضا، إننا صنعنا المجتمع وحولناه من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي ومنه إلى مجتمع إعلامي، لأن الصناعة تعد أساس الحضارة العصرية التي نعيشها الآن، ومن هنا عندما نميز بين المفهوم الاقتصادي الضيق للإنماء والمفهوم الذي يوصف الآن بأنه المفهوم التكاملي الشامل للإنماء نقول إنه هو الذي يشمل مع التغيير والتقدم الاقتصادي التقدم الاجتماعي والتقدم التربوي والتقدم الثقافي والإنماء الروحي للإنسان الذي هو غاية الغايات، وهذا هو أشمل تعريف للإنماء في المجتمعات لأنه المفهوم الحقيقي والشامل والمعتمد في الأوساط العلمية والدولية.

وسائل الاتصال والمجتمعات البشرية

والإعلام بوسائله المختلفة المستحدثة يدعو لأن يكون في خدمة المجتمعات البشرية كافة. ووسائل الإعلام لا تقتصر مهمتها على نشر الأخبار وتوزيعها، الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية، بل عليها ومن واجبها أن تعنى عناية خاصة بالإنماء في جميع قطاعاته وفروعه: الإنماء الزراعي والإنماء الصناعي والإنماء الثقافي والإنماء التربوي، وأن تغطي وتنشر جميع الأخبار المتعلقة بهذه القطاعات وما يستجد منها دون انقطاع.

إننا كعالم ثالث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، نشكل عوالم مستحدثة في طريق النمو والتقدم ومن واجب الإعلام أن يوعي ويبصر المواطنين بظواهر ووجود التخلف الذي يعانيه المجتمع ويبصرنا بها ناقدا لسلبياتها، ومن جانب آخر على الإعلام أن يرشدنا ويساعدنا على الأقل لنرى كيف يمكن أن نطور هذه الحقول المختلفة في هذه القطاعات إلى قطاعات متقدمة، ومن واجب وسائل الإعلام المختلفة تبسيط المعلومات والموضوعات المعتمدة حتى تصبح في متناول فهم القارئ عن طريق الصحيفة والمجلة، والمستمع عن طريق الإذاعة والمشاهد عن طريق التلفزيون، وهنالك الآن وفي كثير من بلاد العالم النامي والمتقدم محطات إذاعية وتلفزيونية بها برامج إنمائية خاصة وهي من أنجح البرامج، فمثلا توجد برامج في تلفزيون المغرب لمكافحة الأمية وبرامج تلفزيونية وإذاعية لتثقيف الفلاحين وتعليمهم أحدث أصول الزراعة بواسطة استعمال الأدوات والتكنولوجيا الحديثة. وهنالك في التلفزيون الفرنسي برامج خاصة حول تغطية قانون السير وبرامج صحية إنمائية، كما بدأ تلفزيون عمان في بث برامج تلفزيونية هدفها محو الأمية.

فالإعلام ووسائله المختلفة يستطيع أن يقوم بدور فعال في مجتمعنا فحينما يعرف الإعلام بنهضة المرأة بما هي عليه وما يجب أن تكون عليه فإنه يشارك في عملية الإنماء الاجتماعي في مجتمعنا، وليس من العار أبدا أن يكون المجتمع أو الإنسان متخلفا، لأن هذا التخلف غالبا ما يكون سببه ظروفا معينة من ركود أو استعمار أو غير ذلك، ولكن من العار ألا يعي الإنسان تخلفه ليعمل جاهدا على محوه. وبما أن وسائل الإعلام هي بحد ذاتها منظمات اجتماعية وجب عليها أن تكون مهتمة بمحيطها الذي تعيش فيه، والتفاعل الدائم والمستمر بين وسائل الاتصال الجماهيرية والمجتمع يعني أن هذه الوسائل لا تؤثر فقط في المجتمعات من الناحية الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، ولكن في نفس الوقت تتأثر هي بالمجتمع كذلك، ودائما تكتسب وحدات جديدة من البيئة، وهكذا تظل العملية عملية تواصل دائمة ومستمرة، ومن ثم لفهم وسائل الاتصال الجماهيري فهما صحيحا علينا فهم المجتمع الذي توجد فيه هذه الوسائل الإعلامية، ولفهم المجتمع بطريقة صحيحة فلا بد من وجود صورة واضحة عن العادات والتقاليد والتراث، وهذا يعني الإدراك والوعي الكامل والدراية بالعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، كل ذلك من الضروري لفهم وسائل الاتصال ووضعها في خدمة المجتمع فعلا وحقيقة.

 

نبيل الجردي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات