العملاق الأوربي هل يتأجل مولده؟ سامي منصور

العملاق الأوربي هل يتأجل مولده؟

كان العالم ينتظر مولد العملاق الأوربي خلال التسعينيات من هذا القرن حتى يحدث التوازن ولا يبقى عملاق واحد على القمة. ولكن يبدو أن مولد هذا العملاق سوف يتأجل، فما هي أسباب ذلك ومن أين يولد العملاق الجديد؟.

إن خلو مقعد العملاق الثاني بعد انهيار الاتحاد السوفييتي قد فتح الباب أمام عدد محدود من الدول لإمكانية شغل المكان. إذ إن بقاء عملاق واحد على القمة أمر بالغ الخطورة على الاستقرار العالمي. فانفراده بالقمة يجعل من إرادته هي القانون ويصبح القانون الدولي مجرد كلمات وذكريات. وقد شهد العالم عبر تاريخه مثل هذا الوضع وإن لم يكن كثيرا. وأبرز أمثلته ما عرف بالسلام الروماني والسلام البريطاني وهو تعبير سياسي عن هيمنة دولة واحدة على القمة والخضوع لإرادتها هو السلام. صحيح أنه لم يحدث في أي وقت من التاريخ أن كانت تلك الدولة بلا منازع أو طامع في المنافسة ولكن الغلبة كانت لها. وقد واجه العالم الكثير من المعاناة بسبب انفراد دولة واحدة بالقمة. ولعل البعض يذكر كلمات الزعيم نهرو في أعقاب الحرب العالمية الثانية بأنه إذا لم يكن هناك الاتحاد السوفييتي لكان علينا أن نخلقه. وكانت يومها توجد مخاوف من انفراد الولايات المتحدة بالقمة إلى أن قام السوفييت بكسر الاحتكار الأمريكي للسلاح الذري ثم أصبح العملاق الآخر. ورغم المشاكل العديدة التي واجهت دول العالم نتيجة ذلك الانقسام على أساس أيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية والمنافسة بين العملاقين على السيطرة ومد النفوذ إلى بقاع الأرض فإن ذلك باليقين والذي تؤكده محصلة تجارب البشرية أفضل من وضع هيمنة دولة واحدة على القمة.

وإيمان العالم بهذه الحقيقة كان من أكبر عوامل البحث عن البديل للعملاق المفقود بل ومحاولة دفع البعض ليتقدم لشغل المقعد الخالي. وكانت الدول المرشحة لذلك المقعد هي ألمانيا واليابان والصين. ولم يكن الترشيح مجرد ميل لهذه الدولة أو تلك أو هو مجرد البحث عن البديل، بل كان نتيجة ما حققته كل من هذه الدول من إنتاج ونمو حتى أصبح لها وزن يصعب اتخاذ موقف أو سياسة في العالم دون الرجوع إليها بشكل أو بآخر. وأصبحت لكل منها مصالح عالية تفرض أن تشارك هذه الدول في السياسات العالمية وأن يكون لها دور خلال الأزمات، بل إنه أحيانا ما كان العالم يلجأ إلى واحدة من هذه الدول أو كلها أو بعضها خلال الأزمات.

وقد لعبت عوامل كثيرة لتجعل من ألمانيا المرشح الأول لشغل المقعد الخالي، ومن أبرز هذه العوامل توحيد ألمانيا بعد تقسيم دام حوالي 46 عاما والأهم هو خطوات التوحيد الأوربي والتي بدأت بدول ست حتى أصبحت ضعف ذلك وينتظر أن تتسع لتشمل بقية دول القارة لتصبح الولايات الأوربية المتحدة.

أوربا.. لماذا؟

وأصبحت أوربا الموحدة سواء كانت ألمانيا على قيادتها أو من بين دولها هي المرشح الأول لشغل المكان. وكان وراء ذلك التفضيل أو الاختيار عدد من العوامل أهمها:

أولا: الدور العالمي الذي تقوم به أوربا. وهو وإن كان امتدادا لدورها الاستعماري القديم إلا أنه في النهاية ليس عزلة أو انغلاقا على النفس. وقد ساعدها على ذلك وجود دولتين منها هما فرنسا وبريطانيا في مجلس الأمن من أصحاب الفيتو الخمسة.

ثانيا: التاريخ الحضاري والثقافي لأوربا كان يثير بريقا في كثير من دول العالم وخاصة أن معظم دول العالم لم تكن تعرف كثيرا عن حضارة العمالقة المرشحين الآخرين. وكثير من أبناء الدول الأخرى تعلم في أوربا أو تعلم لغة من لغاتها.

ثالثا: الوحدة الأوربية والتي كانت تبدو أملا مستحيلا فإذا بها تتحقق وخاصة بعد مؤتمر بروكسل آخر أكتوبر 93، الذي كان أول قمة بعد التصديق على معاهدة الوحدة الأوربية. وهو المؤتمر الذي قرر إنشاء بنك مركزي أوربي في فرانكفورت بألمانيا وإن كانت مسألة العملة الأوربية الموحدة قد تأجلت حتى قبل نهاية القرن بعام أي 1999.

رابعا: إن أوربا بكل المعايير في ظل الوحدة تعتبر هي أكبر العمالقة فهي من حيث السكان تحوي 345 مليون نسمة مقابل 253 مليونا في الولايات المتحدة و 124 مليونا في اليابان، خاصة أن الصين مشروع مازال في مرحلة الإنشاء، بل إن الدخل القومي في أوربا الموحدة يبلغ 6.9 مليار دولار مقابل 5.9 مليار في الولايات المتحدة، وهو في اليابان 3.9 مليار. بل إن صادرات أوربا هي الأكبر فهي تبلغ 565 مليار دولار مقابل 448 مليارا في الولايات المتحدة بينما في اليابان تبلغ 330 مليار دولار.

وهكذا تجمعت كل العوامل لتجعل من أوربا المرشح الأول لشغل منصب العملاق الآخر الشاغر بينما كان غيرها مشغولا بمشاكله أو على الأقل لا يريد أن يبدو وكأن له طموحا في دور دولي.

وأصبح هناك انطباع عام وخاصة في الإعلام العالمي بأن موضوع شغل أوربا لذلك المقعد العملاق هو مسألة وقت فقط وأن هذا العملاق قادم بسرعة قبل أي عملاق آخر.

مشاكل بحجم أوربا

وفجأة بدأت تبرز على السطح مجموعة من المشاكل كانت في البداية مجرد مشاكل تبدو طبيعية مقارنة بحجم أوربا وعدد دولها ولكن الأيام كشفت أن الأمر أكبر من ذلك وأنها بالغة العمق والكثافة بحيث لم تهدد فقط دور العملاق الأوربي القادم بل إنها باليقين قد أجلت مولده على الأقل حتى تنتهي حقبة التسعينيات. وكانت البداية في بروز الحروب العرقية والتي كان البعض يتصور أنها توأم دول إفريقيا أو آسيا ولكنها بعيدة عن أوربا حيث الحضارة والثقافة!، التي انبهر بها الكثيرون فإذا بالغطاء يرفع عن عقل بالغ التحجر وثقافة تخلفت عن الركب.

المسألة ليست مجرد الحرب العرقية في البوسنة وذلك الموقف المخجل من دول أوربا تجاه ذلك الصراع وبخاصة بريطانيا وألمانيا وفرنسا بل إن تلك الحرب رفعت أستار الحرج عن القوى الكامنة في المجتمعات الأوربية وبدأت الحرب العنصرية ضد الأجانب في ألمانيا وفرنسا وخاصة أبناء العالم الإسلامي ثم غيرهم من الأجانب بعد ذلك. وأصبحت هناك دول عديدة في أوربا تواجه مخاطر التقسيم لأسباب عنصرية ومن هذه الدول اليونان وإيطاليا وقد انقسمت بالفعل دولة تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين والقائمة مازالت تحمل الكثير من المفاجآت!!.

وأضيف إلى ذلك تصاعد الأزمة الاقتصادية بعد أن فقدت التجربة الألمانية بريقها ودخلت في دائرة التحذير بالمخاطر. فقد توقف نمو الاقتصاد الألماني منذ نهاية العام 1992، وبدأت دورة الانكماش لأول مرة في تاريخها حتى بلغ معدل الانكماش في العام الماضي-1993- 2%.

ولم تكن ألمانيا وحدها التي تواجه الكساد بل إنه امتد إلى فرنسا وغيرهما من دول أوربا حتى أصبحت المسألة ظاهرة سوف تستمر لأعوام وليست مجرد مرض عارض.

وقد ظهر أن البطالة في دول السوق الأوربية - الموحدة - قد وصلت إلى 19 مليون عاطل أي حوالي 11% من القوى. وكانت النسبة في عام 10.92% وهو أعلى معدل بطالة تشهده أوربا منذ 1985، بينما نجد أن ذلك المعدل في الولايات المتحدة رغم كل الصراخ والشكوك في حدود 7%، أما في اليابان فهو لا يزيد على 2.3% فقط وهو أقل معدل بطالة في الدول الصناعية في العالم بينما تكاد لا تكون هناك دولة حققت مثل هذا المعدل أو أقل.

والغريب أن تكون الوحدة الألمانية والتي كانت الحلم المستحيل وحين تحقق تصور البعض أنها سوف تكون أكبر عوامل انطلاق أوربا بقيادة ألمانيا فإذا بالوحدة الألمانية تدخل ألمانيا في دائرة المشاكل الاقتصادية والمالية المعقدة حتى أن هناك من يقول إن ما كان يعرف بألمانيا الشرقية قد تعود إلى الانفصال عن ألمانيا ولكن من خلال الانتخابات هذه المرة نتيجة الوضع الاقتصادي..!.

الصادرات في انخفاض

حتى ما كان ميزة لأوربا وهو ضخامة صادراتها أخذ في الانكماش حتى أنها فقدت 20% من حجم صادراتها خلال عشرة أعوام. والمهم أنه في الوقت الذي نجد العالم يسير فيه بخطى سريعة نحو التكنولوجيا المتقدمة نجد أن أوربا بدأت تفقد مكانها في هذا المجال. ودليل ذلك من خلال أرقام صادرات التكنولوجيا المتقدمة فهي تزيد بمعدل 2% بينما واردات أوربا من تلك التكنولوجيا المتقدمة تزيد بمعدل 7.7% سنويا أي أن التوازن في غير صالح أوربا.

وكان يمكن اعتبار تلك المشاكل مجرد أمراض تحتاج إلى علاج لولا أن الدراسات الأوربية العلمية تقول إن إنتاجية العامل الأوربي قد أصبحت أقل من معدلها في الولايات المتحدة واليابان، فإنتاجية العامل ترتفع سنويا في أوربا بمعدل 2.5% بينما هي في الولايات المتحدة 3.5% أما اليابان فهي تزداد بمعدل 4.6% سنويا.

والغريب أنه في الوقت الذي تواجه فيه إنتاجية العامل هذا المرض وهو انخفاض الإنتاجية إذا بالأرقام تقول إنه أعلى تكلفة. ويعتبر العامل الألماني أعلى العمالة الأوربية تكلفة وتأتي بعد ذلك بقية دول أوربا، والنتيجة الطبيعية لهذه الظاهرة هي هروب الصناعات الأوربية التقليدية من أوربا إلى غيرها، ورأس المال لا يعرف لغة السياسة بل لغته هي الربح والإنتاج. وإذا استمر الوضع على هذا الحال فإن أوربا سوف تواجه كارثة اقتصادية.

ويضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات التضخم حتى أنه يصل في اليونان مثلا إلى 14% وهو أعلى معدل تضخم بأوربا وتأتي البرتغال بعدها بمعدل 9% بينما الدانمرك أقلها جميعا بمعدل 1% فقط.

وذلك كله يعني باختصار أن الوضع الاقتصادي في أوربا في حالة انكماش تعبيرا عن أزمة اقتصادية حقيقية. وكلما ازدادت الأزمة حدة تركت آثارها على الوضع الاجتماعي.

وتزداد المشكلة تعقيدا بظهور آثار انهيار الاتحاد السوفييتي على الوضع العالمي حيث انتهت الحرب الباردة واختفت مبررات جوهرية للتوتر العالمي، وإن كانت قد بقيت المشكلات الإقليمية من صراعات عنصرية أو أزمات حدود ورغم كثرتها فإنها غير قادرة على استيعاب حجم الإنتاج الحربي الهائل في دول أوربا والولايات المتحدة. ولذلك فقد واجهت الصناعة الحربية في هذه الدول انخفاضا في حجم مبيعاتها وهو ما ترك آثارا على اقتصاديات هذه الدول خاصة أن الصناعة الحربية كانت تلعب دور المحرك السريع لدورة الاقتصاد.

وأمام محدودية السوق بعد الحرب الباردة وغياب الاتحاد السوفييتي دخل حلفاء الأمس في منافسات، أحيانا تكون غير شريفة لكسب الأسواق للإنتاج الحربي. وكانت النتيجة على حساب بعضهم البعض. وأبرز نموذج على ذلك تلك الأزمة الحادة التي تواجه صناعة السلاح في فرنسا، وزحف حالة الكساد إلى صناعة السلاح في بريطانيا. وليس هناك شك في أن صناعة السلاح بقدر ما كانت تنقذ اقتصاديات هذه الدول من الكساد سوف يساهم تدهورها في تصاعد معدل الأزمة الاقتصادية في كل دولة من ارتفاع معدلات البطالة والتضخم.

والظاهرة الأخرى التي لا بد من الوقوف عندها هي أنه رغم طول فترة التحالف بين دول أوربا وتعدد المؤسسات والمنظمات التي تجمعهم في كل مجالات النشاط فإنه قد بقي دائما عدم اتفاق هذه الدول على سياسات واحدة تجاه العديد من المشاكل. فتعددت السياسات الخارجية بعدد الدول الأوربية وخاصة الرئيسية وهو ما يعتبر من أكبر عوامل عرقلة مولد العملاق الأوربي.

ويكفي توضيحا لهذه الظاهرة الغريبة أن نرى أمثلة للمشاكل التي اختلفت حولها السياسات بل وأحيانا تناقضت المواقف والمصالح. وأبرز هذه المشاكل هو مسألة دعم الحاصلات الزراعية فنجد أنه في الوقت الذي توصلت فيه أوربا مع الولايات المتحدة إلى حل وسط لهذه المشكلة التي هددت واشنطن بسببها أن تدخل في حرب تجارية مع أوربا الحليف الاستراتيجي حتى الأمس. فإذا بفرنسا تعلن إصرارها على استخدام حق الفيتو في داخل السوق الأوربية لمنع الموافقة على ذلك الحل وانتقلت الأزمة من إطار العلاقات الأمريكية الأوربية إلى داخل أوربا نفسها. وهناك الخلاف بين دول أوربا على أسلوب معالجة محنة دولة البوسنة وإصرار بريطانيا على استمرار حظر السلاح إلى البوسنة رغم عدوان الصرب الواضح والعنصري أمام عدسات التلفزيون الأوربي بينما انقسمت الآراء حول استخدام سلاح طيران حلف الأطلنطي في ضربات جوية على الصرب مما أدى إلى شلل أوربي في مواجهة عدوان بالغ البشاعة وفي قلب أوربا نفسها بينما القارة تقف عاجزة عن العمل. وهو ما تكرر وإن كان بدرجة أقل في الصومال والصراعات بين الفصائل المتحاربة ودور القوات الدولية في الأزمة.

والواضح أن أحد أسباب هذا الانقسام الذي يشل الإرادة الأوربية هو طول اعتماد دول أوربا لسنوات طويلة على الدور الأمريكي والقرار الأمريكي فمنذ الحرب العالمية الثانية والدمار الذي لحق بأوربا مع عجزها بإمكاناتها وحدها عن إعادة البناء على الأقل بسرعة فدخلت واشنطن لإنقاذ أوربا من خلال مشروع مارشال لإعادة البناء بعدما تدخلت بقواتها لإنقاذ أوربا من النازية وقد منح ذلك الوضع واشنطن مجموعة من الامتيازات سواء كانت مكتوبة أو وليده الشعور بالحاجة الأوربية إلى الدعم الأمريكي.

وصحيح أيضا أن واشنطن لم تكن تأخذ القرارات منفردة من حيث الشكل بل كانت تحرص قبل إعلان أي قرار على أن تتشاور مع الحلفاء بأوربا ثم تعلن القرار وهي في الواقع لم تكن في انتظار الموافقة بل يكون القرار عادة قد أخذ طريقه نحو التنفيذ وذلك باستثناءات محدودة مثلما حدث في مواجهة العدوان الثلاثي - بريطانيا وفرنسا وإسرائيل - على مصر 1956 حين اتخذت أمريكا موقفا واضحا كان هو آخر سطر في تاريخ الإمبراطورية البريطانية بعد أن غربت عنها الشمس.

في انتظار - واشنطن

وتعودت أوربا مع مرور السنين على أن يكون هناك قرار من واشنطن وأن تكون المسئولية الأولى هناك في البيت الأبيض حتى أن الولايات المتحدة حين ظهرت عندها بوادر الأزمة الاقتصادية في منتصف السبعينيات دعت أوربا إلى أن تتحمل قدرا من أعباء الدفاع عن أوربا وبالتحديد تكاليف وجود القواعد والقوات الأمريكية في أوربا. ومنذ ذلك الوقت وواشنطن تطالب أوربا بالمزيد من تحمل أعباء الدفاع عن العالم الغربي وهو ليس فقط في الإطار الحربي بل بالمعنى الاستراتيجي الشامل ولم تكن أوربا تملك غير القبول حتى ولو لم يكن ذلك على هواها.

وفجأة انتهت الحرب الباردة وانهار الاتحاد السوفييتي الذي كان وجوده العامل الأساسي في قبول أوربا للهيمنة الأمريكية على القرار الأوربي وكان هو حجر الأساس في الموقف الأمريكي بقبول التضحيات من الأعباء للدفاع عن أوربا. وبدأت الروابط الشداد تتراخى. ولم تكن أوربا سريعة الحركة بالقدر اللازم لمواجهة المتغيرات ربما لعدم تصديق أن الروابط الأوربية الأمريكية يمكن أن تنقطع أو بحكم التعود تركت القرار في ذلك لواشنطن ولم تدرك مدلول كلمات النقد الحادة للرئيس الأمريكي كلينتون لموقف أوربا في محنة البوسنة، والتي كانت تعبيرا عن ظاهرة جديدة آخذة في النمو وهي رفع يد واشنطن عن أوربا على الأقل في بعض المشاكل وخاصة إذا كانت أوربية وأنه قد حان وقت " فطام" أوربا عن أمريكا...!.

وجاء خطاب الرئيس كلينتون في سياتل - 19 نوفمبر 93 - ليضع علامة أخرى لعلها أوضح وأبرز العلامات وربما كانت منحنى على طريق العلاقات الأوربية الأمريكية وتغييرا استراتيجيا في السياسة الخارجية الأمريكية. وقد كان ذلك خلال مؤتمر القمة بين واشنطن والدول الآسيوية عبر المحيط الهادي.

فقد قال كلينتون إن العلاقات الأمريكية الآسيوية هي مجال المستقبل للقرن القادم، وذلك قد يؤخذ على محمل المجاملة أو المبالغة، ولكن قول الرئيس الأمريكي إن الاتجاه إلى آسيا ضرورة، وإن ذلك لا يعني الابتعاد عن أوربا فهي سوف تبقى الحليف. فالتعبير والمقارنة يلفتان النظر.

فنفي أن التوجه نحو آسيا سوف يكون على حساب أوربا هو في الواقع نفي النفي، أي تأكيد، ولفت الأنظار إلى أن أوربا لم تعد هي الهدف الأول للاستراتيجية الأمريكية. وهي مسألة طبيعية تفرضها التغيرات التي ترتبت على انهيار النظم الشيوعية في أوربا الشرقية وانتهاء الحرب الباردة.

شرخ بين واشنطن ولندن

ويكفي أن نرى ذلك الشرخ الذي حدث بين واشنطن ولندن بعد أن كانت العلاقات بينهما قد بلغت من الكثافة إلى حد يبدو كأن بريطانيا لا يمكن أن تتنفس دون أن تتشاور مع واشنطن وأن واشنطن حريصة على الحصول على التوقيع البريطاني على سياساتها في أي مكان من العالم. ومن الخطأ تصور أن ذلك الشرخ حدث نتيجة خطأ من جون ميجور رئيس وزراء بريطانيا بعد أن كانت تاتشر رمزا لتعاون واشنطن ولندن. فالواقع أن المسألة تطور طبيعي تفرضه الأحداث، ولا دخل للأشخاص به مهما كان قدرهم.

وتجدد التوتر الذي كان يهدأ أحيانا وينشط أحيانا بين واشنطن وباريس حتى أصبح تبادل النقد حتى على مستوى القمة بين الدولتين أمرا مألوفا.

والحقيقة أن الأزمة الاقتصادية في كل من الطرفين، أوربا من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، هي المحرك الحقيقي للبعد والخلاف بين الطرفين. فحين تصاعدت الأزمة الاقتصادية اتجه كل طرف للبحث عن حل حتى لو كان على حساب الطرف الآخر. وذلك قد لا يكون غريبا أو يمكن التخفيف من نتائجه إلا أن الأهم والأخطر هو أن أيا منهما لا يستطيع أن يساعد الآخر للخروج من الأزمة. فالسوق الأوربية لا تستطيع أن تستوعب الإنتاج الأمريكي الكبير الضخم، خاصة أن هذه السوق تحتاج إلى تصدير إنتاجها هي الأخرى والسوق الأمريكية لن تكون هي المنقذ. ونتيجة هذه المعادلة الصعبة لم يكن أمام أي منهما للخروج من أزمته سوى البحث عن أسواق في العالم، وذلك البحث كان لا بد أن يخلق منافسة حادة بين الطرفين على كسب هذه الأسواق. وتلك المنافسة، خاصة وهي تزداد عنفا وحدة وضعت التحالف الاستراتيجي القديم على رف ثلاجة الزمن لعل وعسى..!.

وكان طبيعيا أن تكون آسيا هي مركز المنافسة بين الطرفين لأنها نقطة التطور والنمو في العالم حيث يتحقق هناك أعلى معدلات النمو على صعيد العالم كله وبعد أن كانت هناك ثلاثة أو أربعة نمور وهي الدول التي تحقق أعلى معدل نمو أصبحت معظم دول آسيا نمورا بينما إفريقيا مازالت في حالة من الفقر والجوع إلى جانب عدم الاستقرار.

وهكذا يبدو أن التوجه الأمريكي نحو آسيا هو توجه حقيقي وأن أوربا تفقد مركزها المفضل في الاستراتيجية الأمريكية.

ومع اجتماع كل هذه العوامل الضاغطة على أوربا أصبح يقينا استحالة ولادة العملاق الأوربي على الأقل خلال التسعينيات من هذا القرن وربما كان الأقرب أن يأتي العملاق آسيويا..!.

 

سامي منصور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات