الصوم تشريع لم يستغن عنه الإنسان يوما إبراهيم نويري

الصوم تشريع لم يستغن عنه الإنسان يوما

إنها وقفة مع الشهر الكريم نرى فيها كيف نشأ الصوم وما هي مكانته لدى الأمم والمذاهب والأديان القديمة وكذا أهمية هذه العبادة في الإسلام.

يرى كثير من علماء الإسلام وفقهائه أن المسائل الدينية البحتة كالمناسك المختلفة والشعائر التعبدية سواء منها الموسمية أو المرتبطة بحياة المسلم اليومية، لا ينبغي فهمها أو تمحيص تفاصيلها وما يرجح فيها من آراء إلا في مظانها الأصلية، كأمهات كتب الشريعة أو بالرجوع المباشر إلى أهل الذكر من العلماء والفقهاء المتخصصين.

والواقع أنه وإن كان هذا هو الأصل في كيفية التعامل مع الشعائر التعبدية لجلالها وارتباطها بعقيدة المسلم، إلا أننا نرى أن التذكير بها في مواسمها ومواقيتها على صفحات وسائل الإعلام المختلفة وضمن الأثير المسموع والمرئي هو كذلك خدمة جليلة القدر لا تقل قيمة وأهمية إطلاقا عن المظان الأصلية، بل هي تفوقها وتتقدم عليها، من حيث سرعة التبليغ وإعلام المكلفين بما يجب عليهم فعله أو تركه حيال سائر الشعائر التعبدية.

ونحن إذا أردنا تقصيّ المعنى اللغوي لشهر رمضان فإن المشهور في لغة العرب أن الشهر مشتق من الاشتهار وهو الظهور، يقال شهر الأمر أي أظهره، وشهر السيف استله، وسمي الشهر شهرا لشهرة أمره، لكونه ميقاتا للعبادات والمعاملات، فصار مشتهرا بين الناس، ورمضان: من الرمض أي شدة وقع الشمس، والرمضاء شدة حر الشمس، ونقول: رمضت الغنم أي رعت في الرمضاء فقرحت أكبادها، وقيل سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، قال الزمخشري صاحب الكشاف: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام الرمض، أو الحر الشديد فسمي رمضان "تفسير آيات الأحكام للصابوني، ج1، ص189، 190".

وكما يقرر القرآن الكريم فإن جميع المصادر الدينية والتاريخية تثبت أن الصيام ليس بأمر مستحدث في الإسلام، وإنما كانت معظم أمم الدنيا تعمل به، ولكن مع فوارق وبواعث اعتقادية مختلفة في هذا العمل، إذ من المعروف أن الصوم وجد في جميع الملل حتى الوثنية منها، فهو معروف عند قدماء المصريين، وقد انتقل إلى اليونان فكانوا يفرضونه لا سيما على النساء، وكذلك الرومانيون كانوا يعنون بالصيام، ولايزال وثنيو الهند وغيرهم يصومون إلى الآن، وليس في أسفار التوراة التي بين أيدينا ما يدل على فرضية الصيام، وإنما فيها مدحه ومدح الصائمين، وثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يوما وهو يدل على أن الصوم كان معروفا ومشروعا ومعدودا من العبادات، واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعا تذكارا لخراب أورشليم وأخذها، ويصومون يوما من شهر آب، وتذكر بعض المراجع أن التوراة فرضت عليهم صوم اليوم العاشر من الشهر السابع، وأنهم يصومونه بليلته ولعلهم كانوا يسمونه عاشوراء، ولهم أيام أخر يصومونها نهارا.

أما النصارى فليس في أناجيلهم المعروفة نص في فرضية الصوم وإنما فيها ذكره ومدحه واعتباره عبادة كالنهي عن الرياء، وتوجد إشارة إلى أن الصائم عليه أن يدهن رأسه ويغسل وجهه حتى لا تظهر عليه أمارة الصيام فيكون مرائيا كالفريسيين، وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وعيسى - عليهما السلام - وكذلك الحواريون، ثم وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام، وفيها خلاف بين المذاهب والطوائف النصرانية، ومنها صوم عن اللحم وصوم عن السمك وصوم عن البيض واللبن.. وغير ذلك، وكان الصوم المشروع عند الأولين له وجوه مختلفة، فاليهود كانوا يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة، فغيّروه وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار "تفسير المنار ج 2 ص 144".

وصفوة القول أن الصوم - وإن كان يعني الامتناع عن الأكل والشرب والشهوة - فهو عادة وعبادة قديمة، ربما ظهر بظهور البشر والحياة على وجه البسيطة، بيد أن صيغته وضوابطه وكذا البواعث عليه تختلف من أمة لأخرى بحسب الأديان والعادات، أو بحسب التكاليف والتقاليد.

الصوم في الإسلام

أما الصوم في الإسلام فهو يعنى حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، فالجوع والعطش يكسر من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، ويحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحها، فهو لجام المتقين وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته.

وقد تأخر فرض الصوم بعض الشيء بخلاف الصلاة وذلك لثقله على النفس، يقول ابن القيم: "ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج، وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد صام تسعة رمضانات، وفُرض أولا على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعم عن كل يوم مسكينا، ثم نُقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم" (زاد المعاد ج 2 ص 29).

ومما لا شك فيه أن للصوم في الإسلام أهدافا وأغراضا أخرى، يختلف بها ويتميز عن الصوم في الأديان والمذاهب القديمة، خاصة إذا علمنا بأن الإسلام لا يهدف في سائر العبادات إلى قصد تعذيب الجسد، كما هو الأمر في البوذية والبراهمية وغيرهما من الملل والمذاهب، أما العبادات في الإسلام فترتبط بفلسفة خاصة وبتصور أسمى يرتبط غالبا بتزكية النفس وتطهير الروح، وخلق العلاقات والوشائج الاجتماعية المتوازنة.

الحكمة من الصوم

أما بخصوص الحكمة من العبادات والشعائر الإسلامية، فإن علماء الإسلام وفقهاءه قد انقسموا إلى فريقين، فريق يقول بعدم إمكان إدراك عقولنا المحدودة للحكم والأسرار التي أودعها الله سبحانه في العبادات، ومن ثم فإن الأولى في هذا الأمر - حسب هذا الرأي - إنما هو الخضوع لمراد الله، وتنفيذ أوامره، والوقوف عند حدوده، وفريق آخر لا يرى حرجا في البحث العقلي عن أسرار العبادات والحكمة منها، ولعل التوسط بين الرأيين هو الصواب، إذ إن معرفة الحكمة في كل شعيرة أو عبادة لا يمكن أن يفسد أو يؤثر على جوهر العبادة، فنحن نتعبدالله تعالى عن طريق الدليل الذي يتضمنه الأمر التكليفي الإلهي، وليس عن طريق الوقوف على إدراك الحكمة أو السر في كل عبادة من العبادات.

كما أن الوصول إلى بعض الحكم والأسرار العقلية في سائر العبادات الإسلامية قد يسهم في خدمة الدعوة الإسلامية، وتوسيع دائرة الامتداد الجغرافي والإنساني لهذا الدين.

ذلك أن العقل البشري تستهويه مثل هذه النتائج الحسية مما يرتبط بصحة الإنسان، أو بما استعصى علاجه من العلل، أو بما يلتمس منه مأمولا واقعيا في إصلاح سلوك فردي أو اجتماعي أو ما شابه ذلك وهو كثير.

وبالنسبة للصوم فقد تحدث علماء كثيرون مسلمون وغير مسلمين عن فوائده، وما يمكن أن يجنيه الإنسان منه من مكاسب، يقول الأستاذ المرحوم فريد وجدي: كان الناس إلى زمان قريب يحسبون أن الصيام من الشئون الخاصة بالأديان، ولكن يكد ينتشر تاريخ الطب بين الناس، حتى علموا أن الصيام قد اعتبر في كثير من الأمراض من مقومات الصحة الجسمانية، كما علموا من عهد أبقراط أنه عامل قوي من العوامل المنقية للجسم من سموم الأغذية، فإن الأغذية التي نتناولها بشراهة تحتوي على مواد دهنية، ومواد رباعية العناصر، لا تطيق البنية البشرية أن تختزن مقدارا يزيد على الحاجة منها، وإطلاق الحرية للإنسان يجعله يتناول كل ما يقع تحت يده، وكثيرا ما يصاب بسبب هذه الحرية بآفات مرضية، تكون وبالا عليه، والصوم ذو تأثير بالغ في تخفيف الأعراض التي تنتاب الأعضاء الظاهرة والباطنة، وتحويل محمود في حالة المريض يقوده إلى التخلص من الآلام والانحرافات، وحصة الروح من هذا التحويل لا تقل قيمة عن حصة الجسم، وقد استفاد الطب من ناحية الصوم، ما لم يستفده من ناحية العلاج بالعقاقير، ولكن أكثر المسلمين لا يأبهون كثيرا بالمستقبل، ولا يحسبون حسابا للشيخوخة.

والذي يبدو لنا في هذا الخصوص أن للصوم - في الإسلام - حكما أخرى أكثر أهمية حتى فيما يتعلق بالجانب الطبي والصحي، فالصوم يهذب النفس البشرية ويلطف المشاعر ويسمو بالروح وهذا بدوره أمر بالغ الأهمية من حيث انعكاساته على السلوك فتقوى وشائج القربى بين أفراد المجتمع الإسلامي، ويتذكر الغني الذي فتح الله عليه من فضله، أحوال وأوضاع إخوته الفقراء ممن يعيشون الفاقة، ويتطلعون إلى مساعدته وإسهاماته، وهكذا تتكامل الجهود وتقوى روح التكافل الاجتماعي، وتتحقق الخيرية والمودة بصفتها قيمة أصيلة من قيم هذا الدين.

وهكذا، فإلى جانب الفائدة التي يجنيها جسم الإنسان بالصوم مما يكون له الأثر الطيب والنتائج الحسنة على صحة الإنسان وعافيته، فإن الصوم يحقق أيضا أعظم الآثار نفعا على مستوى الروح والإيمان، لأن الصائم يكون مشدودا ومتعلقا أكثر بخالقه ورازقه، ومن ثم يكون مدفوعا بتلقائية يسندها الإيمان، إلى فعل الخير، والمساهمة الواعية في سد الثغرات الاجتماعية، عن طريق مراعاة أحوال الآخرين، ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين والفقراء من ذوي العوز.

كما أن الصوم يكون فرصة ثمينة لدى كثيرين يراقبون فيها أنفسهم، فيعدلون من بعض سلوكياتهم أو معاملاتهم، وهو مكسب ثمين قد لا يتحقق في غير رمضان.

إن الصوم نعمة وهداية ومنّة إلهية إلى بني البشر، وهو وإن يكن قد أفاد الإنسانية في مختلف مراحل تاريخها، إلا أن تلك الفائدة لم تبلغ العظمة والكمال إلا بتشريع فريضة الصوم في الإسلام.

 

إبراهيم نويري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات