مصر الإسلامية تحتفي برمضان

مصر الإسلامية تحتفي برمضان
        

رمضان في القاهرة الإسلامية هو عيد خاص يستمر على مدى ثلاثين يوماً. وقد تبارى المؤرخون في وصف طقوس هذا العيد. ويقدم المقال إطلالة عليها

          يحدثنا المؤرخ " ابن المأمون" عن استعدادات القاهرة لهذا الشهر الكريم فيقول:

          "كانت العادة جارية من الأيام الأفضلية في آخر جمادى الآخرة من كل سنة أن تغلق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة ومصر وتختم ويحذر من بيع الخمر. فرأى الوزير المأمون لما ولي الوزارة بعد الأفضل ابن أمير الجيوش أن يكون ذلك في سائر أعمال الدولة، فكتب به إلى جميع ولاة الأعمال وأن ينادى بأنه من تعرض لبيع شيء من المسكرات أو لشرائها سرّاً أو جهراً، فقد عرض نفسه لتلفها وبرئت الذمة من هلاكها".

          وكان القاضي أبو عبدالرحمن عبدالله بن لهيعة الذي ولي قضاء مصر سنة 155 هـ أول قاض خرج لنظر الهلال في شهر رمضان، ثم أصبحت العادة بعد ذلك أن يخرج القضاة لرؤية هلال رمضان، فقد كانت تعد لهم دكة على سفح جبل المقطم عرفت (بدكة القضاة) يخرجون إليها لنظر الأهلة. فلما كان العصر الفاطمي بنى قائدهم بدر الجمالي مسجداً له على سفح المقطم اتخذت مئذنته مرصداً لرؤية هلال رمضان.

          وفي كتابه "النقط" يقول الشريف الجواني:

          "كان القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام طافوا يوماً على المشاهد والمساجد بالقاهرة ومصر، فيبدأون بجامع المقسي ثم بجوامع القاهرة ثم بالمشاهد ثم بالقرافة ثم بجامع مصر، ثم بمشهد الرأس لنظر حصر ذلك وقناديله وعمارته وإزالة شعثه، وكان أكثر الناس مما يلوذ بباب الحكم والشهود، والطفيليون يتعيّنون لذلك اليوم والطواف مع القاضي لحضور السماط ".

          وفي القرن الثالث الهجري، اهتم أحمد بن طولون بأمر العمال في شهر رمضان أهتماماً خاصاً، فقد خرج مرة لزيارة مسجده وقت بنائه وكان ذلك في شهر رمضان، فرأى الصناع يشتغلون إلى وقت الغروب، فقال: "متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطاراً لعيالهم، اصرفوهم العصر، فأصبحت سنّة من ذلك الوقت ". فلما فرغ شهر رمضان قيل له: لقد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى عادتهم، فقال: "قد بلغني دعاؤهم وقد بوركت به، وليس هذا مما يوفر العمل".

أنوار 700 قنديل

          احتفت الدولة الفاطمية بشهر رمضان احتفاء لم يسبق له مثيل، فخصته باحتفالات يعد بعضها تمهيداً لحلوله، والبعض لإعلان رؤية هلاله، وهي احتفاليات غنية بمظاهر العظمة، شاملة لأنواع البر والصدقات مما يرفّه عن الفقراء ويدخل السرور على الأغنياء. فإذا كان الأسبوع الأخير من شهر شعبان، عهد إلى قضاة مصر بالطواف بالمساجد في القاهرة وباقي الأقاليم لتفقد ما تم إجراؤه فيها من إصلاح وفرش وتعليق المسارج والقناديل.

          ويصف الرحّالة (ناصرخسرو) الذي زار مصر في القرن الخامس الهجري، التنور (الثريا) الذي أهداه الخليفة الحاكم بأمر الله إلى مسجد عمرو بالفسطاط، بأنه كان يزن سبعة قناطير من الفضة الخالصة، كما يقول عن جامع عمرو: "إنه كان يوقد في ليالي المواسم والأعياد أكثر من سبعمائة قنديل، وإن المسجد يفرش بعشر طبقات من الحصير الملوّن بعضها فوق بعض".

          وإذا ما انتهى شهر الصوم تعاد تلك (التنانير) وكذا القناديل والمشكاوات إلى مكان أعد لحفظها فيه داخل المسجد. كذلك كانت الدولة تخصص مبلغاً من المال لشراء البخور الهندي والكافور والمسك الذي يصرف لتلك المساجد في شهر رمضان.

سماط رمضان

          تعددت الأسمطة الرسمية التي كان يحضرها الخليفة الفاطمي بنفسه، فكان السماط يمد في "قاعة الذهب" بالقصر الشرقي الكبير في ليالي رمضان وفي العيدين وليالي الوقود الأربعة والمولد النبوي وخمسة موالد "الحسين"، "السيدة فاطمة"، "الإمام علي"، "الحسن"، "الإمام الحاضر"... بالإضافة إلى "سمات الحزن" في يوم عاشوراء...

          ويقول المؤرخ "ابن الطوير" عن سماط ليالي رمضان:

          "فإذا كان اليوم الرابع من شهر رمضان، رتب عمل السماط كل ليلة بقاعة الذهب إلى السادس والعشرين منه، ويستدعى له قاضي القضاة ليالي الجمع توقيراً له، ولا يحرمونهم الإفطار مع أولادهم وأهاليهم.. ويحضر الوزير فيجلس صدر السماط، فإن تأخر كان ولده أو أخوه "وإن لم يحضرأحد من قبله كان صاحب الباب.

          ويهتم به اهتماماً عظيماً تاماً ، بحيث لا يفوته شيء من أصناف المأكولات الفائقة والأغذية الراتقة، وهو مبسوط في طول القاعة، ممتد من الرواق إلى ثلثي القاعة، والفراشون قيام لخدمة الحاضرين وحواشي الأستاذين، يحضرون الماء المبخر في كيزان الخزف برسم الحاضرين.

          ويكون انفصالهم العشاء الآخرة، فيعمهم ذلك ويصل منه شيء إلى أهل القاهرة من بعض الناس لبعض.

          ومن الأسواق التي كانت تنشط فيها الحركة التجارية خلال شهر رمضان، سوق الشمّاعين بالنحاسين خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين، إذ يحدّثنا، المقريزي، عمدة مؤرخي مصر الإسلامية، فيقول: "كان به في شهر رمضان موسم عظيم، لكثرة ما يشترى ويكترى من الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منها عشرة أرطال فما دونها، ومن المزهرات عجيبة الزي، مليحة الصناعة، ومنها ما يحمل على العجل ويبلغ وزن الواحدة منها قنطاراً.

          وما فوقه، كل ذلك برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح، فيمر في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية "وصفه" ! ثم تحسّر مؤرخنا المقريزي على تغير الأحوال!! وكان الأطفال يلتفون حول إحدى الشموع وبأيديهم الفوانيس يغنون ويتضاحكون ويمضون بموكبهم المنير في حواري القاهرة من بعد الإفطار حتى صلاة التراويح.

          ولم تكن مظاهر الاحتفال بشهر رمضان مقصورة على ما يباع ويشترى في الأسواق أو ما يقدم على الموائد فحسب، بل كان لها تقاليد رسمية التزم بها خلفاء الدولة الفاطمية. فقد كان الخليفة يخرج في مهرجان إعلان حلول شهر رمضان، من باب الذهب (أحد أبواب القصر الفاطمي) متحلياً بملابسه الفخمة، وحوله الوزراء بملابسهم المزركشة، وخيولهم المطعمة بسروجها المذهبة، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المكفتة بالذهب والفضة والأعلام الحريرية الملوّنة، وأمامه الجند تتقدمهم الموسيقى. ويسير في هذا الاحتفال جامع المؤيد بالقاهرة تجّار القاهرة من البزازين والكفتيين (صانعي المعادن) والصاغة وغيرهم، الذين كانوا يتبارون في إقامة مختلف أنواع الزينة على حوانيتهم، فتبدو الشوارع والطرقات في أبهى زينة وأجمل منظر.

المماليك يشاهدون الهلال

          واستمرت العناية بالاحتفال بحلول شهر رمضان ورؤية هلاله في العصر المملوكي كذلك، فكان قاضي القضاة يخرج لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود ومعهم الشموع والفوانيس، ويشترك معهم المحتسب وكبار تجار القاهرة ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف. وكانوا يشاهدون الهلال من منارة مدرسة المنصور قلاوون (المدرسة المنصورية بين القصرين) لوقوعها أمام المحكمة الصالحية (مدرسة الصالح نجم الدين بالصاغة)، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار على الدكاكين وفي المآذن، وتضاء المشكاوات في المساجد، ثم يخرج قاضي القضاة في موكب تحف به جموع الشعب حاملة المشاعل والفوانيس والشموع حتى يصل إلى داره، ثم تتفرق الطوائف إلى أحيائها معلنين الصيام.

          وقد وصف الرحالة "ابن بطوطة" عام 727 هـ، الاحتفال برؤية هلال رمضان في مدينة "أبيار" بالقرب من المحلة الكبرى، فقال:

          "وعادتهم في يوم الركبة أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر بدار القاضي، ويقف على باب الدار نقيب المتعممين وهو ذو شارة وهيئة حسنة، فإذا أتى أحد الفقهاء أو الأعيان تلقّاه ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلاً: "باسم الله سيدنا فلان الدين"، ويجلسه النقيب في موضع يليق به، فإذا تكاملوا هنالك، ركبوا جميعاً وعلى رأسهم القاضي، وتبعهم من بالمدينة من الرجال والصبيان، حتى إذا ما انتهوا إلى موضع مرتفع خارج المدينة- وهو مرتقب الهلال عندهم- وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش فينزل القاضي ومن معه يرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشموع والمشاعل والفوانيس، فيكون ذلك دليلاً على ثبوت رؤية الهلال فيوقد التجار الشموع بحوانيتهم، وتكثر الأنوار في الطرقات والدروب والمساجد".

          ويقول المؤرخ العظيم "ابن إياس" عن احتفال ليلة رؤية الهلال في عام 925 هـ- عهد السلطان الأشرف قنصوة الغوري: "... وأما في ليلة رؤية الهلال، حضر القضاة الأربعة بالمدرسة المنصورية، وحضر الزيني بركات بن موسى المحتسب، فلما ثبتت رؤية الهلال وانفض المجلس، ركب المحتسب ومشت قدامه السقاءون بالقرب، ووقدوا له الشموع على الدكاكين، وعققوا له التنانير والأحمال الموقودة بالقناديل من الأمشاطيين إلى سوق مرجوش، إلى الخشابين، إلى سويقة اللبن، إلى عند بيته (بيت الزيني بركات).

          وفي مستهل الشهر، يجلس السلطان في ميدان القلعة، ويتقدم إليه الخليفة العباسي والقضاة الأربعة بالتهنئة ثم يستعرض أحمال الدقيق والخبز والسكر، وكذا الغنم والبقر المخصصة لصدقات رمضان يعرضها عليه المحتسب بعد أن يكون قد استعرضها في أنحاء القاهرة تتقدمها الموسيقى، فينعم على المحتسب وعلى كبار رجال الدولة.

          وكانت قراءة صحيح البخاري بالقلعة من أهم المظاهر الرسمية لإحياء شهررمضان.

مشاعل وقناديل

          واستمرالاحتفال بحلول شهر رمضان وبرؤية هلاله في عصر الدولة العثمانية، ففي التاسع والعشرين من شعبان، كان القضاة الأربعة يجتمعون وبعض الفقهاء والمحتسب بالمدرسة المنصورية في "بين القصرين" ثم يركبون جميعاً يتبعهم أرباب الحرف وبعض دراويش الصوفية، إلى موضع مرتفع بجبل المقطم، حيث يرتقبون الهلال، فإذا ثبتت رؤيته، عادوا وبين أيديهم المشاعل والقناديل إلى المدرسة المنصورية، ويعلن المحتسب ثبوت رؤية هلال رمضان، ويعود إلى بيته في موكب حافل يحيط أرباب الطرق والحرف بين أنوار المشاعل، في ليلة مشهودة "في الفرجة والقصف" على حد تعبير مؤرخنا "ابن إياس" وفي صباح أول أيام رمضان، يصعد المحتسب والقضاة الأربعة إلى القلعة لتهنئة "الباشا" الوالي، فيخلع عليهم قفاطين مخمل كما جرت العادة.

          وكان المؤرخ العظيم "عبدالرحمن الجبرتي" قد أشار في تاريخه إلى "سنن وطرائق في مكارم الأخلاق لأهل مصر لا توجد لغيرهم" فيقول... "ففي بيوت الأعيان كان السماط يمد مبذولاً للناس ولا يمنعون من يريد الدخول.. وكانت لهم عادات وصدقات في المواسم الدينية خاصة في ليالي رمضان، يطبخون فيها الأرز باللبن والزردة ويملأون  من ذلك قصاعاً كثيرة، ويفرقون منها على من يعرفونه من المحتاجين، ويجتمع في كل بيت الكثير من الفقراء، فيفرقون عليهم الخبز ويأكلون حتى يشبعوا ويعطونهم بعد ذلك دراهم، ولهم غير ذلك صدقات وصلات لمن يلوذ بهم، خلاف ما يعمل ويفرق من الكعك المحشو بالسكر والعجمية وسائر الحلوى!".

          وفي زمن الحملة الفرنسية في مصر، أشار الجبرتي إلى أمر "ساري عسكر الفرنسيس بونابرته! "... بالمناداة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عادتهم مع المسلمين ولا يتجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق، ولا يشربون الدخان ولا شيئاً من ذلك بمرأى منهم، كل ذلك لاستجلاب خواطر الرعية!".

          وفي ليلة الرؤية، كان قاضي القضاة والمحتسب ومشايخ الديوان يجتمعون ببيت القاضي "المحكمة" بين القصرين، وعند ثبوت الرؤية، يخرجون فيموكب تحيط بهم مشايخ الحرف و "جملة من العساكر الفرنساوية! "... وتطلق "المدافع والصواريخ" من القلعة والأزبكية.

          وكانت كسوة الكعبة تودع بمشهد مولانا الإمام الحسين حتى موعد "دوران المحمل" في الأسبوع الثالث من شهر شوال، وفي رمضان 1215 هـ، يقول الجبرتي: "توجه الوكيل (الجنرال فورييه) ومشايخ الديوان إلى المشهد الحسيني لانتظار حضور ساري عسكر الفرنسيس (نابليون بونابرت) بسبب الكشف على الكسوة وازدحم الناس زيادة على عادتهم في رمضان، فلما حضر ونزل عن فرسه عند الباب وأراد العبور للمسجد، رأى ذلك الازدحام فهاب الدخول وخاف العبور، وسأل من معه عن سبب هذا الازدحام، ولو حصل منكم تنبيه كنا أخرجناهم قبل حضوركم، فركب فرسه وكرّ راجعاً وانصرف! ".

          وفي العام التالي، 1216 هـ، كانت الأوضاع العامة لا تسمح بأي مظاهر احتفالية خاصة مع تصاعد المقاومة الشعبية لجيش الاحتلال الفرنسي، فيقول الجبرتي: "لم يعمل فيه شنك الرؤية على العادة، خوفاً من عربدة العساكر، والمحتسب كان غائباً، فركب كتخداه بدلاً عنه بموكبة فقط، ولم يركب معه مشايخ الحرف، فذهب إلى المحكمة، وثبت الهلال ونودي بالصوم من الغد! ".

          الرحالة الأوربيون، من خلال رؤيتهم لأحوال المجتمعات الشرقية، وما تمثله من عالم غريب حافظ بكل ماهو مثير- من وجهة نظرهم - قد عنوا برصد كل مظاهرة التقاليد والمعتقدات الشعبية المتوارثة، وكان من بينها الاحتفال بشهر رمضان.

          فيقول الرحّالة الفرنسي "جان باليرن- J.Palerne" الذي زار مصر عام 1581 يحرص المصريون في رمضان على توزيع اللحوم والصدقات على الفقراء، ويتبادلون الزيارات والسهرات، ويقومون بإنارة فوانيس كبيرة ملوّنة أمام المنازل والحوانيت وفي المساجد... ".

          وقد حرص بعض هؤلاء الرحالة على أستئجار غرفة في شارع رئيسي، ليتمكنوا من متابعة الاحتفالات بهذا الشهر، وقد وصف الفرنسي: فيلامون- Villamont " عام 1589 بعض مظاهر الاحتفال، مواكب درويش الصوفية وحلقات الذكر، والمساجد المضاءة وزحام الأسواق، ومآدب الإفطار التي يدعى إليها الأصدقاء، ويصف المصريون بالكرم..."، ولديهم عادة جميلة، إذ يجلسون على الأرض ويأكلون في فناء مكشوف أو أمام بيوتهم، ويدعون المارة إلى الطعام في صدق وحرارة!".

          أما المستشرق البريطاني الشهير "إدوارد لين- E.lane" الذي شغف بمصر واختلط بناسها، وتأثر بعادات وتقاليد مجتمع القاهرة، حتى أنه شارك المسلمين صلاتهم بالمساجد، وفي حلقات الذكر، راصداً تفاصيل الحياة اليومية، وسمى نفسه "منصور أفندي! "... فقد حدّثنا عن مشاهداته لطقوس ليلة رؤية هلال رمضان عام 1835 فيقول:

          "والليلة التي يتوقع أن يبدأ في صبيحتها الصيام، تسمى ليلة الرؤية، فيرسل عدداً من الأشخاص الثقاة إلى مسافة أميال عدة في الصحراء، حيث يصفو الجو، لكي يروا هلال رمضان، بينما يبدأ من القلعة موكب الرؤية الذي يضم المحتسب وشيوخ التجار وأرباب الحرف: الطحانين والخبّازين والجرارين والزيّاتين والفكهانية، تحيط بهم فرق الإنشاد ودراويش الصوفية، وتتقدم الموكب فرقة من الجنود، ويمضي الموكب حتى ساحة  بيت القاضي، ويمكثون في انتظار من ذهبوا لرؤية الهلال، وعندما يصل نبأ ثبوت رؤية هلال رمضان، يتبادل الجميع التهاني، ثم يمضي المحتسب وجماعته إلى القلعة، بينما يتفرق الجنود إلى مجموعات يحيط بهم "المشاعلية" والدراويش، يطوفون بأحياء المدينة، وهم يصيحون: يا أمة خير الأنام.. صيام.. صيام.. أما إذا لم تثبت الرؤية في تلك الليلة، فيكون النداء: غداً متمم لشهر شعبان... فطار... فطار..! ".

          وأشار لين إلى صمت الشوارع وتراخي حركة الحياة نهاراً، وقبيل المغرب "توضع مائدة الإفطار- طوال شهر رمضان- في غرفة الاستقبال، حيث يستقبل رب الدار ضيوفه، وتعد صينية فضية كبيرة تزدان بأطباق المكسرات والزبيب والحلوى وأواني الشربات والماء، وفي الحسبان دائماً الضيوف الذين قد يهبطون بغتة، وتجهز أدوات "الشوبك" للتدخين، وبعد آذان المغرب، يتناول رب الدار مع أسرته وضيوفه أكواباً من شراب الورد أو البرتقال، ثم يؤدون صلاة المغرب وبعدها يتناولون شيئاً من المكسرات ويدخنون.

          ويدور المسحراتي في كل ليلة، ولكل منطقة مسحراتي خاص بها، يطلق المدائح لأرباب المنازل ممسكاً بيده اليسرى "بازاً" صغيراً، وبيده اليمنى عصا أو قطعة من الجلد يضرب بها، عند كل وقفة ثلاث مرات، يرافقه صبي يحمل فانوسين... موحداً الله ومصلياً على الرسول- صلى الله عليه وسلم- أصح يا غفلان.. وخد الرحمن.. أسعد الله لياليك (يا فلان) داعية بالتقبّل والحفظ لأهل الدار".

          ويقول العالم والرحالة المستشرق الأيرلندي "ريتشارد بيرتون" خريج أكسفورد والضابط بالجيش البريطاني في الهند، وقد قام برحلات أستكشافية في شرق وغرب إفريقيا، وجزيرة العرب، ووصل إلى مصر سنة 1853: "تراعي مختلف الطبقات شعائر هذا الشهر بإخلاص شديد- رغم قسوتها!- فلم أجد مريضاً واحداً اضطر ليأكل حتى لمجرد الحفاظ على حياته.. وحتى الآثمين الذين كانوا قبل رمضان قد اعتادوا السكر والعربدة - حتى في أوقات الصلاة- قد تركوا ما فيه من إثم، فصاموا وصلوا!... والأثر الواضح لهذا الشهر على المؤمنين هو الوقار الذي يغلف طباعهم.. وعند اقتراب المغرب، تبدو القاهرة وكأنها أفاقت من غايتها، فيطل الناس من النوافذ والمشربيات يرقبون لحظة خلاصهم!.... بينما البعض منهمكاً في صلواته وتسبيحه، وآخرون يتحلقون في جماعات أو يتبادلون الزيارات.

          أخيراً... انطلق مدفع الإفطار من القلعة، يا للسعادة!... ويجلجل صوت المؤذن جميلاً داعياً الناس إلى الصلاة، ثم ينطلق المدفع الثاني من قصر العباسية (سراي عباس باشا الأول) وتعم الفرحة أرجاء القاهرة، الحي كانت صامتة، وينتقل إحساس الترقب المبهج إلى اللسان الجاف والمعدة الخاوية والشفاه الواهنة، فتشرب "قلة" من الماء... ثم تصفق طالبة- في عجلة- الشيشة وقدحاً من القهوة.. ثم تنتظر مباهج المساء! ".

 

عرفة عبده علي   

 
 




صورة الغلاف





المآذن ترتفع في سماء القاهرة كأنها أذرع تتوسل إلى العلي القدير بالابتهالات





مدفع الإفطار والسحور في رمضان





الاعتكاف للعبادة. بجامع المؤيد بالقاهرة





الاحتفال الشعبي بليلة الرؤية





من منارة جامع السلطان الناصر كانوا يستطلعون هلال رمضان في العصر المملوكي





جامع أحمد بن طولون ومئذنته الملتوية





في بيت القاضي حيث كانوا يجتمعون لإعلان مرسوم ثبوت الرؤية